Ishtar


 

 

 

الضوء الأسود

  

هاري موليش

  

ترجمة: انتصار الغريب

  




مقدمة

تعتبر رواية 'الضوء الأسود' من أروع ما كتب الروائي الهولندي العالمي 'هاري موليش' ، تقدم رؤى خيالية حول نهاية محتملة للعالم في تصوير عابث وحكاية تتم في يومين فقط بدون فلاش باك ، لم يستخدم الكاتب في تصوير حواراته الطويلة شخصيات كثيرة ، لكنه تغلغل في تصوير تفاصيلها الدقيقة الخافية والثغرات التي تتميز بها مع يأس مأساوي طاغي لبطل الشخصية آكلي الذي لايجد مناصا للخروج من المتاهة سوى إقامة حفل لعيد ميلاده يجمع فيه أصدقائه القدامى بكل تناقضاتهم وإيجابياتهم .

يتألف الكتاب من سبعة فصول تحمل مضامين مختلفة من أهمها : زنجي حقيقي ، بإمكانك المجيء ، الروح التي إنتصبت حتى الموت، بئر لانهاية له ، الإستاد الرياضي تقدم معاني مختلفة حول إضمحلال العالم ، الدمار ، الزمن وتأثير الماضي على الحاضر ، غامر الكاتب جاهدا الوصول الى لغة الواقعية التجريدية بكل جمالياتها السحرية ومفرداتها التعبيرية وتعتبر من مدارس الأدب الهولندي الجديدة .

يبدأ الكتاب بتصوير شخصية الزنجي الذي يدمر حياة آكلي بأكملها ، بعد دعوة صديقة آكلي لحفل عسكري ثم تتعاقب اللحظات وتنتهي حبيبته نهاية مأساوية غامضة ،تمر به السنين ويعاني الأمرين من الوحدة والألم من فقدان حبيبة العمر ، لدى بلوغه السادسة والأربعين يقرر إقامة حفل لعيد ميلاده ، يدعو إليه أصدقائه القدامى من أبرزهم الثري أليكس كيتيلار ، الطبيب العالم بولاردس المهتم بدراسة الكون والشعر الملحمي، الراهب سبيلايسترا ، كيتيلار مدير مصانع الآلات وصديق الطفولة ، السيدة هينيكس صاحبة المنزل وعاشقة له . يتخيل آكلي أفول الشمس وإقتراب الضوء الأسود وفقدان الإنسان لمعنى وقيمة الحياة، معللا ذلك بالعبث الوجودي والتناقضات الإنسانية. يقرر الضيوف بعد أفول ضوء الشمس مغادرة الحفل واحدا تلو الآخر ، يشير الضوء الأسود إلى إضمحلال العالم أو هاوية مؤكدة تنذر بسقوط البشر في أعماقها ، تلك الهاوية رمز لها بالشمس السوداء ، أو اللاجدوى الإنسانية وهي تعبير عن كآبة الإنسان العابث بالمصير، العاجز عن فعل شيئ عندما تلم به الظروف السيئة ولايجد من مناص سوى الإذعان لقدره في عالم من الهلوسات والإضطرابات لايعرف طعم الإستقرار .

يتميز الكتاب بوجود فترات زمنية متقطعة لاتعتمد التسلسل التاريخي للأحداث ، كما تمتاز كل محطة بمواقف إنسانية مختلفة ، مع إصرار البطل على العيش رفم فقدان حبيبة العمر و هناك الوحدة التي تهدد حياته ، يطرح كل فصل معنيا روحيا هاما في حياة البطل بدون إعتماده على السلسلة الزمنية المتسقة ، على سبيل المثال ذكريات من زمن الدراسة وظروف علاقته الروحية بماريولين التي صورها الكاتب بكل روعة وجمال رغم خيانتها للبطل في نهاية المطاف، بالتالي لم تخرج الأحداث عن سياق القصة الرئيسي وظيفتها تتلخص في توطيد الإحساس بالماضي ، الحنين الى الحب ، الوحدة وآلامها . يستيقظ آكلي فجأة بصورة ملفتة للنظر ويعتقد بأن هذا اليوم يصادف عيد ميلاده ثم يعود للنوم مرة أخرى ترحل به الذاكرة إلى عمر الثالثة والعشرين عندما فقد صديقته ماريولين في حادث أليم ، في النهاية ينسى العالم وتلك نهاية محبكة بحيث لم تكن هناك مقدمة أو خاتمة، وصور الكاتب بطل الرواية على أنه راوي عليم ببواطن الأمور .

تركز البنية السردية على موضوع الزمن ، حيث تقع أحداث الرواية في يومين فقط هما 20 و21 أغسطس من عام 1953 ، أحد الحوارات على سبيل المثال تدور إبان دراسته الأولى ،حيث يصف علاقته بالجميلة ماريولين وتجربة خسارتها ، هناك زمن النبوءة المتخيلة المحتملة ، حيث لايوجد ترتيب زمني متسلسل فهناك إستحضار دائم للماضي ولم تلعب التخييلات الزمنية دورا رئيسيا في الرواية إكتفى بتصوير ماحدث دون أن يقدم ترتيبا معينا لها ، كما صور الزمن عندما يلتهم الحياة ، فتصبح الكنائس تاريخا للكنائس والمباني تاريخا للمباني ، هذا الإحساس بالتأثر والتداعي وتكرارهما يرسم لنا إنطباعا بأن الشباب لن يدوم للأبد ، ولابد للإنسان أن يفنى ذات يوم .

ظل إسم المكان لعبة الكاتب وجعل القارئ في حيرة من أمره لايدري أين جرت الأحداث هل هي في أمستردا أم في مكان آخر ، أما الأماكن الأخرى التي وصفها الكاتب فهي الكاتدرائية حيث يعمل آكلي دقاقا للأجراس الموسيقية ، الشارع ، منزل صديقته أيام الشباب ، غرفته حيث يعيش وهي عبارة عن مكان صغير وقديم ، لم يذكر تفاصيل كثيرة حول الكنيسة لكنه وصف السلم المؤدي إليها ، بأنه ضيق وملئ بالأسوار الحديدية و خيوط العنكبوت أما الظروف الجوية فلعبت دورا غير هاما ، إستثمرها فقط لتوضيح بعض الملابسات والظروف المحيطة ببعض المواقف التي حدثت في حياته . تولى الكاتب منذ البداية مهمة الراوي والعراف سويا وإستخدم أسلوبا كتابيا معقدا، عبر إستخدام حوارات شيقة تميز بها موليش في جميع كتبه ، لكن مقارنة برواياته الأخرى ، غابت الجمل الطويلة المعقدة و غير المفهومة ، كتب رواية الضوء الأسود عندما كان كاتبا غير معروفا ومنه إنطلق الى عالم الشهرة حاصلا على جائزة 'باينكورف ' المعروفة .






(1)

زنجي حقيقي

في ذلك الوقت، بنفس اليوم عندما كانت المدينة هائجة ... عاوده التفكير مجددا، لكن بدون أن يندهش ، إستيقظ مورتيس آكلي في الساعة السادسة من صباح يوم 20 أغسطس عام 1953. فتح عينيه... قلص عضلاته وبقي ساكنا وهو مستلقي على الفراش ، في أرجاء المدينة لازالت أصوات أجراس الأبراج تدق ، مندهشا و متماسكا ذهب ليجلس، ثم حدق بالساعة على الكرسي قرب السرير . المؤشر الصغير للأسفل يشير لليمين والمؤشر الكبير للأعلى ، في تلك الساعة قبل ستة وأربعين عاما ولدته أمه.

قطب وجهه ثم بدأ يسعل ، حك لبرهة شعره الأشيب الكثيف الجذاب . بعدذلك ذهب مرة أخرى للإستلقاء ، كمش بحركات خليعة البطانيات حول ذراعيه ثم حدق هنيهة بألواح السطح المائل ، حيث تطايرت أثناء ذلك ،في كل مكان للأسفل أنصاف أوراق صحف متآكلة بنية وهائجة ربما كان إحتفالا ، تمتم فجأة ثم ضحك هنيهة ، ضحكة مسموعة قصيرة ، أطلق زغطة و سقط في النعاس مرة أخرى . تدلى فمه قليلا وهو مفتوحا ، حتى بدت وجنتاه على غير العادة هرمتان وهزيلتان ، في هذه اللحظة شهق ثم أغلق النافذة ، أزاح البطانيات جانبا. كان متضايقا وكئيبا ، تبدو البطانيات بنقشات الخيول من حوله ممزقة ومليئة بالثقوب . في حجرة السقف الصغيرة التي تقع تحت سطح المنزل . كانت توجد أشياء كثيرة مبعثرة رثة الهيئة . من بين المفروشات كانت تظهر خزانة أطفال قديمة الطراز بزوايا عالية ، ملابسهم ملقاة بالكامل، بالاضافة لذلك توجد طاولة مطبخ بمعدات الطعام ، أشياء مختلفة مبعثرة، للأسفل يوجد صندوق ومدفئة نفطية صدئة. في الخارج خلف الزجاج الممسوح بعناية والمنشطر لنافذة السطح المائلة ، حيث ترى السماء فقط أظلمت بعض الوقت ثم أمطرت . كان الجو كئيبا ، فجأة جلجل صوت الرعد قويا .

تأوه آكلي متوجعا وبدأ فكه السفلي يرتجف خوفا ، بينما إرتشف الهواء للداخل محدثا ضجيجا. منذ لحظات حدث شيئ أشبه بالسحر ، بالنسبة إليه كل شيئ سيان ، لايبحث عن أحد ، و لاأحد يبحث عنه، لايزال شابا . يبدو سيئ الطالع وعملا مدبرا ومتكاملا . من شدة إعجابه بنفسه ، أخذ يقلد حركات ولي عهد الكونغو ثم انفجر ضاحكا . ذو شفاه سوداء ممتلئة ، مرتديا مئزرا ملونا متشققا ، بشمسية وقبعة عالية، مشى بإستدارة مثل زنجي حقيقي ، حتى مسك الناس من حوله على بطونهم من البهجة والسعادة
كان عيدا مفعما بالرحمة وحافلا بالمعاني حتى الأفق ، الشمس دافئة وحنونة ، أشبه بسيدة العالم ، حيث السكون الهادئ والسلام المطبق على الأرض مع كل رضا وإمتنان البشر . فجأة تمايل كل شيء للأعلى والأسفل ثم إنطلق بسرعة ، مع هبوب عواصف رياح شديدة ، ينبعث ضوء ملوث ، ثم سقوط صاعقة . في الحال لجأ الى صالة كبيرة بستائر سوداء خضراء قاتمة ، حيث ينتظر بجدية وكراهية شديدة تنفيذ حكم الاعدام . هائما في الحقول أعلى أسلاك التلغراف ، هرب مثل طائر ، ينعكس فوق بطنه بريق ضوئي أحمر بلون الدم ، مشى متأففا ، شاب محكوم عليه بالاعدام ، جسد مجهول مقابل جسد ، ثم حدث التالي : طريق مقدس ، حشد مهيب يندفع متجمهرا في ميدان الملكة ، الطريق المقدس ، غنى بنشوة وابتهاج غامر : الكاهن الأب .. الكاهن الأب ، ثم كتب: تدافعوا نحو الداخل ، مسؤولين ، جنود الفرقة ، مدنيين ، طيور النورس ، رياح وسحابة دخانية أوربية ،
كم أنا شخص غير محظوظ ، أشعر بالألم والأسى .
- على أية حال إبتكر فيكس يوتس نظاما للأمن .
- إنها مخلوقات شاردة ، تعيسة ، هائمة على وجهها متعرقا من الإنفعال ، أغلق آكلي عينيه ، هل ياترى هو في حلم أم علم ! بالتأكيد حلم . ظل مستلقيا ثم قفز متوحشا من فراشه ، باحثا ، يحب أن يفتش عنها ، كل شئ من حوله ، كرسي وطاولة ، إرتجف فجأة من الانتظار مع توجس داخلي ، مندفعا بشدة الى الخارج ثم ركض عبر التلال الى خطوط السكك الحديدية . بسرعة شديدة وصل قطار الديزل قادما من الغابات ماثلا للعيان ، من الجانب الآخر لخطط السكك الحديدية، هرولت إمرأة شابة طويلة ترتدي ثياب عروس ثم مشت بغرابة مائلة بجسمها للخلف كما لو أن الريح نفختها ، زمجر القطار ، بدا مؤكدا بأنه لن يستطيع اللحاق به ، وهو غاضبا أخذ يطلق بعض الإشارات ، لكن بدا ماثلا للعيان بأنه لن ينتظر ، تسلق سريعا المواسير العلوية والكابلات المعطلة ، أمسك بها وهو متشنجا . حينئذ إهتز القطار أسفلها ، فقد توازنه وتدحرج رأسا على عقب ، مشوشا بين الأسلاك ، مكهربا ، محتميا ، معتقدا بأنه قد تكهرب فعلا .

إستيقظ مشلولا من الصدمة .... الموت ، فكر هو . الأحلام مخيفة ...... النائمين مخلوقات وسيطة و مساندة لما يحدث في العالم . ياترى من قال ذلك ؟ إرتعب البعض من الناس الذين يمرون أمامه ، لكنهم تجاوزوه . أقدام في كل مكان .... على الفور وقف مسرعا ، أزاحوه معهم من المنتصف ، ضغط بين جسدين ، ظل محاصرا بسبب صراخهم، يجب أن يمشي معهم شاء أم أبى . كان الشارع ضيقا ، لكنه لم يرى مثل هذا الجو الجميل أبدا . الأجمل من ذلك عندما نشبت الحروب . تبدو من مسافة بعيدة غابة . أف .. أف ، صرخ أحدهم .

- في تلك اللحظات قارب الإحتفال على النهاية .لكن لماذا تبدو الأشجار متشققة بكثافة أكثر من أي يوم آخر . فجأة بدأ يلهث محاولا لفت الأنظار .
- أنظر! نادى وهو منفعلا ، لكن لم ينصت إليه أحد . كان النصف العلوي من تاج الملك مغطى بطبقة كثيفة منخفضة من الثلج ، لون أبيض ساطع في الشمس . دموع تتساقط من المآقي ، هكذا بدت جميلة ،يتوسطها الأخضر .

- بقدر ما وأذرعه نحو الخارج ، تأهب لاحقا في غرفة صغيرة ذات زجاج مهشم ، رويدا..رويدا مشى وهو منحنيا حول التراس المحيط بقمة البرج . لايزال يبكي أشرقت الشمس لكنها في العمق لم تضيئ الظلام .
- ياترى أين ستشنق ماريولين!
تمتم وهو حزينا . و ينفث بأسلوب غريب وهو مرتجفا ، ضرب آكلي البطانيات حوله تاركا الهواء يتدفق حول جسده . لايزال حلمه معلقا منذ أمد بعيد ، لكنه تلاشى ، نزع قميصه ومسح العرق المتصبب من صدره ، هنا كان الشعر أبيض تماما . توقف المطر ، في الغرفة لايزال هناك بصيص ضوء شاحب . كانت الساعة تشير إلى الثامنة والنصف ... لايزال متضايقا ، لم يصاحب الرعد أية ضوء ،في تلك اللحظات بدا آكلي في تلك اللحظة أشبه بفتى قوي نهض من الفراش وترك حوض الغسيل ممتلئا ، بينما كان منسوب المياه الجارية يرتفع، شعرسريعا بصوت بهيج
مقبلا .
- سوف أدعو بعض الناس ، فكر هو ، يجب أن يقيم إحتفالا . بواسطة فكه داهمته رغبة لاشعورية غير مفهومة بضحك مدوي ، بدأ يغسل بفورة من التحدي ، فجأة وضع رأسه حتى عنقه في حوض الغسيل ، تحرك هنيهة حتى لامست الأمواج الباردة وجهه بلطف . وبدأت الدماء تتدفق في عروقه ، ضغط ثقيل في عظام جمجمته، لاحقا أخذ بالتقلص في رئتيه . تخيل بأنه أصيب فجأة بالشلل. منقطع الأنفاس ومتألقا سحب رأسه ، تسربت بعض المياه الى الداخل، شعر بدوار وسعال وأخذ يتمايل أمام المرآة .

- كيتيلار، فكر في نفسه ، كيتيلار سوف أسأله ، نجح في حياته ، مثلما ينجح أي إنسان آخر . سحب نفسا عميقا ...إنسان آخر . نسبيا لايلاحظ الناس مثل تلك الأمور ، عطس آكلي . وبدأ يضحك بصوت مرتفع ، همس له شيئ ليس له علاقة بالبهجة والسرور داهمه صداع ،إستحوذ عليه .

- ماهو التالي ؟رجلان مشغولان بالتحضير لإقامة إحتفال ، هيا إذن ، بطبيعة الحال يوجد هناك بعض الناس ، الذين يستطيع دعوتهم . بينما كان ينظف أسنانه ، فكر للحظة ، إستدار ثم إندهش فجأة عندما رأى وجهه في المرآة ، الرغوة على شفاهه ،
مستغربا مع نفسه: إنك لاتعرف أحدا .

- بدأ في الحلاقة وهو مستعجلا ، فجأة تلاشت رغبته بالضحك . إرتجفت يده بفترات متقطعة ، حتى سالت الدماء منها ، وتدفقت تدريجيا ، فكر وهو ينفث الصابون من فتحة أنفه . سبلايسترا مجددا ! ، حاول إستطلاع الأمر فيما بعد . ها...ها، بطبيعة الحال . سبلايسترا لن يأتي لكنني على أي حال سوف أسأله ، فجأة وهو مكتئبا ، إستند كليا وإرتدى ملابسه ، في تلك اللحظة تناول بعض الخبز .

- دورنسبايك شعر بنفسه ، هو 'دورنسبايك' سوف أسأله ، ياإلهي سوف لن يلومني مطلقا ، بأنني لم أدعوه إلى حفلتي، البيت يعج بالناس ، مليئ بالهمهمات حتى النهاية ، الكريستال والأزياء الرسمية ، أضواء وبهجة ، أصوات القيثارات ، الضحكات ... بقميصه العسكري ذو اللون الأخضر البني ، عقد ربطة عنقه ذات الزر الأبيض.

مرتديا معطفه الخارجي ، تفقد غرفته ، كانت صغيرة ومكتومة ، لايزال الهواء العتيق المتسلل من المدفأة النفطية عالقا فيها طيلة العام ، أصدر رائحة كريهة أثناء النوم ، إستنشق مادة من درج الكومودينو، إنتابته مجددا نوبة عطس . للفور بدأ في تنظيف
جميع الأشياء ، سحب برفق فراشه ثم حشر الأشياء المبعثرة في خزانة الطفل .
لاهثا ومنقطع الأنفاس... نظر حوله.

- اللعنة ! شتم ، عندئذ تجاوز الكرسي وخرج من الغرفة ، ثم أغلق الباب بشدة خلفه .
- بحق السماء ، ماذا يجب أن أفعل بهؤلاء الناس؟ سأل نفسه وهو يمشي على السلم المعتم ، ظل متسمرا فوق أحد السلالم . إنتظر ، قال في نفسه يستطيع أن يسأل بولاردس ! منذ أن سكن هنا لم يأتي لزيارته أحد قط ، سوف يكون إحتفالا كبيرا ، قال في نفسه وهو راضي ، ولكن لماذا ؟ قطب حاجبيه ثم ضحك . كيتيلار ، بولاردس، سبلايسترا ، دورنسبايك . ظل هنيهة واقفا عند فسحة المنزل ، لدغ عينيه محدقا ، ثم لوح برفق ، سيد مورتيس ! سيد مورتيس ! صوت مالكة المنزل . أقبلت على الفور من
مطبخها وهي منفعلة ، تحمل سكينا بإحدى يديها وفي اليد الأخرى فليفلة مقطوعة .

على الرغم من الشيب الذي غزا شعره لايزال يتمتع بشباب إستثنائي ، أو كما يقول الناس : وجه إنساني مألوف، خصوصا عندما يضحك : ضحكة طفولية طاغية ، بدون تحفظ . لكن لاتزال تلك الثقة ، تملي عليه بغتة شعورا بالاكتئاب وخيبة الأمل ، و
أحيانا الإحباط شك واضح جلي ، هذا ما ينطبق عليه عادة! ربما يضحك أحيانا من صعوبة تحمله . ربما زوجها وطفلها ، قبل سنوات خلت وقع لهما حادث أليم ، بينما كان يضع إبنه خلف الدراجة ، تصادف مرور الترام وحدث ماحدث وفارقا الحياة سويا ، ثم قررت الأسبوع الماضي تأجير الغرف للسيد مورتس آكلي وإثنان من العمال أثناء قضاءها الاجازة ، قرب مستودع ألماني قديم يقع على الشاطيء .

سيد مورتس: سمعتك مقبلا على السلالم ، هل تعلم في أي يوم نحن؟ 20 أغسطس عام 1953 ، هل تعلم في أي يوم تحديدا ؟ كانت تقف بالقرب منه . نعم ، أعلم بالتأكيد . قال مندهشا ، ولكن كيف تعرف ..
- آه ، من المؤكد بأن الجميع يعرفون ذلك ، سيد مورتس .
- الجميع؟ في أي من الأيام نحن ؟ أنت تعرف أيضا ! صاحت المرأة ورأته مرتبكا . وهي تمسك سكينا بيدها ، جذبته جانبا ثم صفرت : اليوم نهاية العالم ، سيد مورتس ..
- نهاية العالم ، سيد مورتيس . اليوم 20 أغسطس 1953 ، نلتزم بتكهنات الهرم الأكبر ، يوجد مدخل في الهرم ، على هيئة سلم ، ويتطابق كل سنتميتر مع الآخر . سيدة هينيكس هل تصدقين
مثل تلك الأمور ؟ فجأة شعر مجددا بإكتئاب أو كأن شيئا يشده بقوة ، تمنى أن يمشي نحوها . ترك عينيها تهبطان ثم حدق في أزرار ربطة عنقه .
- اذا كنت قد عايشت ما صادفته من وقائع ، هل تصدق ذلك ! مرطبا شفتيه نظر الى صدرها القوي . أعتقد بأننا يجب أن نواصل العيش مهما حدث أو كأن شيئا لم يكن ، تحديدا اذا كنا نؤمن بذلك . الآن يجب أن تعذريني ، أنا ... يجب أن أغادر.
حاولت السيدة هينكس أن تبقيه قدر الإمكان .
- هل تعتقد بذلك !
- سوف أقوم بالعزف في الساعة الثانية عشر .
- نعم ، فجأة قالت السيدة هينكس وهي مبتهجة .
- نعم ، يجب أن تعزف جيدا ، أفضل ، بكل ما تستطيع من مهارة . وسوف أستمع إليك كما أعتدت دوما . سوف أذهب للخارج ، للأعلى كي أتمعن بالنظر وسوف أستمع اليك . المدينة بأكملها يجب أن تستمع إليك ، إنها المرة الأخيرة . سوف تتساقط دموع الجميع ويسترجعون ذكريات حياتهم الماضية ، إنقضى كل شيئ اليوم . خرجت الدفة من أيدينا ، اليوم نحن لوحدنا ، سيد مورتس. يجب أن نسلم بالأمر ، أصابعك .. أصابعك يجب أن تكون مثل أصابع ملائكة . واذا صدر القرار الإلهي ، سوف... سوف أبذل ما بوسعي ، قال آكلي بهدوء أكثر من أي يوم آخر . سوف أقيم احتفالا ، سيدة هينكس .

ضحكت فورا : لسانها ، عينيها ، وجهها إنتابتها حالة ذروة مؤكدة . أومأت ربما تنوي البكاء ، أغمضت عينيها ونظرت الى الفليفلة .
- أنظر كم هي جميلة تلك البذور الصغيرة ، صفرت هي .
إنحنى آكلي ثم أومأ . نزعت سيدة هينكس إحدى البذور من خارج حبة الفليفلة ، ثم وضعتها في فمها، في حين ذلك واصلت النظر إليه : مفعم بالشوق والأسى ، أغمض آكلي عينيه ومشى نحو الخارج .



(2)

بمقدورك المجئ

شعر بإنزعاج متواصل وهو ماشيا في الشارع . يجب أن يدعوها للحفلة ؟ لا .. لا نساء بعد اليوم : يجب أن يكون حفلا مخصصا للرجال فقط : كيتيلار ، سبلايسترا ، دورنسبايك وبولاردس ، هو بطبيعة الحال ، أجل هي حفلة الخنازير ! وهو راضي عن نفسه تمام الرضا ، كان يحك يديه ، لكنه يثني أصابعه فقط . يجب أن يدعو الضيوف بأسرع وقت ممكن ، قبل أن ينشغل بمواعيد أخرى . في حقيقة الأمر الأغلب لديه مشاغل كثيرة وليس لديهم متسع من الوقت ، أولهم بولاردس من المحتمل أنه مرتبط بموعد في المستشفى .

مشى آكلي مسرعا ثم عقد أزرار معطفه حتى الرقبة ، على الرغم من أنه متشائم دائما ، كانت السماء شاحبة وكثيفة الغيوم ، ربما تخفي ما يجري الإعداد له . كانت منطقة مزدحمة مخصصة لشركات نقل البضائع ومستودعات التخزين في الموانئ ، يشعر في كل لحظة بأنه يتدحرج من عربات الشحن الكبيرة المارة التي تقف عرضيا قرب المنازل . يلوح سائقي العربات من بوابات الحي ويتطلعون الى الرجال الذين تتعالى صرخاتهم ، يدقون بمطارقهم الحديد . حيث تجري في كل مكان عمليات سحب وجر وصراخ .

بأذرع متحركة ويدين غاصتا في عمق جيوبه ، أشبه بهبوب عاصفة ثلجية ، مشى آكلي مسرعا للأمام . العاهرتين في غرفتهن الصغيرة الحجم ، التي تقع قرب ورشة الحدادة ، إنقطعن عن مداعبته .... في موضع ما بالقفص الصدري كان يشعر بتوتر مزعج ، مثل حيوان جامح ، بأطراف أصابعه تحسس أعضائه . كانت لديه رغبة للمشي . ياترى أين
يقام ذلك الحفل ؟ بعيدا عن المرأى ، بعيدا عن العين المجردة ، ولكن هناك أسباب كثيرة تدعوه للإستكشاف ، في تلك اللحظات ولاحقا ، كان يرتجف ويحدق بإعجاب وإمتنان بشفتيه ، عندما يفكر بالحفلة ، بالتأكيد ستكون حميمية ، وحفلة رائعة لاتنسى . فجأة شعر بدفء يصعب تحمله ثم زرر معطفه المفتوح . كان قرب منزل بولاردس ، ثم ظل واقفا بعدذلك وإستدار . لايجب أن أدعو أحدا ، قال مع نفسه.

بدون أي شروط مسبقة يجب أن يقيم الحفلة... بالتأكيد لست مخبولا. بولاردس رجل متكلف في أناقته ، بعظمة جمجمة صلعاء ، كان منفتحا أمام الآخرين ، بينما أمسك الباب بيده اليسرى باحكام ، رفع يده اليمنى بطريقة مهذبة نحوالأعلى ، بينما ظهر إصبع الخنصر حيث يمتد الخاتم الذهبي . حسنا...حسنا ، سيد آكلي. إبتسم مندهشا ، ولكن دهشته كانت تبدو غير مريحة . بالتأكيد لست مريضا ؟ حسنا ، تلك الكحة مرة أخرى ؟
- حرك آكلي رأسه ، إبتسم .... وبدأ يغمغم ويدمدم . أردت .. جئت لأسباب شخصية .
- أوه.. أوه .. قال بولاردس ، هل الأمر يتعلق بفتاة شابة .
- حسنا .. بالتأكيد ، بحواجب متحركة ، ظل يدورغدوة ورواحا وأومأ مشجعا .
الى الداخل توقف آكلي وهو مرتبكا قرب الحاجز ثم سحب قبضة الباب .
- نعم سوف أغلق الباب .
- عليك الجلوس في غرفة الانتظار . كنت منشغلا بتناول الفطور .
وضع آكلي رأسه بالكامل بين ذراعيه ، بثنية واضحة ، أنفه للأمام ، دخل غرفة الانتظار ثم أغلق خلفه الباب بهدوء . بدون أن يتحرك ، وظهره نحو الباب ، بقي آكلي متسمرا يجيل النظر بنهايات الأشياء المتلاشية تبدو الكراسي كأنها تتراجع . تتدلى بقرب مدخنة المدفأة ، أوراق تعبر عن مشاركات مطبوعة لهيئة المرضى . معلق قرب النافذة تمثال نحاسي من طراز قديم يعود للقائد يوليوس قيصر وهو في مجلس الشيوخ ، من وهم الخيال ، بثلاثة وعشرين غرزة ، جميعها غرزت في قدم التمثال للفنان بومبويس . أغلق آكلي عينيه بشدة ثم أخذ يحك وجهه بكلتا يديه .وهو خائفا إستدار، ثم بدأ يئز للخلف عند الباب ، صندوق مستطيل ، كتب عليه "بمقدورك المجئ".
. 'طقطق أصابعه ، كانت الغرفة فارغة . يبدو بأن شيئا مريبا يحدث هنا ، أشعل المصباح ، إعتقد بولاردس بأن أحد المرضى لازال في غرفة الانتظار لكنه واصل تناول الإفطار .

- مرتبكا وضع آكلي يده على قبضة الباب بشعور من إرتكاب هفوة عديمة الفائدة ، ساكنا كأحد المتسللين ،أغلق الباب خلفه بحذر واحتراس ، ظل واقفا في حيرة من أمره ، وهو متذبذبا
مشي في الممر شبه المظلم . ياترى إلى أين يتوجه؟ كان الباب في نهاية الممر يستخدم كغرفة للمقابلات ، من مكان عال كانت تظهر ساعة حائط من الخشب مطلية باللون الأسود ، ظل
صامتا في منتصف الطريق في الممر ، خلف الزجاج يتمايل بندول بطئ بقرص نحاسي مثل المثقال . كان الصمت يطبق على المكان ، سوى دقات بطيئة: كليك .. كلاك .. بعينين واسعتين نظر باتجاه القرص اللامع الذي كان في حالة إندماج ساكن ، بنفس محبوس مختفيا في الممر مجدفا عبر الزمن .

إقترب ببطء، محدقا باتجاه الحركة الزجاجية ، مفتونا جلس مقرفصا ، واضعا يديه على الخشب ، ثم ضغط أنفه مقابل الزجاج . إنحرفت عينيه بهدوء لليسار واليمين بلمعات نحاسية وبنفس الوقت خائف من الزجاج البارد ... صوت طقطقة كليك .. كلاك ، كم هي جميلة لمعة النحاس ، إمتلأت مآقيه بالدموع ، أغلقهما ثم لامس خده الزجاج بنحيب مكتوم معانقا الساعة ، باسطا ذراعيه بالكامل .
- سيد آكلي ؟ تردد صوت بولاردس خلف الباب قبل الأخير ، تعال للداخل .
إرتعب آكلي ثم نظر مندهشا عبر الممر، عندئذ بدأ يحك وهو واقف ، أمام عتبة الباب ظهر بولاردس.
- مرحبا ! صاح ثم رفع كلتا يديه . هل أنت منهار ؟ إقترب منه وبدا كأن آكلي يسنده من قدمه . هنا أيضا آثار ظلمة . هل تتألم ؟
-لاشيئ...لاشيئ ، قال آكلي ... تعثرت قدماي .
- أنها غلطتي ، قال بولاردس ، تريد زوجتي التعرف عليك . سوف نجلس لحظات بدون فتاة ، لذلك أتصلت .
- تعال للداخل . إنهار السيد آكلي ، قال لزوجته التي كانت جالسة عند طاولة الافطار .
- كان ضوءا حادا في الغرفة الكبيرة ... المتشابكة ....الصافية ، بانت زوجته بملامحها الكاملة من أطراف الحرير . مورتيس آكلي ، لازال مرتديا معطفه الرمادي ، دخل الغرفة هائما على وجهه ، لقد نلت ما تمنيت، سيد آكلي ! هل هو السيد آكلي أخيرا ! جسد حي ، الآن سأتناول فطوري ، بالتأكيد في ذلك الجو الكئيب الأفضل إحتساء فنجان من القهوة وإرتداء معطف ؟ أف نعم ، الطقس بارد ، ياله من دفء! البشر يشعرون بالبرد والدفء سويا ، أليس هذا حقيقة ؟ أحيانا يبكي الناس أوه من الانهيار بطبيعة الحال، ينهار البشر ، تنهمر الدموع من أعينهم ... واضعا يديه بين قدميه ، جلس آكلي على الكرسي ثم إبتسم .
- رجل مشهور ، قالت زوجته ، مختفيا دوما في أبراجه العاجية !
- مشهور.. ردد آكلي ثم نظر إليها .مشهور، بالطبع .. مشهور .
- هل تعرف بأنني أنصت اليك دائما عندما تعزف ؟ أليس ذلك حقيقة ، مانويل !
- هم..هم ، قال بصوت مازح ، هز بولاردس رأسه ، بالعا لسانه وهو فارغ ، طالبا العفو .
- زوجتي تستمع إليك دائما ، تتمتع بإذن موسيقية حادة .
اذا كان الطقس جميلا ، سوف أجلس دائما في الحديقة ، حتى الساعة الثانية عشر ، قال لزوجته وهو منشرح . اذا أمطرت السماء ،أغلق أبواب الحديقة . أحيانا أمشى نصف ساعة أنظرفي ساعة الحائط . أشتاق لأحد ما ، أعتقد بأن الوحدة صعبة ، لكن لمرة واحدة باليوم ، سوف أتحدث بالتأكيد مع القس البروتستانتي سبلايسترا حول تلك الأمور . هذا المساء سوف أتوجه لزيارة زوجته .... تلك المرأة الفقيرة ، ذلك الرجل الفقير . سوف أطرح عليهما بعض الأسئلة ، هل تعرف سيد آكلي ، أنت تعزف بأسلوب مختلف ، أما الآخرين فلا يعجبونني إطلاقا ، عندما يعزفون ننصت إليهم من أجل البهجة فقط ولكن ليس للاستماع لهم .

- لكن أنت ... كيف أقول ... ربما يعود الأمر لبعض الأساليب التي تستخدمها أم الأمر يتعلق بسر المهنة .. توليفات الصوت . لا أنت تخفي سرا غريبا ، لآأعرف ما أقول . فجأة عندما تعزف ، بدون مقدمات كأنك تبحث عن الكلمات .
- بينج .بينج .بينج، قال بولاردس ثم هز رأسه رافضا .
- بينج، بينج، بينج ، قالت زوجته بدون مقدمات وهي تنظر إلى زوجها ، الذي كان يرى بصعوبة وهو يتناول الأكل ، لقد أثرتني ، إنها روحك ، صدقني ، سرك ... روحك .
كأنها أطلقت صيحة تأسف .. أعذرني ، عزيزي آكلي ، ساعدني ، تستطيع دائما أن تعبر أفضل مني في مثل تلك الأمور ، نظرت إليه وهي منفعلة .

- شعر آكلي بأن عليه مغادرة الغرفة بعض الوقت ، غير مكانه ، باحثا عن الصمت ، تبقى المجازفة دائما في مثل تلك الأمور ، لكنه نجح أخيرا كما لو أنه بحق السماء لايستسيغ أي عفونة .
- حسنا ماذا قلت ، تعني بولاردس ، بإصبع الخنصر... باشارة مبهمة وضع كوب القهوة جانبا .
-في حقيقة الأمر لن ندع مريضنا الموهوب يتألم كثيرا ، وضع منديل الورق على شفتيه عدة مرات ، حرك الكرسي للخلف وأخرج سيجارة ، أشعل النار خلف يد آكلي الذي رآه صامتا للحظات .
-هل أنت متزوج ....سيد آكلي ؟ سألته حينئذ.
زوجتي متوفية منذ فترة طويلة ، قل مورتس آكلي بشاعرية ثم نظر الى ردة فعل السيدة بولاردس ، التي ظهرت على أحر الجمر بانتظار الجواب ثم هز رأسه بوجه معبر كما لو أن زوجته بالفعل متوفية منذ فترة طويلة - نفخ بولاردس سحابة دخان كثيفة .
- إعذرني ، قال هو.
- مجرد وقت ، ليس أكثر.... قال آكلي ثم إحتسى كوب القهوة حتى النهاية .
نظر اليه بولاردس مندهشا ، في حين ظلت زوجته بلمحة عين غير مستجيبة تنظر الى آكلي .
- تناولها بولاردس ثم حرك حاجبه . بينما حسر رماد بقايا سيجارته ، عن أسنانه ثم وضعهما برفق فوق بعضهما البعض .
- ميتة ؟ قال هو.
- نظر وهو صامت الى زوجته.. بالنسبة لآكلي لم يحدث شيئ . يبدو بأن تلك الكلمة التي نطق بها بولاردس ، فسرت كلامه قبل لحظات وهو موت زوجته. لكن يبدو بأن ذلك المفهوم وضع نهاية لكل التصورات والتخيلات . من الصعوبة وصف ما حدث حقيقة بالضبط.
أو تقبل ماحدث له وكأن شيئا لم يكن . في مكان كأن شيئا سرق منه ، عمل سحري تبخر في الهواء .

بحاجبين مقطبين نظر بولاردس اليهما واحدا تلو الآخر . ثم قال بهدوء: إنها ذرة يوليوس قيصر . وصلت إلى هنا عبر آلاف الكواكب ، الحيوانات والأجساد البشرية ، كل ذرة من القشرة الأرضية ، البحر ، الهواء والسحب مشحونة بالحياة والموت ، كل المواد ثقيلة وخفيفة من الذكريات . كان كل شيئ كليا شفاه، زهرة ، ظفر . ماكان بالأمس جزءا من سحابة مطر ، ملاكا من حشرة واليوم في أنف كاردينال ، في الغد إلتهمته دودة ، بعد غد في العشب فوق قبره ، بعدذلك في قبضة شيوعي شرب من نفس الكأس . جميع الموتى في أجسادنا في كل مكان ، الجمجمة في أجسادنا ، المخ الذي نفكر فيه بالموتى ، فؤادنا ، حيث نشعر بالأسى نحو الموتى ، الدموع ، التي نسكبها حول الموتى، كل تلك الأشياء تتألف من نفس الموتى . كل شيئ ، حيث الوجود وما نرى ، مرات لا تعد أو تحصى عبر الحياة والموت، حيث تفنى
جميع الأشياء .
- هل ياترى سيكون المشهد معنا مختلفا ؟ تمايل بولاردس ، مشيرا بعينيه بضرورة التوقف عن الكلام ، أخرج سيجارته ، ثم سكت عن الكلام المباح . إعذرني ، قال هو ، مرضاي بإنتظاري ، اليوم هو عيد ميلادي ، قال هو ثم إحمر خجلا للفور . كان يبدو بأن في جعبته الكثير كي يقوله ، لكنه لم يتمكن من مواصلة الحديث وإزداد إحمرارا ، أمنياتي ، قال بولاردس بانحناءة منخفضة ، في حين ذلك وقفت زوجته وهي منشرحة ثم إبتسمت وسحبت يده : أوه، مبروك مع كل تمنياتي القلبية ، سيد آكلي .
- أجد هذا رائعا كثيرا، بالتأكيد أنا أول المهنئين في هذا اليوم ، مؤكد ، أليس كذلك ؟
ضحك آكلي ثم أومأ برأسه إيجابا ، لكنه نظرمرة أخرى للفور الى بولاردس . في غضون ذلك كانت جيوبه ممتلئة بالأوراق والكتيبات ، بالقرب من صحنه يبدو بأنه كان نشيطا على غير العادة . في الحقيقة لن أستطيع البقاء أكثر من ذلك ، قال هو . الى اللقاء سيد آكلي ، سيدة بولاردس سوف أتركك ، لكنني أريد .. رتب موعدا آخر مع السيدة بولاردس ، تعال في يوم آخر . بدون أن يرمقها بنظرة طبع قبلة على يده زوجته ثم غادر الغرفة وهو مسرعا .
عندئذ إرتطم بعتبة المنزل ، ضحكت زوجته . أذن مانويل ؟ أليس لديه شيئا من القيصر ، وقفت عند الطاولة ومشت بهدوء الى بوابة الحديقة ، الآن إتضح كم هو ضئيل. ضحكت مجددا عند البيانو باتجاه آكلي . الذي كان في ذلك الحين يتحسس بأصابعه في وسط الغرفة، غير واثق زرر معطفه .
- كنت أود دعوة زوجك الى عيد ميلادي ، قال هو .
- كنت بصدد الإعداد لحفلة صغيرة مخصصة فقط للرجال ، أيضا أريد دعوة سبلايسترا ، ذهبت السيدة بولاردس للجلوس على مقعد البيانو ثم وضعت أصابعها فوق المفاتيح . هل أعزف لك مقطوعة ، سيد آكلي ؟ سألته وهو مبتسمة نحن الآن لوحدنا في المنزل .
- لعدة لحظات فقط ، هل أعزف لك شيئا ؟ لعيد ميلادك . مقطوعة قصيرة ،
- عموما ، بينج-بينج-بينج .
- أومأ آكلي إيجابا ثم ظل واقفا في وسط الغرفة . كانت مقطوعة هادئة لشوبان ، يبدو بأنها بذلت ما بوسعها ، عزفت من رأسها وكانت جميع المقطوعات تنساب بعذوبة و تعبير صادق . برأس مائل ظل جالسا بعد المقطع الأخير ... حينئذ نظرإليها ثم قال بشفاه مرتجفة ،
يجب أن أرحل الآن .
- وهو مرتعب تحرك آكلي للخلف .
- بالطبع .. أنا .. ربما أريد ، تعثر هو ، في مساء اليوم ، زوجك يعرف أين أنا .. إرتطم بالبوفيه ثم إستدار وخرج بسرعة من الغرفة .
كان الإزدحام شديدا بالشارع . وهو يكح ومتعثرا قليلا مشى بين حشود البشر . شعر بالدوار من المرمر ، مرة أخرى تحسس معصم يده ليتأكد فيما إذا إرتفعت درجة حرارته أم لا ، عجولا ترك معصمه مرة أخرى ، بسرعة ذهب الى سبلايسترا ، الذي كان يبعد عن هنا بضعة دقائق كان يجهل بأن عائلة بولاردس وسبلايسترا يعرفان بعضهما ، تعرف بطبيعة الحال على بولاردس كذلك سبلايسترا ، أما زوجة بولاردس فقد رآها للمرة الأولى اليوم ، أما زوجة سبلايسترا فلم يرها أبدا . حتى لو عاش أسفل سقف سبلايسترا ، ربما مترا أو 40 مترا للأمام لن يتحدث معه لأكثر من دقيقة واحدة ، لم يدم الحديث بينهما لأكثر من دقيقة واحدة ، فجأة شاحبا ، قلقا ، ثم هرب من أول فرصة مناسبة. غالبا بدون مناسبة : فجأة وهو يهمهم أصبح شاحبا ، بإشارة غير مفهومة إستدار ، ثم غادرالمكان بينما حاول الآخر بدء الحديث . فجأة خائفا من البشر ومتوقعا في كل لحظة بأن تصدر منهم أفعال غير مفهومة ومخيفة ربما تكلفه حياته . في غرفته ذهب للجلوس على الكرسي محدقا للأمام ، متسمرا مثل فاقد الشعور ، أو كأن أحدا فقد مهارة الحديث ، أو هاربا ، على مدى سنوات طويلة إعتاد الإستلقاء صامتا على فراشه ينظر الى بطانة السقف ، حيث لاشئ يرى . ربما كان يفكر في الأيام الأخيرة بالسيدة هينكس عبر نافذة السطح المائلة ، حيث ترى السماء فقط ، طائرة أو طائر يعبر الأجواء .

في زوايا الشارع المتباينة ، متوجها في طريقه الى منزل سبلايسترا ، مارا ، إحتشدت مجموعات من الرجال والنساء الصامتين الذين ظهروا أشبه بجدار منخفض يصطدم بعائلات العطارين . لكن أمام الصدر والظهر ، مع أحزمة حول أذرعهم ، يحملون لوحات كبيرة كتب عليها :" الخميس 20 أغسطس ، نهاية العالم ، يخشون الله، ويقدمون له ما لذ وطاب ، لأن أحكامه إقتربت".

يبدو كأن أحد اللوحات وقعت من السماء فوق أذرعهم ، ينظرون بوجوه شاحبة ، محدقين بالمارين , لم يتبقى أحد يشتري تلك الكتيبات كذلك لم يلمح أحدا . سوى رجل عجوز بلحية ، يشبه القديسين ، شيئ مصغر من فرسان الخيالة في سفر الرؤيا . عند زاوية الشارع حيث يعيش سبلايسترا ، ظهر رجال الشرطة يستجوبون البعض ويحصون عدد اللوحات فوق الأذرع . كما لو تمت تعريتهم أمام العامة .

ظل آكلي واقفا أمام باب سبلايسترا ثم نظر الى العائلات ، التي كانت بدون مقاومة تذكر تتمعن المحققين بعيون كبيرة ، تخلوا عن النبأ وتركوه ينتزع منهم ، كان سعيدا لأنه لم يرى السيدة هينكس ، ياترى أين هم هذا الصباح؟ فكر ، اذا لم يحدث شيء مكروه !
فجأة شعر بشيئ قوي جامح يحرك مشاعره ، نظر بعيون كبيرة الى زاوية الشارع . في الغد كيف سيبررون له عنه وعنها ؟ على مدى سنوات طويلة كانا شعلتان محترقتان يعيشان ليومهما فقط ، إبتداء من الغد سيتعفن وجودهما بعض الشيئ ، على أي حال عندما يتنبآن ولكن في تلك الحالة سيكونان في طيات المجهول ! فاذا كان لهما وجود بالتأكيد ، فستكون الجبال ، المقاومة ،الإعتقاد، الأحكام منكرة . كانت جيسيكا وجيرميا هما سبب الكارثة التي حلت بإسرائيل ، آشور، بابل . بالتأكيد لأنهما لايهرمان ، في العام المقبل هل سيظهران بدون أي
تغييرات في زوايا الشارع .. واذا صدر الحكم اليوم ، هل يؤكدانه ، عموما وجود شخص واحد على الأقل مؤمن ، بالتأكيد يكون خائفا ، يؤمن بالله .

مع وجود تلك الأفكار في رأسه ، ضغط آكلي على جرس باب القس ثم إستند بجسمه للأمام ، كما لو أنه يدق بكامل جسده . تولدت لديه رغبة بأن يدوس الباب بأكمله . عندما سمع صوت طنين في الممر ، إلتفت عينيه من الخوف ، لكنه بدأ للفور يضحك مع نفسه . بعد مرور لحظات قليلة إختفى أيضا ذلك الضحك .
- فتحت له الباب ممرضة في مقتبل العمر لم تعد شابة ترتدي الزي الأبيض .
- هنا منزل القس سبلايسترا؟ من الأسفل وهو محدقا ركز نظراته تقريبا نحوها .
- لن يستقبل القس أحدا . هل أستطيع إيصال رسالة له ؟ بحواجب مرتفعة تناولتها منه .
- تردد آكلي ثم نظر اليها مشككا .
اليوم عيد ميلادي ، قال هو ، سأقيم حفلا . إسمي مورتيس آكلي . من فضلك إسأليه ، أعني اذا كان سيأتي اليوم لعيد ميلادي أم لا ! يعرف هو العنوان ، أبلغها بتلك المعلومات وهو مستعجلا، أنا دقاق الأجراس الموسيقية للمدينة .

قطبت الممرضة حاجبيها من جديد للأعلى ، نظرت الى معطفه، ثم مسكت عندئذ الباب فاتحة له . لن أعدك كثيرا ، قالت ذلك ثم تركته في غرفة صغيرة نظيفة ، مع شجرة نخيل ، ومضافة كما توجد بها بعض الكراسي المصنوعة من خشب القصب وخزانة كتب منخفضة .
لم يترك القس زوجته أبدا وحيدة .
-أو، ولكنني سمعت الآن بالصدفة ، قال آكلي مسرعا، بأن السيدة بولاردس ستزور السيدة سبلايسترا
- السيدة بولاردس؟ كررت الممرضة بكل ثقة ، بدت مندهشة . كيف تعرف ذلك؟
- لقد جئت في الحال .
- 'سوف أنقل الرسالة' ، قالت المرأة ببرود واضح وأغلقت الباب .
- شد بذراعيه طوليا معطفه المفتوح المعلق ، وقف آكلي على السجادة الأرضية الحمراء ،ثم نظر من حوله . في خزانة الكتب توجد روايات ومواعظ مجلدة من سلسة نوبل . أمال برأسه أمام كتابين صغيرين ، حيث طبع العنوانين بالطول , مندهشا قرأ للمرة الثانية ما قرأه قبل
لحظات .العنوان الأول : 'ايمانويل بولارد' كتب ' سوناتات لأليزا ' الكتاب الآخريحمل عنوان ' كذلك أنتم ... القيصر' ضحك آكلي فجأة بسره ، بولاردس شاعر ! سوف يأتي هذا المساء بالتأكيد ! مثل لص ماثلا للعيان جذب 'السوناتات' ثم تفحص ورقة البطانة ورقة من النوع السميك تستخدم في تبطين الكتب ذات العلاف المقوى . هناك كتب بخط اليد ' من أجلك أليزا" ربما من أجل جسدك الساكن الذي يحافظ علينا ، لأنه يفهم ممن خلق ، مانويل . نوفمبر '38' .
برفق أعاد الغلاف ، فوق لوح الكتب العلوي قائمة من الأقوال المأثورة :
"الذي يسيطر على روحنا ، أفضل من الذي يستحوذ الى المدينة" .
إستولت السكينة على المكان . سمع من الأعلى صوت فتاة ، كما لو أنها كانت تعيش هنا، يستولي على المنزل يأس منزه عن الخطأ .

كانت الأبواب غير مسموعة ، وهي صامتة بنعليها المطاطين عادت الممرضة للغرفة، لم يعدني القس بشيئ ، يتعلق الأمر بظروف مختلفة ، ولكن الفرصة لاالت سانحة لأن يأتي . من سيأتي أيضا ، سألته :
-' الدكتور بولاردس' ، قال آكلي بعينين حزينتين . من المحتمل السيد دورنسبايك ، خادم الكنيسة . ربما صديق الطفولة المهندس كيتيلار . نظر اليها ثم قال : إنه ' صناعي ثري ' إبتسم ابتسامة عريضة ثم مشى خارجا من الغرفة .

مرات عديدة وأنا مار في طريقي الى حافة المدينة حيث يقع مصنع كيتيلار ، يتأمل دوما وجه السيدة بولاردس أمامه.... ضئيلة وبيضاء وتومأ برأسها كما لو أن شيئا عفويا قد حدث .
-أي كلام يصدر عفويا ؟ تذكر بأنها كانت تومأ بتلك الطريقة ، هناك تبدو قريبة جدا ، لكن لماذا ؟ على الرغم من أن السطح بقي مفتوحا ، ولكن ليس للتخفيف من حدة الضيق في الباص المكتظ بالناس , نظر بجبن الى الشاب الذي يجلس أمامه ، طبع خده على الزجاج ، من أجل التمعن لأطول فترة ممكنة بفتاة كانت تركب الدراجة في الخارج ، كانت تضحك في مواجهته . تلك المرأة الفقيرة ! ذلك الرجل الفقير! سحابة من الضوء والحرير. ضحكت أمامه سوف يأتي سبلايسترا هذا المساء ، مثل بولاردس تماما . رسم ضحكة على شفتيه لكنها كانت أكثر انخفاضا من ضحكاته السابقة . ذلك الشاب ، الذي كان جالسا على كرسيه يدور ، ظن بأن شيئا قد حدث له ، ثم جذب وجهه خجلا ، على مدى ساعة أحدث الباص عند إحتكاكه بالمعدن الخشن إحتكاكا ،بواسطة تلك الدعامات تسير مئات القطارات . أومأت السيدة بولاردس برأسها ثم ضحكت ووضعت يدها فوق ذراعه ، لكن لم يحدث شيئا . إنتظر .. هناك ميت؟ قال بولاردس وأسنانه ببعضهما .. لماذا ؟ أرخى ذاكرته ولكن عبثا . الغرفة المضاءة ، البيانو ، أومأت السيدة بولاردس ، بولاردس هو الميت؟ قالت، لكنه لم يتذكر شيئا . عندما توقف الباص ، قفز الشاب فجأة قائما ثم ركض بالجزء العلوي فوق رأسه الى المخرج . أومأت الغمامة ثم أغلقت عينيها .. ميت؟ بالطبع ، من تلقاء نفسه ميت؟ بالتأكيد ، بالتأكيد ، بالطبع .. ميت؟ من تلقاء نفسه .

تفجر العرق منه . وقف ثم مشى نحو الباب ،عندما توقف الباص ظل يتراقص في منتصف المر للأمام الى الخلف. أنا فاقد الوعي ، ظن وهو بالشارع ، نسيت الأشياء . حلق طائر غريب من حولي . لماذا الحفلة ؟ يجب أن ألغي كل شيئ . أكلت السيدة هينكس البذرة ، متلهفة نحوي بشراهة إستبدادية كاملة ونهدين قويين ، حتى الحنين سيتشاركانه معا
في الحقيقة سوف نتشارك كل شيئ ، الأشياء الحلوة والمرزبانية وهي نوع من الحلوى ! قال ' ها..ها' ثم لوح بذراعيه ، ومعطفه المتدلي المفتوح مشى في ممر المصانع .

جلس في غرفة الانتظار المشيدة من النحاس والزجاج علقت على الحائط لوحة إعلانية ملونة : آ.كيتيلار، مصانع الآلات ، للأعلى كانت المروحة
تطن ،وضع على حضنه مجلة أميركية ذات ألوان فاقعة غير منسجمة ,مع بعضها ، ثم حدق وهو شبه ضائع نحو الخارج . الآن ولاحقا كان يمشي بالممر مراسل أو عامل ، القبعة بيده ، فتيات بمعاطف بيضاء يمشين بصواني كبيرة معبأة ببخار القهوة نحو الداخل والخارج . آلات الطباعة تخشخش بجميع الاتجاهات ومن ينصت جيدا كان يسمع طنين وإهتزاز الآلات ، في القاعات الكبيرة أسفل المكتب. من يسمع جيدا .. ليس هو مورتيس آكلي .

بيده اليمنى لايزال حاملا تذكرة الباص كمالو أنها ستختم ، على سبيل المثال طلبت منه سكرتيرة كيتيلار كتابة إسمه وسبب الزيارة في نموذج خاص . كتب : اليوم عيد ميلادي .
في سحابة ذكاء ، تطور شامل ، قدمت السكرتيرة من غرفة المدير ، فتحت الباب الزجاجي ، لكنها لم تقل شيئا ، مجددا تردد صوت كيتيلار من الغرفة المفتوحة .
- سيد آكلي ، هل تذهب الى الممر .
- وقف آكلي في الغرفة ثم سمع صوت الباب يغلق خلفه . مرحبا وذراعيه نحو السماء ، نهض كيتيلار بأكمام قميصه خلف مكتبه .
- مرحبا ، مرحبا ، أيها الفنان العظيم ! بخطوات كبيرة ظهر ماثلا للعيان رجل كبير ضخم مرتديا أقمشة باهظة الثمن ، تظهر ندوب كبيرة من زاوية العين حتى الفك السفلي ، بحلاقة ماهرة ، تحدث ساخرا ، حيث تغرم به كثير من النساء .
- تفضل بالجلوس ، أيها الرجل الأشيب ، قال هو. جئت مجددا بعد ثلاثين عاما ؟
عندما تكون الشمس في أوجها ، جاء مورتيس آكلي ! ها..ها كيف هي الأبراج ؟ لاتزال أسمى وأرفع رجل في البلاد؟ تفضل بالجلوس يا خايب الرجا !
-ضاحكا وجه نحوه لكمة قوية أليس كذلك ...كم هو عمرك؟
-مثل إمرأة شابة جلس آكلي على حافة كرسي الفوتيل . كما لو أنه لازال جالسا خلف الزجاج في غرفة الانتظار ، تسمرت الكلمات في فمه لكنا لم تصل اليه . مستغربا مشى باحثا و ضائعا ، أين سيقام الحفل؟ هناك ظهر مجددا وجه السيدة بولاردس الشاب في الباص ، فكر فجأة : كل شيئ سببه الحزن . الشجرة هي الحزن على هيئة شجرة . النجم هو الحزن كنجم ، البحر هو الحزن . الحزن مادة رائعة ، تفكير البشر بالحزن . عند البشر ، فكر هو ، يتحول البشر الى شيئ مدرك .. واعي ، فكر هو .
- هيخل .. ألم يكن مع كيتيلار ذات يوم؟ ربما من الملل.
- ياترى من يعرف مثل هذا الصديق ، مجددا أصبح حقيقة مؤكدة ؟ ذات يوم ذهب معه الى لايدن يتمايل ، نعم مع كيتيلار، حيث كتب على الباب "اليوبيل" كانت.... تجربة ساخرة ، يجب أن ترتدى قناع التخفي ليكس ، رغم إنه يستخدم للحفلات فقط .
-حسنا ، كم هو عمرك ؟ لاتعرف؟ لماذا تجلس دائما والتذكرة بيدك؟
نظر اليه آكلي ثم وضعها في المطفأة . بدأ كيتيلار يتطلع من حوله ، ثانية بعد الأخرى . خلف المصنع كانت تحوم ذؤابة .
- آخ، قدم السيد المبجل محملا بالمعرفة . كم هو عمرك ! أعتقد حقيقة بأنك لازلت نائما!
فتح آكلي فمه لإجابة غير متوقعة ، تركه مفتوحا ثم قطب حاجبيه ، بينما فكر بترو بمحاذاة كيتيلار ، في حيز من السحب الرمادية ، بعدذلك إتجه نحو الأفق . المثير للسخرية أنه رأى كيتيلار مجددا ، لقد تعبت ذاكرته ، يجب أن يريحها .
- تعال ، تعال ، شجعه كيتيلار ، تقريبا ، تعلم بالتأكيد ، أليس كذلك؟
- أوه... إنتظر ، فجأة صاح آكلي ثم رفع يده .. ثلاثة وعشرين ؟
- أطلق كيتيلار ضحكة رنانة ثم بدأ يهز رأسه . فجأة ضرب بقبضته الطاولة ثم صرخ : ستة وأربعين ! بالضبط ليس لدي أدنى فكرة ، متقدم بالسن مثلي تماما .
لا ..لا، قال آكلي ثم حرك رأسه بسرعة بإصبع السبابة ، ' لا..لا! ثلاثة وعشرين ، تذكرت جيدا ، أنا.. ثم تلعثم : بدأت عيناه تنتفختان ... 'ستة وأربعين'.
- ياللعنة .. همس كيتيلار ..
داهمت آكلي غصة حزن ، ثم بدأت الدموع تتدفق من عينيه ، سرعان ما أخفى وجهه بين يديه.
ماريولين قتلت بالتأكيد، نحب هو ، لقد ماتت ، باردة ، لم تتحرك أبدا . بقيت ساكنة للأبد ...
كان هذا قبل ثلاثة وعشرين عاما خلت ! قفز مرتعشا ، أصبحت ندوبه حمراء بلون الدم ، ياللعنة اذا لم تتوقف الآن ، سوف ألقيك بالشارع على الفور ، أتفهم ذلك؟ هل إرتفعت الحرارة في رأسك ! ستة وأربيعن عاما هو عمرك! ستة وأربعين !
هدأ آكلي . فجأة شد يديه هاربا ثم تطلع الى كيتيلار .
أين البقية؟ سأله... ببطء بدأ يحرك رأسه . بعينين كبيرتين ظل كيتيلار للحظات متأهبا للاجابة ثم إلتف حوله بسكون غريب ، مشى نحو الخزانة ثم تناول زجاجة وكوبين . صامتا إقترب ليجلس قبالته، ثم سكب الشراب حتى ملآ الكأسين، مائلا بجمسه للخلف ضربهما، ظل ينظرإلى آكلي على مدى ثواني قليلة .
- 'معتوه' ، قال هو من بين أسنانه ، ولكن لا أقصد بذلك الاهانة ، ولكن غضبا من أجل هذا الصديق .
إحتسى آكلي الشراب ، لكن لم يمسح دموعه ، بقي صامتا وتسمر جالسا في كرسيه . كما لو أن الشمس حول الأرض السوداء غربت عنه. ثم شرب الكأس الثاني بدون أن يتفوه ببنت كلمة . في تردد الصوت العميق المصطدم والسوائل الراشحة من خارج المصنع . إستند كيتيلار منكفأ على ركبتيه حتى تلاصق وجهه بآكلي .

عشت سنوات طويلة ، قال هو . الوحدة جففت خلايا ذاكرتك .لم تعر إهتماما لأحد كل تلك السنين . لم تتحدث مع أحد ... ربما سنة واحدة معي . أحيانا مع القس، ولكن من هو القس؟ زوجته مشلولة ، إنه ليس شخصا أتحدث معه . خشيت الناس مثل بول الفراش ، لكنهم ليس بتلك القيمة ، بحيث يكونوا سندا في وقت الشدة ، هل تسمعين؟ لاتدعهم ينالون مآربهم منك . كل جذاذات عقلك إنكمشت وتلاشت ، هبت قطعة خارجة من أذنك . من الخطأ أن تنسى كم هو عمرك . اذا نسيت عمرك ، ستأتي لحظة ، حيث تفكر بأنك غير موجود. و تعرف من أنت بالتأكيد . في المنشأ . عند الإخوان . ربما تظن بأنك الوحيد ، الذي بلغ السادسة والأربعين ؟ يجب أن ترى المزيد من البشر ، قال كيتيلار ولم يفهم بعد ذلك ماذا يجب أن يقول ؟
تأمله آكلي
-' هل تأتي هذا المساء الى حفلة عيد ميلادي' .
- مشى كيتيلار نحو معطفه ثم وضع مفكرته على الطاولة .
- إكتب عنوانك هنا .
- بيد مترددة كتبه آكلي بالمفكرة .
- كيتيلار سوف تأتي . كيتيلار سوف تأتي . نهض كيتيلار ثم سكب الكأس الثالثة. يبدو بأنه في حاجة للكثير أكثر من ضيفه ؟
أنت تعرف كيف أفكر حول عائلتي ، فجأة تحدث ، في الماضي كان يوجد لي عم يعمل مفوضا للشرطة في قرية صغيرة ، حيوان وغد وخسيس من مفوضي الشرطة الريفيين .عندما تقدم به العمر ، أصابه المرض وأصبح طريح الفراش ، أو ربما يدعي المرض ، ولكن كبير بالسن فقط . عندما زاره أبي وهو شرطي روتوردامي معروف وهو على فراش الموت ، كانت الى جانبه زجاجة جينيفر ويدخن السجائر . تحدثا سويا مع بعضهما وكان يحتسي ذلك الشراب العتيق دوما ويدخن سيجارته بقناعة . إحتسى أبي الشراب أيضا ثم أصبح يدور في الغرفة بسيف المبارزة بينما تولى عمي القيادة ملوحا بذراعيه . في لحظة قال: الآن أعتقد بأنه سيأتي زمن وأقلع به عن السجائر . ألقاها بالمطفأة ثم ذهب ليستلقي . بحث عن موضع لرأسه ، ثم غمز بوجه ماكر مقابل أبي ، وهوفي حالة ترنح ذهب للوقوف ، أغلق عينيه ثم تنهد عميقا . ثم مات وهو مشوشا رآه كيتيلار . تصبب وجهه عرقا لماذا أخبرك عن تلك التفاصيل؟ سأله . وهو غير متأكد تطلع من حوله كأنه يبحث عن شيئ ما ، وضع كأسه بحزم على الطاولة وبدأ آكلي يسحب إحدى ذراعيه عن كرسي الفوتيل . يجب أن تذهب الآن . لقد وخزتني ، كي لاأستطيع التذكر ، سوف تأتي بعد قليل جماعة من الأميركان بمهمة دفاعية . ماذا سأرد عليهم اذا سألوني ، لماذا أنا عصبي؟ لأن صديقي الكبير يعتقد بأنه لازال بعد في الثالثة والعشرين .


(3)
بئر من الزمن لانهاية له

مشى مورتيس آكلي فوق السلالم متجها للخارج ، محاصرا في تلك اللحظات بتشويش مفرط , مشى ناحية الشارع ، غير مسرعا ، بالتأكيد يبدو كما لو يمشي ،مهرولا.... مهرولا إتجه بغرابة بموازاة منطقة المصانع ومحطة تحميل البضائع ، أسفل جسر مروري باتجاه وسط المدينة ، ثم مجددا باتجاه الرصيف الآخر . لم ينظر الى نقاط العبور المتكررة، لأن حركة المرور توقفت فجأة أمام عابر مرور متمايل ، بينما يحلق معطفه المفتوح منشرحا حوله ، عبر الهواء غير المستحب ، لاينظر حوله . يقف في تلك اللحظات من مسافة بعيدة ، حيث تطل أبراج الكنيسة للأعلى خلف الأسطح ، بنقشة قوطية في السماء الضيقة . تشير الساعة تشير الى الحادية عشر . إتجه في بادئ الأمر لليمين ، فارغا يطير مثل حمامة .

في تلك اللحظات بعد مرور دقيقة أو عشرة حدث خلل ما . مشى وسط سلسلة من الأحياء
تعود للقرن الماضي . فجأة إنحشر مجددا ثم إجتاز شارعا جانبيا . بالتأكيد لايؤدي ذلك الشارع الجانبي الى الكنيسة ! ولكن بركضة صغيرة ملتوية ، عبر الشارع ، إستعجل قدما ، حيث ينتصب بناء كئيب ، يدوي من نافذة الطابق الأول صوت غناء الأطفال شجيا . في الحقيقة إنقضى كل شيء بسرعة .

- أين هي ؟ تأخر الوقت ، لكنهابطبيعة الحال كانت بإنتظاره . فهم بأن الصف بأكمله يجب أن ينتظر بالمدرسة ، وإنه ليس من المفترض أن يغادر مسبقا .
-ياله من هراء.
-هوات ماريولين.. هوات ماريولين ! إتجه نحو الزوايا ثم تفقد الشوارع .
-إهرب..إهرب ، قال في نفسه ،يستطيع أن يصدق ذلك ثم مشى مجددا في كافة الزوايا. كانت الشوارع فارغة ،مثل خزانات منزل غير مسكون. فاقد الأمل نظر من حوله ، عينيه مفعمتان بالدموع . من غير المعقول بأنها غير موجودة .مشى على الفور، كأن شيئا مزعجا في فمه وبإرتعاشات باردة حول ظهره سقط على حافة الرصيف. كأنها غير موجودة ، حينئذ كل شيئ محتمل !

كان بمقدور جميع الناس اٌلإستيقاظ صباحا ، بقدم واحدة خلف رؤوسهم والمياه ، على سبيل المثال ، تستطيع التطاير في النار مثل البنزين، من الجائز بأنها لم تكن بانتظاره. لم يتفقان مع بعضهما مطلقا ، بدون أن يتساءل مع نفسه، منذ اللقاء الأول ، في منطقة اللعب ، عندما رقصت معه ، بعينين كبيرتين نظر الى راكبي الدراجات والسيارات ، وهم يقودون مركباتهم عبر الشوارع ولكن كان الجميع أموات وهو الشخص الوحيد الذي لازال باقيا على قيد الحياة .لم يكن خائفا يوما مثل هذه المرة ، ربما عندما ولد ، لكنه نسى . سوف أتصنع الموت ، همس ، ' سوف أتصنع الموت ' متشنجا أخفى رأسه بين ذراعيه . منذ الآن سيظل وحيدا للأبد! حاول مواساة نفسه بإثارة الحزن ، ولكن الغضب لم يستيقظ أبدا . نظر مجددا الى الشارع ، في كل لحظة كان سمك موسى وهو سمك مفلطح طوليا التقافز للأعلى ثم يقتحم ببطء ، تاركا سمكة حوت ميتة متعفنة ،كان بإستطاعة عربات الترام التوقف فجأة وسط الشارع ، يستدير قائدي المركبات حولهم ، ينهض جميع الناس من أرائكهم وهم يتلصصون النظر الى بعضهم البعض ، يمزقون هنيهة جلود بعضهم . وستتزوج ماريولين من رجل آخر . على سبيل المثال رفيقي بيرنباس أو بوبي فورهاوت .هوات ماريولين .. ثم همس ، ترددات الصوت جعلته فاقدا للأمل كلية . عصر كم قميصه في فمه كي يخنق النحيب ، كانت هناك سمكة حوت تتقافز للأعلى واذا صادفها تلك المرة فلن يتعرف عليها مجددا.

فجأة نظر باحثا فيما حوله . إذا لامس الشجرة في الزاوية الأخرى ربما ستتزوج منه ، لكن
لماذا... يفتقدها ، قفز للأعلى . خارج مجرى لتصريف المياه على جانبي الطريق إلتقط حصوة صوبها نحو الجذع و الحوض ثم قذفها لاحقا . لسوء الحظ لم تصب الهدف ، ضربها بحلقة الباب لكنها لم تصب الهدف كذلك ، لم يكن عملا متقنا ، نسى أن ينفخه ركض مسرعا الى الزاوية الأخرى ، باحثا عن الحجر ، يجب أن يكون نفس الحجر ، بعد مضي دقائق قليلة عثر عليه ، في طريق عودته وهو يكح قبضه بشدة بيده، في المرة الخامسة قرر أن ينفخ فيه، ثم مد ذراعه لأقصى حد ، شهق بصرخة معبرة ، إرتخى أحد معصميه وسقط الحجر من بين أصابعه . إستدار حوله ثم حدق في وجه أحد حمالي الفحم ، ملطخا بالأسود مع بقايا قشور الأشجار وأرجوحات من خصلات شعر الخيول من الكاربون ، تعود لمائتي مليون عام خلت .
كذلك مر رجلين أشيبين، نساء، تابعين وماتبقى من مخلوقات تتحرك في الشارع وقفوا جميعهم ينظرون اليه . أصبحت بشرة وجهه مشدودة من الدموع . الحمل الثقيل ترك معصمه مرخيا . لم يتفوه آكلي ببنت كلمة . فجأة مشى سريعا للأمام .ربما كان عليه البحث عن مزيد من أحجار الحصي، تدريجيا أصبح الموقف أكثر ضبابية، من الصعوبة الجزم بنعم أو لا . بدون أن ينظر ، وأيضا بدون أن يلتوى أكثر من ذلك بالشارع ، مشى الى وسط المدينة . أصبحت الشوارع ضيقة، المنازل أكثر قدما ، من يمشي الى مركز المدينة ، ينخفض حتى النهاية في عقر بئر من الزمن . كان ضيقا لايطاق .

ولكن كيف حدث ذلك ، فجأة أصبحت جميلة ؟ أباها لم يكن كبيرا وأيضا أمها ، جدها وجدتها كانا يميلان الى القصر . لا ، لم يكن شيئا آخر : ربما عشقهما لبعضهما ، كان يسري في عروقه ، بين ذراعيه وقدميه وكل الأشياء المسموعة أخذت بالتصاعد . كان يكبرها بعام واحد ومتقدما عنها بصف دراسي واحد . قرر إعادة إمتحانات القبول (اش.بيه.اس) كي يدرس معها بنفس الصف. أيضا قرر أعادة السنة الدراسية الرابعة ضد رغبته ، وعندما حدث له ما أراد حرصت ماريولين على الرغم من ذلك الحصول على درجة غير كافية للنجاح للبقاء في نفس الصف. لم يبتعدان عن بعضهما البعض .غير مبالي... ياترى إلى أين يتجه ، كانا يريدان إنجاز كل شيء سويا .

في ذلك الوقت ، كانت طولها جميلا ، كانت في بادئ الأمر دائما أصغر منه ، كانا متساويان بالطول حتى الصف الثالث ، فجأة في السنة السادسة أصبحت طويلة ، ثم بدأت تتعرف عليه تدريجيا . بدهشة ووقار عايش ماحدث ، خامرها شعور بأنه أصبح أصغر حجما , ذات مرة ربما يتضاءل كحبيبة رملية ، ولا تود رؤيته مرة أخرى ، لكن ربما في السماء ! عندما كان يتمشيان سويا، كانا يتأبطان ذراعيهما حتى المنتصف ، ثم يؤخذها بين ذراعيه .
ليس مرارا يترك العنان لنفسه ، ثم يتجردان من ملابسهما و يقفان عاريان تماما أمام المرآة . كان رأسها أكبر منه . لم يرى البشر أجمل من ذلك المشهد ، عندما تستلقي عارية بالفراش ، يجلس بالقرب منها ثم ينظر الى ذلك الجسد الكبير العاري ويهمس : كم أنت كبيرة ..جميلة ، ماريولين أتمنى أن تكبري أكثر...أكثر من بقية النساء .

مبتسما ، وذراعيه أسفل رأسه ، نظرت اليه ، خارج كوعيها ولدت الآلهة . أصبحت أكثر جمالا ، عينيها داكنتين ورقيقتين ، كان يستطيع الوثوق بماريولين . ولن تنبعث منها سمكة حوت ميتة منها ، إبتسم مجددا . كانت أجمل وأوثق إمرأة بالعالم . تقريبا هي كل حياته ، كانت كل قطعة من جسده تنبض بحبها، وكل عضو في جسدها يرى الأشياء كمنطقة هبوط للطائرات ، كل جنوح في فكرها ، وكل تغيير في لمحة عينها رآه يحبو ، رآى كيف يسحب البساط من تحت قدميها ، نظر اليها ، إختفت إبتسامتها ، مشى مرتعشا حول جسدها العاري، فجأة غفا و إستيقظ كما لو أنهما غرقا سويا في بحر من العسل . ثم بدأت عينيها ترتجفان . تعال بقربي .. بتنهيدة لاهثة تركها تنزلق فوق جسده . ذراعيها تأبطت كل زاوية في جسده ، شعر بدفء جسدها وهو يرتجف من الداخل . ثم بدأ جسدها يبكي ويروع ماحدث ، دموع في عينيها وخيالات بسببها الغرفة ، الهواء مع الطيور والأشجار تقلصت مع بعضها في نقطة بعمق بطنه . تتحرك ماريولين أسفله ، تتحدث بلغة فمها وينظر الى وجهها .. هناك قدم من جديد . الغريب في الأمر إنها تحمل حقيبة ظهر وعصا جبلية ، يغني منشرحا منجذبا نحو وجهها .

لماذا رأته ، لماذا رآها ؟ يجب أن ينحر رأسها ، لادموع تنهمر بسببها ، ضحكت بأسنان جرداء ، نظرت اليه ، مر بشجرة معبأة بطيور الحب ، مع من تتهامس ... تتهامس ، نظر الى نفسه ، هل يحكي مع نفسه ! عندذلك بدأ يبكي، ثم نظر الى المغني الغريب ، هناك ضحك متحدثا مع نفسه . أخذت السماء تتوعد ، خلال ذلك مالت السعادة ثم إنهارت .. فتحت عينيها ، بدأت القرود عبر الهواء بالتدحرج ثم عاوده التركيز .... الهواء ، فجأة غفا وإستيقظ كما لو أنهما غرقا سويا في بحر من العسل .


(4)

سيداتي .. سادتي الروح إنتصبت حتى الموت


أيضا عندما إختفى من الباب الجانبي للكاتدرائية ، تلاشت جميع ملامح الحياة في وجه آكلي . مشى على الممر المبلط مع رفوف من كارتات البوستال مخصصة للسياح ، لليسار فتح الباب المؤدي الى المكتب : بدءا من الفتيات الجالسات خلف آلات الطباعة التي صنعت من معدن قديم ، الى المكتب الذي إحتل الغرفة العصرية، كل تلك الملامح تعطي إنطباعا بوجود شركة مزدهرة ، آلة محاسبة تخشخش ، في الغرفة التالية ينبعث صوت آلة التلكس مدويا . السيد دورنسبايك يتصل ويرحب ولكن آكلي لم ينظر اليه ومشى من عنده الى باب الخروج المصنوع من خشب الآيك بإتجاه السفينة .

النبضات ، الدفء تركهما خلف متراس غلق الباب ، تطاير مثل قشة عبر الفضاء الرائع .
هناك كأن قطعة رائعة من السماء أمسكت به . بين الجدران المطلية بالأبيض وتلك الركائز تنقل البرودة والفضيلة الى الأرض حول الشمس ومع الشمس الى الكون .

كان جهاز الأرغل عبارة عن قلب كبير حتى المقدمة . فجأة أخذ يومأ برفق ، في نفس اللحظة بفعل الإهتزازات تتدلى شبكات خيوط العنكبوت . مشى آكلي الى الباب المؤدي لسلم الأبراج ،لكن وجد نفسه محاصرا بمجموعة من السياح وظل واقفا. كان العديد من المعاطف الخضراء يحمل أزرارا قرنية الشكل ، يقف بالوسط أيضا مجموعة من جنود الإحتلال الأميركيين ببدلاتهم الرسمية المخيطة بعناية فائقة . وهو فاقد الحركة نظر آكلي الى أحدهم ، زنجي كأنه عملاق لامع بينما يتميز القائد بوجه قاسي الملامح ومعطف مطري أزرق رمادي لمسؤول من زمن بالحرب ، أشار إليه ثم تحدث عبر نغمات الموسيقى : على أية حال جميع تفاصيل الموضوع عبارة عن تضليل وعدم وضوح بالرؤية، يقتضي العرف بأن نتفحص الأمور جيدا ، هؤلاء العمال الكادحين معتمدين على أنفسهم ، أحرار . لكن سيداتي ..سادتي كانوا من أوائل العمال الأحرار ، بالضبط العمال الأحرار أيها السادة. بخط مائل محسوس ، في نواديهم الجلية المحكمة التي لاينفذ إليها الهواء، دخان سجائر باهظة وخلف الكواليس التي تحكم العالم، مباني في ذلك الوقت عبارة عن كاتدرائيات. إختلاف شاسع . يبدو بأن هؤلاء ذو نفوذ وتأثير قوي . هناك سأل نفسه من لاشيئ . من المحتمل كانوا من الخبراء البدائيين ، أو من هذا القبيل ، من الأشخاص الذين يتفرغون للروحانيات ويستطيعون الترحال، وبعدذلك ظللوننا بأقنعة ، بناء معماري من الطراز القوطي ، من ممتلكات الكنيسة التي بنيت من الداخل ، مثل تغيير جوهر القوانين ، كما توجد بداخلها تماثيل متحجرة . سادتي ، تشبه تلك الكنيسة القوطية الروح . تعتبر كفتيلة كريهة . مئات من عوارض تثبيت الأشرعة ، مثل الرفات المتدفقة . سيداتي سادتي ، تقريبا هذا هو قلب الحضارات الإنسانية، ذلك القلب الإنساني ، قاد تلك المهملات . سادتي ، الروح إنتصبت حتى الموت.

كل ما حوله من إشارات و براهين يقوده لإقتراح ، سحرته تلك اللغة في رأسه تتحرك كردة فعل مفاجئة . ببطء بدأت المجموعة السير خلفه بحيرة و تردد. عبر الأضرحة الكئيبة بمخطوطاتهم المهترئة ، مشى آكلي نحو الباب . اذا ظل الغرباء واقفين طيلة اليوم ، ربما سيظل طيلة اليوم محدقا بالزنجي . ملتفا إرتفع بجسمه بين الأحجار الجليدية من الأسفل حتى الأعلى ، من الأسماء والقلوب ، عندما صعد السلالم فوجئ بفراغ غير كوني من لوح خشبي صغير جدا . مشى عليه ثم إنطلق هائجا للأمام عبر الشفق الأحمر ،الفترة بين الضوء والظلام أي قبل الليل المغرب وقبل النهار الفجر . بعيدا للأعلى أصبح رأسه ثقيلا ، كأنه يقبض عليه ، عميقا للأسفل يطل بحر رمادي، ساكنا إنحنى بضعة أمتار حول خط منصف ، حيث السكينة والظلمة خلف بعضهما البعض . ينتشر هواء مكتوم معطن من خيالات الذاكرة . توجد هنا وهناك فتحات صغيرة وألعاب في تلك الملصقات ، خلال ذلك ظهر هناك رشيقا ، أحيانا يمكن رؤيته في الفضاء الواضح القابض للأنفس ، عميق جدا بلاط ، قبر ، ميت لايوجد أي أثر للصوت . عند الأنثناءة إنشطرت الأرضية كلها الى أربعة ، خمسة ، في الطريق عبر هوات سحيقة مليئة بأجساد القرون الوسطى. ثم ظهرمجددا في الدهليز العلوي للكنيسة .

بلا تبدل نسج الأرغن شبكة من الموسيقى بإتجاه سبلايسترا في خطبة الصلاة ، على الرغم من صعوبة سماعه . كان جميع الجنود في حالة إنتظار يتدافعون بموازاته، عند الركائز الصغيرة لم ينظر الى الأقدام ، إلى صفوف الكراسي عند القبور، كذلك إلى حشود الألمان والأميركان الذين يقفون حول القبر الكئيب لقائدهم الراحل . نظرت إمرأة ألمانية شبه ضائعة للأعلى ، بعيون شقراء تبعت الرجل الساكن الى مكان مرتفع . إختفى من تلك الوجوه باتجاه الباب ، ثم تسلق السلم التالي . تقريبا الموسيقى تنتشر في كل مكان بين الأحجار ، مثل شيئ حسي أكثر مما هو مسموع : موسيقى بين الأحجار ، لايوجد فرق بينهما . ظهر السلم من خارج الأبراج .

بطانات السقوف الداخلية ، منحدرات ، سلالم ،تبدو كل الأشياء متلاصقة مع بعضها ، ذرات خشب متطايرة ، رسمت هنا وهناك بسهم منير . يبدو ذلك الغريب بدون أسهم مضيئة، عليه أن يجد الطريق ، الليالي ، أو ينتهي بالعمي ، لن ينجو أبدا . الى أين يمد يده ، للأمام أو للخلف ، ينتحي جانبا أو فوق رأسه ، يعترضه الخشب في كل مكان. اذا لم يستيقظ الليل من عينيه ، سوف يبقى في تلك الأبراج حتى الموت ، متسلقا زاحفا ، محاطا بمتاهة لانهاية لها من الشرفات والعوارض الخشبية . ربما يدفعه الخشب للأعلى حتى القمة ، حيث يدوس أرضية التراس المحيط بقمة البرج للخارج ثم للأسفل . في مكان ما ربما سيكتشف أيضا ، في ذلك البناء بابا . في تلك المنحدرات الجبلية سيحطم الصخور تدريجيا . ربما سيعثر الناس على محاربيهم الذين عاشوا قبل ألف عام . ربما سيلتصق أيضا عبر الألواح الخشبية بمصيدته ويتكسر العمل المطاطي مثل طائر غريب ، ملتفا ... إنسان مدنى ، يظهر للأعلى في الروح النقية ويشوش العمل .

ذات مرة تزايد ذلك الخشب في الغابات وتنامى . فجأة لوح آكلي بمعطفه كأنه يريد الطيران ، لايحتاج في تلك الحالة الى ركائز أو دعامات ! اذا وجد ذلك الطريق ، سيتوقف عند تلك الحيطان ويمشي منحنيا أسفل الألواح، أحياناعرضيا مقابل النبال، لأنه لم يستدل الطريق جيدا ، عبر تلك السكينة يتسلق السلالم نحو الأعلى . في الزاوية المظلمة تتدلى بين الخشب شبكة عنكبوت جميلة بقياسات بالغة التعقيد. كانت صماء ومغبرة ولكن لاتوجد عقدة مشوبة أو بها تلف أو متزحزحة . كانت أكثر شبكة عنكبوت محكمة البناء في العالم . جلس العنكبوت بالوسط ، منذ سنوات غير متحركا وذابلا . ذات مرة تناولها في علبة ثقاب ثم أخذها معه الى المنزل ، لاحقا تركها بين الخشب ، كي لاتكون لوحدها . بعد مرور أيام قليلة رأها فجأة تنشر شبكتها ، عمل متقن فائق الجودة ، تضخم حجم العنكبوت راضيا بالوسط . مندهشا قليلا ، لأن الحشرات والأجسام الطائرة ، يرقات الحشرات حديثة الفقس والخنفساء
جميع تلك الأشياء كان لها مكان في تلك البقعة .هؤلاء الرعاع الغذائيين لن يرتقوا للأعلى. لايعيش هنا سوى طيور الغراب ، الخفافيش و البوم . أما العنكبوت لايفعل هذا ، وحيدا بإستغراب لايصدق في جميع أنحاء العالم تركها وحيدة ، عاشت لبضعة أيام حتى واجهت الموت بسبب الجوع . عندما كان آكلي يؤخذ تلك المخلوقات الصغيرة كل يوم معه للأعلى ، وبكلمات منتقاة ، ثم يلقيها بالكاد في تلك الشبكة المدهشة ، تتحرك بسرعة وهي جائعة ،لن تستطيع أن تنسج مزيدا من الخيوط العنكبوتية ، لكنها على الفور مصت حتى أصبحت فارغة .

إستيقظ ذات صباح وهو يشعر بالحزن وفهم بأنه يجب عليه اليوم أن يمنع عنها الغذاء ، كئيبا رآها تئن من السكينة وحجمها يتضاءل . عندذلك وضع آكلي جبهته بين الخشب ثم بكى قليلا .
بعد أن تجاوز أربعة سلالم وصل الى منطقته المخصصة . عندما وصل هنا للأعلى ، كان كل شيء صغيرا ومنخفضا . الكوارث الصغيرة تركت بعض الضوء ، ولكن بالخارج ليس أكثر من أفق ضبابي . جذب معطفه ثم أغلقه وتسلق السلم الى البيانو ، نصف الطريق الى غرفة الصندرة . فجأة تأوه قليلا . ماعدا فتحة صغيرة يتركها مفتوحة دائما ، كي يسمع
عزفه . تتدلى للأعلى الساعات ، أوعية نحاسية من الضوضاء الشديدة ، عندما يعزف ، يصيح مدويا ، إصطدام مدوي للأذن ، أمر مثير وساخر للمارين في تلك الرحلة الرعدية ، يتقلبون يمينا ويسارا من جميع الزوايا عبر ترددات الصوت . ولكن من يسمع بنفس المستوى !!
جلس وهو ساكنا على الأريكة الرمادية ، في شبكة من العقد الفولاذية إمتدت من الجهاز الى غرفة الصندرة من جميع الزوايا حتى الأرضية وتقاطعت في فضاء الغرفة . الآن ولاحقا ظل عابس الوجه .

بعد مرور لحظات قليلة تتردد في مكان ما بالعمق شبكة رقيقة ، ثم بدأت مجموعة من العقد بالتشكل ، تنجذب للفور من الأرض وتنتفض بصوت أشبه بثقل من كارتونات البيرة ، طبل العزف الأوتوماتيكي يتزامن مع مؤشر الساعة . يبدو بأن الترددات الصوتية قادمة من مسافة بعيدة ، من أبراج الكنيسية المتاخمة . في نهاية المطاف ظلت عقدة واحدة ، تتشنج بصورة منتظمة مثل وحش زاحف . لم يهتم آكلي بتلك الحسبة لمعرفة متى يحين موعد الدقة الثانية عشر ، وعندما تجاوزت الثانية عشر ، بدلها مجددا بعصا، ثم ترددت الدقة الثالثة عشر و عاود العزف للفور .

نستطيع القول : يدوس بقدميه ويضربها بقبضاته ، ليس مرة واحدة ، ولكن مايكفي كي يتردد صوت خفيف حتى يتلاشى مصفرا ، حزينا ، متحشرجا ومصطدما . كان عملا جنونيا ، لايطاق . بتشنج إنتفضت العقد في كافة أرجاء غرفة الصندرة ، متصدعة تصرخ من الألم ، شيئ يتعلق بالموسيقى . لم يفكر بما يفعله ، لم يهدف الى ذلك . نظر الى مافعله ، كان جسده الذي يعزف عزفا منفردا. بعد زمن قصير إنتهى كل شيئ الى رجفة هادئة من صرير مصم للآذان . بعد ذلك إندلع صوت صاخب غير محتمل . متعرقا ، مصاب بكحة قفز على الأريكة غدوة ورواحا ، مطوقا بهدير وتأوه شعوري , الآن وفيما بعد مثل النحس . ثم تردد الصوت مرة أخرى , كما لو أنه بفعل قوة وحركة لامفر منها ، حتى تصطدم تلك العصي ببعضها ، تماما بنفس الترددات ونفس الأسلوب . أصبحت عيناه أكثر إتساعا ، فهم بأنه لم يعزف أبدا . ولم يقدر على تمييز دموعه من العرق.

كانت شرفات المقاهي في الميدان مزدحمة ، بفتور وتراخي جلس الناس خلف كؤوسهم . لم ينتبه أحد لمؤشر ساعة الأبراج . بعد الدقة الثانية عشر ترددت الثالثة عشر ، لكن لم تدخل سوى إمرأة كانت تحتسي كوب القهوة ، إمرأة ألمانية بظفائر مثل جمجمة فوق أذنيها ، لم تكن لديها رغبة في رؤية الكنيسة. مندهشا نظر الى ساعة الأبراج ، لكنه ضاع سريعا وهو متعجبا من جمالية وروعة البناء . كان كل شيء من حجر الإردواز الأزرق ، رفيعا ومشيدا بعناية فائقة . بدأ يشكك بجدية في لغتها ، بأن هيكل الأحجار لم تصنعه يد إنسان ولكن في ذلك الوقت من صنع السماء والأرض ، في اليوم الأول ، كان موجودا في الطبيعة، عندما لم يكن بشر هنا ثم
إكتشف لاحقا بعد مرور سنوات طويلة ، في غابات الشاطئ الأوربي ، يعود الفضل لهؤلاء البشر الذين شيدوا ذلك البناء حول مدينتهم . أوربما كان بفعل الموسيقى التي كان يفكر بها ؟

شيئ أشبه بموسيقى عسكرية تنطلق من خارج الأبراج ، حادا وصامتا يتردد قدما مع شعور بالزمن ، كما لو ساعة الأبراج لازالت تدق ساعة الظهيرة ، بعد الدقة الثالثة عشر لم تنقطع ، لكنها بلغت في النهاية الساعة التالية . كانت الموسيقى حوله بطيئة لاتقاوم ، جدية ليس من أنس العصور الوسطى وخاصة بالسياح فقط .الآن يتطلع الناس من شرفاتهم نحو الأعلى ، كذلك لم يبقى أحد هنا في الشارع ... واقفا هناك . غالبا تحرك تلك الترددات الصوتية مشاعر المارة بمافيه الكفاية وعلى الرغم من ذلك تخف حدتها وسرعان ما تتلاشى تدريجيا ثم تدوي الموسيقى من زئير الموتورات كشيئ مختلف وأكثر أهمية . دائما المزيد من الأحاديث القائمة . ثم خفت حدة الصوت ، عوضا أن يأتي من الأسفل ، ينجذب هاربا الى السماء الرمادية ، للأعلى و في النهاية سوف يحمل الكاتدرائية بأكملها ويؤخذها عند السحب ... للأبد سوف يختفي مباشرة ، يتساءل غير مصدقا ، فيما إذا هناك شيء مختلفا... متباينا .

ولكن بلحظة زمنية إنفتح كل شيء ولم يعد هناك مخرج مفتوح ، ثم يأتي الصوت المنجذب فجأة مثل سحابة ممطرة للأسفل وينهار فوق الميدان وجزء كبير من المدينة . ربما لن يخاف الناس في مثل هذااليوم ، لأنهم سبق أن قرأوا في زوايا الشارع ، خشية من الله ، أمنحنا النقاء ، لأن الأحكام السماوية إقتربت : الخميس 20 أغسطس 1953 ، نهاية العالم . كما لو أنه في الأبراج ليس المئات بل الألوف من الساعات ترن ، جلس الناس محدقين.. منشغلين بالصوت . من دوي حركة المرور . ليس فقط المارة اللذين ظلوا واقفين ولكن راكبي الدراجات ينظرون للأعلى . كما لو أن جنون البرونز المنشد للأعلى ، أيضا تراخي المعدن ثم تلاشى ، عزف ، غناء ، رقص ، أكثر مرونة من آلة كلافيسيمبل وأي آلة موسيقية أخرى تشبه البيانو.

مجددا عزف لامثيل له صعد للأعلى ، كما لو أن المعراج نقل ، حتى إنهمرت دموع المرأة ذات الجمجمة من مآقيها ثم يتحطم كل شيء بالقرب هنا أو في العمق الآخر ، حيث الظلمة والخوف ، حتى شعر قائدي الدراجات برجفة الخوف فوق ظهورهم، وسط هذا الكون ، عبر كل هذا يرى بشرا ساكنين ينظرون للأعلى في كل مكان بالشوارع ، كذلك وقف قائدي السيارات بعرباتهم عند الزاوية ،توقفوا سريعا بإنتظار رؤية عراك هوائي ، مذنب ، أو صحن طائر .لكن كان هناك الهواء المكتوم والموسيقى . فوق ذلك في المدينة يسمع من مسافة بعيدة صوت طرقعة الدراجات البخارية ، علاوة لذلك بدت جميع الأشياء غير متحركة ، أسفل سقف الموسيقى حدث إذن شلل ما ، حينئذ إبتلع العالم فجأة من الإنفعال .غابت السكينة .... الموسيقى غائبة . لا ، ليست غائبة : كان الكثير غائبا ، الغالبية ، تقريبا كل شيئ ، ولكن عندما أقبل عدد قليل منهم ، ليسوا مسرعين ، مكثوا أعلى المدينة بوهن لايمكن وصفه ، وهادف . الهواء والسكينة غير المشكوك فيهما ، تحولا فجأة إلى مايشبه جرح كبير مفتوح ، رطب ومرتجف .، أيضا في تلك اللحظات ولاحقا في آن واحد، هناك مجددا، أقبل التردد ، نغمة كاملة ، طرقة خفيفة , هتاف صغير يتناثر بين السحب . الآن ظهرت طيور الغراب السوداء الخفافيش والبوم تروع وهي تحلق في دائرة من جميع الزوايا خارج الأبراج ،ظلت تدور من قمة مرتفعة .
ينتشر في كل مكان في ذلك المدى هواء ثقيل ينقصه الأوكسجين ، إشارات خفيفة ، ضحكات كئيبة كما لو أن الأرض نطقت و أجابتها السماء .



(5)

رجل أحمر... ساكن


عندما وضع آكلي معطفه وهو عبارة عن رداء واسع فوق ذراعيه، قرب الباب المصنوع من خشب البلوط ، وطأت قدمه الممر ذو الأرضية المبلطة، ثم إلتقى مجددا جماعة من الألمان والأميركان . لايزال البعض منهم واقفا بالشارع ، يقف أغلبهم عند مكان مخصص لبيع البطاقات البريدية . لازال الزنجي ينف محتويات أنفه . لم يلاحظ السياح بأنه كان يتجول مثل الشبح في الكنيسة ، ولم يسمع صوت الغراب . في مقابل ذلك كان السيد دورنسبايك واقفا على عتبة باب مكتبه ، غائبا عن المغادرين الذين يهزون رؤوسهم وهم واقفين، وصل مسرعا عندئذ لمحه .

' آكلي...' بعينين واسعتين بقي بإنتظاره، لاهثا إلى حد ما ... عابسا ، إحدى يديه تواجه كم معطفه الفارغ . رآه مثل مدير سينما ميسور الحال . ' تعال الى مكتبي'... قال بحزم و إنفعال شديد ، معتذرا . إلتف حوله لكنه رأى آكلي وهو يحرك رأسه ، ماشيا الى بوابة الخروج ، مقابل المرأة بجمجمة يصطدم بأذنيها ، دخلت وهي منفعلة . بعد عدة خطوات إقترب منها .

- ' آكلي، يجب أن أكلمك ! لقد إتصل القس أيضا .'
- في ذلك الحين وهو في الشارع إنعطف باتجاهه ، ثم حرك رأسه سريعا .
- ' ليس اليوم ....، ليس اليوم.....'
ضرب دورنسبايك يديه ببعضما ثم هسهس : ' بحق السماء لأي أهداف تستخدم الكنيسة ؟
كان يبدو غاضبا من نبرات صوته . لم يتحمل آكلي حركات رأسه ، تردد لحظة ، وقام
بحركة سريعة بقدميه . فهم على الفورماحدث بسببه عندما كان في الأسفل . مرة أخرى
داهمه الشك بضعة أمتار للأمام، إستدار حوله نصف دورة ، مشى مسرعا للفور . بإستثناء دورنسبايك ، ظلت إمرأة ألمانية بعينين شقراوتين تحدقان فيه ، حتى إختفى عند الزاوية .
يتحرك الناس في كل مكان بجميع الإتجاهات ، مجددا إصطفت السيارات إلى جانب بعضها ، عند شرفات المطاعم ، يزاول الجرسونات أعمالهم مجددا . بعجالة وإلى حد ما مرتبكة ، عاد النظام مجددا إلى المدينة ، في مكان ما ظل شيء بالخلف ، بقعة رطبة ، إنهيار ، فساد هادئ
شعر آكلي بالجوع , عند زاوية الحارة و الميدان يوجد مخبر صغير للحلويات . كان يوجد شخص ، راديو يشتغل ، بالخلف توجد طاولتين وعدة كراسي، ذهب ليجلس ثم إنتظر . كان الجو شديد الحرارة . بجوع شديد نظرالى الباب الزجاجي ثم نادى على أحدهم ولكن لم يظهر أحدا .فجأة قدمت الخبازة لاهثة من الشارع ثم دخلت راكضة وبدأت تعتذر بالتفصيل . أغلقت الراديو . عندئذ طلب آكلي وجبة مكونة من خبز وبيض مقلي مع لحم خزير . ثم سألته : ' هل سمعت ، سيدي ؟'
- حرك آكلي رأسه .
-' ألم تسمع ؟'
لم يعد يحدق بالفتاة . كمالو أنه بعد تلك الدلالات والإشارات لم يعد بالحسبان ، ماعدا الأكل ، سرعان ماذهبت المرأة الى المطبخ . لاحقا أصبح صوت الدهن المنصهر مسموعا ، أيضا بعد أن تناول آكلي الطبق الثالث من وجبة 'سمايتر'* لم يعلق شيئا وإكتشف بأن كل شيئ يسير بالتمام والكمال . لايتعلق الأمر ببعضهما ، حصته وحصتها . بقي برهة من الوقت جالسا محدقا بالشارع . متخما طوى يدية في حضنه . بالنسبة إليه لاتوجد الكثير من التفاصيل . صباح اليوم يبدو بأن عاصفة رعدية شديدة قادمة ، فكر... لكن لم يحدث شيئ ، مجددا بدت السماء أكثر إنخفاضا ، لاحقا سوف يستلقي على الأرض ويضغط على جميع الموتى . إستيقظ صباح اليوم مبكرا أكثر من الآخرين . لايوجد شيئ إستثنائي ، إستيقظ فجأة تقريبا حوالي الساعة السادسة .

شحب وجهه ، بأصابع مرتجفة سحب النقود ، فجأة قفزت المرأة ، في ذلك اليوم الآفل ، ثم طافت في جميع الزوايا مجددا متجهة إليه . كيتيلار ، سبلايسترا ، بولاردس .. يجب أن يلغي الحفلة . على الفور مشى نحو التلفون وأخبرهم بأنه مريض .
- لا، بأنه كان مريضا عندما دعاهم . شعر بالغثيان لأن العذر مستحيل . ليس خجلا ، أوه .. فجأة لم يفهم بالتحديد، ماذا سيفعل مستحيل مايدور حوله . بكل عرق ينبض في جسده، حاول منع إقامة ذلك الحفل ، لكن ضد رغبته ، ظلت أمنيته الثانية ، المنيعة والكتومة إقامة الحفل .

لدى مغادرته المحل سحب معطفه أشبه بسكران يجره خلفه .يتواجد الناس في كل مكان . عندما وصل إلى محل الزهور ،ويبعد مسافة منزلين للأمام ، توقف في الداخل ، كأنه عازم على ذلك . في الطريق البدائي ، توجه نحو منطقة الباصات محاطة بالقرميد . ' إشارات المرور ' ، قال أحدهم خلف المحل ، إشارات المرور ، الأحمر، الأخضر ، البرتقالي ، الأحمر ... كل شيئ ساكن ! لم أرى مثل هذا الهراء من قبل . متصفحا الورود ، إنطلق بإتجاه أحد الشوارع ،لدى عبوره الميدان إكتشف بأنه منذ تلك اللحظة ، لا داعي لإختلاق مزيد من الأعذار ، كي يحاول منع إقامة
الحفل... يجب أن يقام ؟ حسنا ، سوف يقام ، لكن بعد ذلك لن يرى أحدا مرة أخرى .

بعد لحظات مر بأحد محلات بيع ستلزمات الأعياد . كان الباب يصلصل ، ظل لوحده . خلف أحد الأبواب، حيث كانت تدور في الممر محادثة ملتوية شديدة .نظر بعزم إلى محفظة نقوده الملونة الموله بها . يجب أن يكيف نفسه بما تبقى من نقود بقية الشهر . ألقاها على منضدة العرض ثم إشترى مسدسا مائيا . كذلك كتابا رقيقا بعنوان : الرجل الذي لم يعد يتذكر النص الكوميدي للسيد رقم واحد .

بعد ربع ساعة وصل بحمولته الى المنزل . بقدم واحدة سحب باب مدخل المنزل
ليفتحه، ثم ذهب ماشيا بهدوء السلم المنحدر ، بدون أن يتأمل خطواته . تشبع رأسه بروائح الورود . رأته السيدة هينكس ، منذ قليل عندما تقابلا عند فسحة الممر المتجه من المسكن الى السلم في الطابق العلوي .' أوه سيد مورتس ، أنت مجددا ! نادته محدقة . كنت منزعجة بشأنك . هل أخفف عنك شيئا ؟ مالت على الفور نحوه ،برفق سحبت الورود من بين ذراعيه . كم هي ورود جميلة ! هل حصلت على كل ذلك ؟ سيد مورتس ، كم هي ..كم هي ...جميلة . أصبح وجهها أحمر ، ثم أخذت تبكي . من بين الورود نظرت إليه .
- أظن بأني سأموت بحادث ما .
- متفاجئا من الدهشة نظر آكلي إلى دموعها التي كات تنهار على الورود .
- لماذا ؟
- سألها مرة أخرى ، لماذا ؟ منتحبة نظرت الى وجهه ثم وضعت خدها على الورود.
- دعنا لانقف هنا ، همست. هل تأتي الى المطبخ .
- تبعها مترددا ، في لحظة من الزمن لم يفهم حقيقة ماجرى لها تحديدا . كانت نافذة المطبخ مفتوحة ، في مستودع البضائع الذي يقع بالناحية الأخرى من المنزل ، كان الرجال يحملون البالات . وسط كل هذا الخشب ، تشققت ألواح كانت مطلية باللون الأزرق الصلب . وضعت سيدة هينكس حزمة الورود على منطقة حوض الغسيل ثم مسحت دموعها .
- هل تناولني تلك الأشياء ؟ سألته ثم أشارت الى العلب والدزينات التي كانت بين ذراعي آكلي
لا...لا ، شكرا لك يجب أن أبدأ مباشرة بالعمل .
- الى العمل ؟ ولكن ..
- في غرفتي ، قال آكلي مرتكبا ، أنا ....
لم توجه السيدة هينكس إليه مزيدا من الأسئلة ثم مسحت عينيها مرة أخرى .
أوه ، كم هي جميلة : سيد مورتس ، جميلة جدا ، أنا ممتنة لك . إنه أجمل يوم في حياتي . كنت أنوي القيام بالتسوق ، عندما كنت مارة بكوبر في الناحية الأخرى ، كان محتشدا بالناس وكان يجب علي الإنتظار طويلا . ثم بدأت أنت ، سيد آكلي . فجأة صمت الجميع و تسلل الجميع بهدوء الى الخارج ، أيضا كوبر ، كل شيئ أصبح ساكنا ، السيارات , توقف الجميع عن العمل ، يتدلى الناس خارج النوافذ ، هذا كان حال المدينة في تلك الساعة ، سيد مورتس . حتى الأطفال ذهبوا بهدوء للجلوس على حافة الرصيف . وبين الأسطح كنت أنظر إلى أبراجك العالية ، الساكنة وأستمع ....
- هدوء ؟ صاح آكلي فجأة ، تصدع ، بؤس ، شقاء ، غضب ، هواء متعرق .
أوه لا ... سيد آكلي يجب أن لاتتفوه بذلك الكلام ، المدينة بأكملها كانت ساكنة ثم نظرت للأعلى وإستمعت إليك .. عندئذ إعتقدت ، سيد مورتس ، عندئذ إعتقدت : الآن سوف يتوقف الزمن ويهبط سيدي المسيح وذكور الأغنام .
- إحفظ لسانك !
مرتجفا نظر إليها ، حينئذ مشى فجأة بإتجاه الباب . لكن وقفت السيدة هينكس على الفور مقابل الباب ونظرت متوسلة كما لو أنها لم ترى بشرا من قبل .
أوه أرجوك لاتغضب مني ، أرجوك من فضلك لاتغضب مني اليوم ، وشوشت ، باكية حركت رأسها في موازاته ، بينما يدها تمسك باليد الأخرى ، أظهرت بذكاء وجهها المتغير المعالم . أنا غير محظوظة ..... همست من خلف حنجرتها .
- نظر إليها ، فجأة أجال بعينيه ثم أحضر معطفه بإعتدال .
- أنا لست غاضبا منك ، قال بتجهم . ليس على الإطلاق .
- اليوم هو عيد ميلادي . لست أقصد شيئا مما قلته . مرتبكا من الدهشة نظر إليها .
تراجعت السيدة هينكس للخلف ، يديها فوق فمها ، ظلا عابسان لعدة ثواني .
- أنت ؟ هل هو عيد ميلادك اليوم؟ رددت . ذلك .. أعني ! من عيد ميلاده اليوم ... هل المنتقى أم الملعون !
- كلاهما ، تمتم آكلي . شد ذراعيه للأعلى ثم نظر إليها . يجب أن تضعي بحسبانك، بأنني سوف أقيم إحتفالا ، دعوت إليه بعض الأصدقاء المقربين . سيأتي فقط الرجال ، أتمنى أن تكوني قد فهمت ما أقصد .. وإلا كنت دعوتك . سوف أذهب الآن لتزيين غرفتي .
- أطلقت صيحة تأسف ، أرجو أن تتفهمي الموقف بكل رحابة صدر وتضعي الورود هناك في الأعلى.
لم تتفوه السيدة هينيكس بكلمة . داهمها شرود مفاجئ . بإذعان وضعت باقة الزهور في المعطف ، قتحت الباب لآكلي ثم أغلقته على الفور خلفه .فوق سلم العلية سقط منه جذع من زهرة الأقحوان *. عزم على إحضارها مباشرة ، لكن يبدو بأنه نسيها في غرفته . ألقى كل شئ على الفراش ثم نظر بأريحية بشفتين متأهبتين ، فجأة حك يديه بقوة ، وأخذ يقهقه بصوت عال مثل إمرأة عجوز . يتدلى ترمومتر حراري كزهرية . فتح النافذة وبدأ يرتب الزهور . هل يذهب الآن لزيارة السيدة هينيكس لإستعارة الزهرية؟ إنها تكن له ودا خاصا . يجب أن لايغفلها . أحبته من الثانية الأولى ، لاحظ ذلك على الفور . كان يجب أن لايستأجر تلك الغرفة أبدا . ولكن ماذا يشعر تجاهها ميل ، عشق، أراكادابرا* ، زهرة أوركيد سوداء فوق رأسه . كل شئ مستحيل . ترك حوض الغسيل يمتلأ ثم وضع الزهور بداخله . بإصبعه الوسط أخذ بعض الطلع من حزمة الورود ثم دقها بيد الهاون بينما كان يقهقه ، ويردد : لذيذ ....لذيذ ، قفز قليلا للأسفل . غرز لوحة كتب عليها :'مرحبا' في الخارج فوق الباب ثم بدأت رقاصات الساعة تدور في الغرفة .

لقد قام بعمله بمنتهى الدقة . كل لحظة فحص العمل الذي قام به في كل زاوية بالغرفة ، في نفس الوقت أعاد ترتيب الأشياء مرة أخرى ثم نسقه بأسلوب آخر من جديد , تساءل مع نفسه فيما إذا كانت آلة الجراموفون القديمة لازالت تعمل . التي تعود لخمس وعشرين عاما خلت . مع بعض الأشياء المبعثرة الأخرى وقف على الصندرة*، يجب أن تكون بعض الصحون تلاتزال موجود . وهو يكح تسلق بشفافية الأشرطة الملونة فوق المفروشات ، تدريجيا إختفت بطانة السقف الداخلية المهترئة خلف الألوان .. لأكثر من ساعة ورأسه محشورا بين تشابكات الأوراق ، كان مستترا خلف الألوان . مخشخشا جذب طوليا أذنيه . كأنه يشم بأنفه رائحة حفل عفنة ...أشبه بسهل خالي من الشجر ، قاحل.إستعد قدما في رأسه . كان شاحبا : فجأة شعر برغبة في التقيؤ .. فتح لسانه ثم أخذ نفسا عميقا لكنه لم يتحمل ، مصابا بالغثيان ، مشى للأمام عبر الألوان ثم غرز الورق في الألواح الخشبية العفنة .

لم يتبقى وقت كثير في المساء، سيتولى بمعية خمسة رجال تزيين القاعات ، بمعاطف رمادية فوق بدلات السهرة السموكنج . في الأسفل يعيش كانبر حيث كان يعمل سابقا بفن الكاريكاتير ورسم الشخصيات الساخرة ، بانت دمى عرض الواجهات مع صف الجاكيتات وملامح أساتذة جامعيين معروفين ، وقف على السلم واضعا اللمسات الأخيرة على زينة السقف . لم يستطع رفع ذراعيه . عندما كان مشغولا بوضع أشرطة ديكسيل فوق المنصة ، قدم أفراد الحفلة الموسيقية فوق السلم ، كانت قصاصات الورق الملقاة فوق السلالم قد تمت إزالتها ، ندم بما فيه الكفاية ، لأنه سيذهب لتلك للحفلة . سوف تأتي ماريولين لاحقا ، سوف يحضرها كيتيلار بسيارته . يجب أن يفعل شيئا آخر : إعلان رسمي مهين يعلقه في مجتمعات أمستردام ولايدن ، وليس عملية خطرة مكشوفة ، حيث يستعين بالبستاني مضيفه وخادم من منزل الضيافة في منتصف الليل ، بدت الحفلة الراقصة على أكمل وجه . جلس مورتس في البار بالصالة الصغيرة، حيث وضع فتحة السلم تحت رقابته . لازال الناس يتوافدون للأعلى ، تعرف على نصف الوجوه تقريبا ، في تلك اللحظات تدوي في الغرفة الكبيرة ولاحقا أصوات الفرقة الموسيقية عبر الصخب المنتشر . في الطابق العلوي توجد أيضا بعض القاعات الصغيرة ، لكن السلم كان مغلقا بفعل الكابلات . عائق صغير الحجم لمن يهوى الإبتهاج بكل حرية . ترك كرسي البار ينزلق ثم توجه للصالة الكبيرة لتفقد زينة الحفل . للأسفل تتماوج فرق من الراقصين الرائعين ، يتمايلون مع بعضهم مع النغمات وحول الكراسي والطاولات الفارغة ، تلاشى تعبهم تدريجيا عبر نغمات الموسيقى ، توجه لخدمة الضيوف ثم وقف إلى جانب الفرقة، كانت آلة الكلارينيت* تتأرجح مثل جديلة رائعة من الصوت حول الترمبون* ، خامره شعورمجددا، بأنها ذات قيمة مادية كبيرة أو ماشابه ذلك ، ثم حاول تخمين ذلك بإستخدام تحليلات فيكتور ومقارنة الفروقات مع بعضها . عندئذ إبتعد الإثنان عن طاولتهم ، إرتفعت في الصالة الأخرى أصوت صراخ . أصبح ظهور أشخاص قصار القامة وضخام الجثة جليا ، ثم إنفلق مرتفعا مثل قطعة فاكهة، كشفت عما بداخلها ليكسر، ماريولين وإثنان من فرقة العراك . إنقطع الهواء في جوف القاعة . كان البنطلون الأنيق للخادم ممزقا حتى ثنية الفخذ ، بينما معطف البستاني يتدلى محلقا ، بدت قبعته العالية فوق رأسه والهارمونيكا كأنهما تتعاركان مع بعضهما . رآه أشبه بمدير لمستشفى المجانين . مبتهجا نظر حول نفسه ، كيتيلار أقل إبتهاجا ، يوجد رباط دموي حتى نصف وجهه . يتأبط ماريولين بذراعه . متوسطة كل هؤلاء المحافظين ، ماريولين . رمش مورتس بعينيه ، بلا إنقطاع تصاعد الموقف في الصالة ، ثم زمجر صوت عال مزعج مصم للآذان ،أحدث ضجيجا ... للأبطال ذو الشعر الأشعث أو من يقف خلفهم ؟

على الفور إستطاع مورتس أن يركض سريعا فوق أرضية الرقص متجها إليها . لم يرها جميلة .. كبيرة مثل اليوم ، تماما مثل خادم الجثث بدت ضاحكة أعلى ليكس والبستاني . وضعت يديها بالوسط ، ذهبت للوقوف بقدميها ثم قبلها ، في زاوية ما بالقاعة ، بقنينة نبيذ تتوسطه ، ظلا ساكنان يتطلعان هنا وهناك . لم تتمكن من قول الكثير، أسفل خصرها،
كان فخديها الناميان ماثلان للعيان ، هناك تنهدت الطبيعة عميقا وتفوقت على نفسها . عبر بيجامتها رأى فخذيها العارين . كانت دائما عارية ، في المنزل تغلق الستائر ، تنام أو تقرأ كتابا ؟ بعدئذ تنفذ العقاب بمن حولها تضربهم بصمت : هدوء حيواني، بينما يشبه النبلاء جسدها بالمعتوه، ومورتس آكلي بالقرد الكاسر الذي كان قائدا لمركبة الجيش .

ضاحكا .. تأملت دهشتهم ، لم تنبس شفتها بكلمة ... بصوت مكتوم قال نفس الشيء : أحبك .
-تبدو زينة الحفل جميلة جدا !
ثم تحدثا حول كيتيلار . يوجد جرح قطعي بإحدى زوايا عينيه حتى الفك السفلي . في لايدن إنخرط في شجار نجم عنه ذلك الجرح . يبدوبأن أمرا ما قد حدث .بينما كان النادي فارغا تماما ، ظل الباب مفتوحا . تحديدا عندما كانت الملصقات معلقة ، إندفع من كل الأبواب وخلف البوفيه خمسين رجلا من لايدن . وحدث ما حدث ثم هربوا بآخر لحظة . ضحك مورتس ثم مسك يدها .بعد مرور لحظات قدم زنجي للوقوف عند طاولتهما وطلب منها الرقصة القادمة . بواسطة الضوء ظهر في وجهه شق ما ، حيث لمعت عيناه و حركت ماريولين رأسها بطلف إيجابا .
-ربما لاحقا ؟ فجأة إنعكس ضوء أسنانه في إفريقيا
لاحقا .. ربما ، قال مورتس . إنحنى الرجل مختفيا . ضحك مورتس . هل رأيت النمور في عينيه ؟ والمعترشات*.
- هذه رأيتها مسبقا في عينيك !
- إذن دعنا نرقص .
كان الرقص بالنسبة لماريولين كل شئ . ربما تقضي أسبوعا كاملا ، نهارا وليلا ترقص بدون أن تشعر بالتعب . بمجرد أن تسمع صوت الموسيقى ، ترقص بالخيالات ، عارية مجرد إختلافات غير معقولة . بعد مرور دقائق نظر إليها مورتيس بألم ظاهر للعيان .
- هل تجدين ضررا إذا توقفنا ؟
- لابطبيعة الحال أيها الوحش !
ثم أرغما على مفارقة الحشد ، سكب مورتس الشراب .
- كنت أتمنى لوكنت موسكوس *، قال.
-ليس بعد؟ سوف تصبح لاحقا . لديك بما يكفي من الموهبة .
لا قال ، كنت أتمنى لوكنت فعلا ، لا..لا أتمنى ذلك ، إن رجال الموسكوس يخيفون الناس ، لذلك فهو منفصل عنهم . يقف على المنصة مقابل العالم أو عند حاويات النفاية . أنا أريد الوقوف معك بالمنتصف ، في كل مكان تبرز قرون إستشعار .
كنت أتمنى أن أكون ثائرا . أجلس إلى جانبك بالصالة، يدي بيدك ، في نفس الوقت، ينظر جاري بأذنه بينما تظهر زوجته أمامي برقبتها. أعتقد بأن مشاعر الفنانين باردة ،لن أندم مطلقا لو أنك تركت بعيدا تلك البراغي المروعة والآلات .
- العصاب القديم* ! ضحك موريس
قبل سنوات خلت وقف معها أمام إحدى واجهات المحلات المليئة بمعدات الراديو ، المصابيح ، مكثفات ، ملفات كهربائية ، محولات ، مولدات كهربائية، دوايات اللمبات الكهربائية . كل ذلك الضجيج من الحديد والزجاج . فجأة أصبحت ماريولين شاحبة ثم جذبته معها .
حاولا بعض الوقت تقصي الأمر ، لم تستطع سوى الإعتراف بأنها تشمئزمن تلك الأشياء ، تشعر في جسدها بالقئ كما لو أنهما كانا جيفتان ، في نهاية المطاف لم تنوي الحديث بشأن ذلك الأمر . مكثفات.. ملفات كهربائية ،وزن الأمر في رأسه ، ربما يكونان بشكل أو بآخر النقيضان للرقص والعري . لكن من يعرف ذلك؟
أنظري ، قال مورتس ، يستطيع الرقص أفضل مني . أشار إلى الزنجي ، الذي كان يرقص مع فتاة أخرى. متجها قليلا نحو ركام كبير بين الطاولات الأولى .
لكنه يعرف الكثير حول الرقص وبمقدوره تقديم الأفضل ، فجأة يبدو بأن ما يقدمه الآخرين ليس له علاقة بالرقص . حاول الجميع بذل أقصى جهد للرقص مع الموسيقى ، في كل مكان ذراع مشبوكة بالأخرى ، أو بالمؤخرة ، أو رمشة عين . لكن رقص الزنجي إشتد ، هدوء غير مفهوم ، مفعم بالحركة ، في مدرسة الرقص يوجد عالم ثاني ، حيث الرجل الأحمر ، ساكنا فوق أرض سوداء .
-نظر مورتس لماريولين .
- لعلك لن تتفق معه ؟
- هل تلمح تلك السكينة ؟
- سوف يأتي مباشرة .
- سوف يأتي بعد إستراحة الموسيقى .
تعليقاتي ، قال مورتس ثم جالت في ليل وجهه ، حصلت الآن على شريك يستطيع التغلب
عليك ، عكس ماريولين . لن أدعك تحكم طويلا . حصرا فيما بعد سويا بين الأجساد المحتشدة . أخذ مورتس يبحث عن كيتيلار ، عندما رآه يمشي في حلبة الرقص، رأى تدريجيا بالمنتصف حلقة ظاهرة حول ماريولين والزنجي ، بينما كان كيتيلار بالصالة الأخرى عند البار. حيث يوجد عدد كبير من الشباب الثمالى الذين يهدرون بصوت عال ومزعج . بعد مرور دقائق قليلة تحرك شيئ للأعلى وللأسفل ، تجلجل أصوات صراخ وضجيج . حول سور البلكون أصبح الصراخ أقل حدة . 'هناك لايدن!' زمجر أحدهم . للفور إنتشر الرعب ، أجبر الجميع على الصراخ عند فتحة السلم ، فتيات يصرخن بشدة يهربن سريعا . في الصالة الكبيرة كان الوضع أكثر هدوءا وإستقرارا ، الموسيقى تحرك مشاعر الجميع . حدث عراك شديد، عند السلم على الرغم من أن اللايدنارس* كانوا مخطئين ، يجب أن يضربوا للأعلى ، فجأة أصبحوا في الطابق العلوي ثم وسعوا دائرة العراك، ، دماء وفيرة وتمزيق ، لقد إنتشر النبأ في صفوف الجميع . غنت الفرقة أغنية حربية ، من خارج الصالة الكبيرة ظهر جميع الراقصين بأكمام القمصان خلف ظهورهم يشتد صراخ الفتيات المحرض .تعارك مورتس لدقيقة أو عشرة مع أقوى الموجودين في نظره . إرتطمت الضربات بالأسفل وعينيه مغلقتان أكثر مما هما مفتوحتان ، لكمه أحدهم للخارج . أدى الصراخ إلى آهات مسموعة، أصيب في منتصف وجهه . لماذا لم يكن أحد رجال الموسكس المحاربين ؟ سأل نفسه فجأة . لديه ما يكفي من الموهبة من جهة أبيه . لن تصاب ماريولين بالشحوب من البراغي وسوف يحصل في نهاية المطاف على مزيد من العري والرقص . كل فنان هو زنجي ، فكر هو والسكينة حوله . مع جهاز البيانو يستطيع أن يعزف مايريد ، له عم وصي ، لم يعلمه قائد الأوركسترا دق الأجراس الموسيقية . العراك ، الرطوبة ، التفكير بالمستقبل ، كلها أشياء جعلته قويا أكثر من قبل . ربما لايختلف الوضع مع أمه ، لقد كانت متزوجة من قبل والأموال التي درس بها هي أموال أبيه . كان يستطيع أن يفعل مايشاء بلكمة شديدة بإتجاه أذنه أصمته . عندما إسترد وعيه أراد معرفة مكان تواجد ماريولين . في غضون ذلك وصل عتبة الصالة الكبيرة ثم تراجع . باحثا بعينيه بين صفوف الفتيات اللاتي كن يولولن ويصرخن بشدة من الألم خلف الطاولات والكراسي . لم تكن بينهن ، بلغت الفوضى والإزعاج حتى بطانة السقف، عبرآلة الغيتار تجلجل إسطوانة ' خوديمس إيختور ومارسيلياسي' تم حرق دميتان وإلقائهما من النافذة .

'ماريولين'.... زمجر ، تخطى عتبة الباب ، وسط اللايدنارس . في الصالة الصغيرة حيث تقف الفتيات خلف البار وهن يصرخن ، لم يلمحها ، عندذلك إنهار كل رباط بينهما . 'ماريولين تلقى صفعةقوية بوجهه وتلتها أخرى . بأنف نازف تدحرج على السلم الذي يؤدي للأعلى . فاقدا الوعي من الألم حك يديه وقدميه للأعلى .إلتفت درجات السلم لليمين حيث يجلس في كل مكان شباب يلحسون . بينما إستلقى البعض في الممرغرقى بقيئهم . ماريولين، صرخ مجددا . بأسفل قدميه قذف الباب فاتحا. في الصالة الأولى ترقد فتاة شاحبة شحوب الموت على الأرض بينما يركع بقربها شاب متوتر الأعصاب لقد غبت عن الوعي ، قال . عبر النافذة المفتوحة لاحت أرداف الفتيات والشباب الذين كانوا يقفون بالخارج . أما الباب بفتحة صغيرة مستطيلة ركله فاتحا : شابين ببدلة سهرة يصرخان برؤوسهم المحمرة وأقدامهم الباردة يتجادلان . في الصالة الثالثة لكزه صوت إنطلق من مكان ما في الداخل .
- هل أنت هناك ماريولين ؟
- أف ، إحفظ لسانك ، قال صوت رجالي .
كانت الصالة التالية مظلمة ثم أشعل الضوء . في منتصف أرضية الغرفة أسفل طاولة ، تضطجع ماريولين بقدمين متباعدتين ، مائلة بجسمها للخلف ، متحدثة وضاحكة إلى شجرة مليئة بالبركيت * تنورتها للأعلى وفي أحضانها الزنجي ، أشكال مختلفة من الحركات ، ساكنة ، فوق أرض سوداء .... بالحائط ساعة عالية مطلية باللون الأسود .



(6)

الذي قال بأنه آت ، وأتى ماقاله.
هو لايعلم بأنني ولدت في نهاية عصر المسيح
سباستيان برانت ، شاعر ألماني (1457 -1521 )

كانت الساعة تشير الى التاسعة . إستلقى آكلي مائلا على بطنه فوق الفراش ، نائما ووجهه على ذراعه ، تتدلى قدمه للأسفل مع موطأ قدم على الأرض . يبدو كأن بطانة السقف الداخلية المزينة إنهارت . سمع صوت طرق خفيف متواصل على الباب . فجأة رفع رأسه و نظر بعينيه المرمشتان نحو الخارج ، إستيقظ على صوت المنبه ، عرف بأنه كان نائما، في الحال داهمه شعور رائع طويل . ذهب للجلوس على حافة الفراش ، بدأ بالسعال في الداخل .
كانت السيدة هينكس تمسك بذراعيها باقة من زهور الاقحوان وتنمو في الربيع ، بقي مندهشا واقفا على عتبة الباب .
- سيد مورتس الغرفة بكاملها مزينة ، مشى ببطء إلى الداخل .
أطلق صيحة ألم وتأسف بعد أن رأى باقة الزهور الجميلة ملقاة في سلة الغسيل .
كان بمقدورك أخذ بعض المزهريات الموجودة عندي ، رددت قائلة . هل لازلت غاضبا مني ! حرك آكلي رأسه وهو يكح . أما السيدة هينكس فأغمضت عينيها ، ووضعت الزهور على الطاولة .
- كانت تلك الباقة موجودة على السلم ، قالت وهي شبه ضائعة وتقريبا ذابلة .
بدأ آكلي ينهج من نوبة السعال ثم صمت . شعر بتعب مؤلم ، النوم جعل رأسه ثقيلا وكأنه مسدود بالقطن الطبي . نظر الى ساعته ، نام خمس ساعات على الأقل ، لكنه لايتذكر بأنه كان مستلقيا . على الرغم من أنها أظلمت ، لكن لايزال هناك دفء يصعب تحمله ، يقبض على
الأنفاس . لم تنفذ أي تنهيدة عبر النافذة الى الداخل . تتدلى رقاصات الساعة ساكنة .
- تساءل: لماذا لايوجد أحد؟
مجرد تخيل وجود حفلة جعله يشعر بالنفور ، مفعما بالكراهية نظر إلى الزينة . حينئذ الى يد السيدة هينكس وهي تحمل الباقة بيدها ، فيما بعد وهو يستخبر وجهها . آنئذ ضحكت بعينين لامعتين ، نظر مرة أخرى من داخل حضنه خائفا من اليد . هل يجب أن يمسك بها ؟
- قام مسرعا .
لازالت طويلة ، سنوات طويلة ، سيد مورتس.
- أخفى إحدى يديه بالأخرى ثم ضحك وهو متعب .
- كيف ألخص ذلك ؟ لن يتلاشى العالم ؟
- سقطت السيدة بوجهها من الضحك على الأرض ، إبتلعت ضحكتها بتعب ظريف ،
ظلت ترمقه وهي غير معتادة .
- ' لاأعلم تحديدا ....' قالت بتنهيدة ، متسائلة قليلا . توقف آكلي أيضا عن الضحك . تنهد ثم أغلق عينيه . ظل سعيدا هذا اليوم لفترات متقطعة ،لم يتغير شيئ في حفلة عيد ميلاده . إكتشف أيضا في غمرة دهشته عدم وجود أحد ، شيئ يتعلق بالخوف يمنع أي شخص من المجئ . . هل يقضي تلك الأمسية بتزيين الغرفة مع السيدة هينكس ؟ هذا مستحيل , ' أنا .. لقد فكرت طويلا ظهيرة اليوم ، عندما صعدت للطابق العلوي ، سيد مورتس . أعتقد بأنك أنت من خططت للعبة اليوم .
- في بادئ الأمر ... في حقيقة الأمر بسبب .. كيف أقول ذلك ، من الصعوبة القول ..
لأنك كنت غاضبا مني ظهيرة اليوم . لذلك .. أنا .. سيد مورتس ، أنا ... ' .

قطب آكلي حاجبيه للأعلى ، بجفون مغلقة ، لم يجرؤ النظر إليها ، خامره شعور بأنه في كل لحظة سوف يتلقى ضربة على رأسه . ولكن يجب على السيدة هينكس ، اللف والدوران .
إعذرني ، لقد نسيت تهنئتك كلية ؟ كنت أجهل عيد ميلادك ، تعيش دائما لوحدك ، لم يدر في
خلدي بأنه عيد ميلادك . لاهذا ولاذاك ، قال آكلي ثم فتح عينيه . بنفس اللحظة دق الجرس

- ربما قدم السادة ، قالت السيدة هينكس بخيبة أمل ، ' وأنت لم تتناول الطعام !
هل أفتح الباب ؟'
- ' لا، دعيك من هذا الأمر ، أنا ذاهب لأفتحه . ' وقف أمام الباب . ' أفهم بأنك لست غاضبة ، بأنني لم أدعوك وسط هؤلاء الرجال ' .
' لا بطبيعة الحال ، سيد مورتس . هل بمقدوري مساعدتك ، بالأكواب ، أو .. أوه سيد
موريس ، أنت .. تناولت علبة من مريلة المطبخ .
- هذا من لطفك ، ضعها جانبا ، سوف أفتحها في الحال .
مشى السلالم مسرعا بأقصى ما يستطيع ، كان قلبه يخفق من حنجرته ، عند الردهة شد سريعا يده من يدها ثم جذب ربطة عنقه لليمين . شحرج حنجرته مثل مدير الفندق ثم سحب الباب فاتحا .
- وقفت السيدة بولاردس عند الرصيف ، صغيرة بالأبيض .
- هل من مفاجأة ؟ ضحكت هي .
- بدأ آكلي يتلعثم لكنه لم يقع بالهاوية .
- هل أدخل ؟
- صامتا إنتحى جانبا ثم تركها تمر ، ظل متسمرا ينظر إليها ممسكا بقبضة الباب .
- هل تريدين المغادرة ؟ تعرفين الطريق .
كانت ودودة . أغلق الباب خلفها وبعطرها البني الكستنائي الذي تسرب إلى أنفه مشى السلم . رأسه يتقافز من الدهشة . أقبلت السيدة هينكس إلى الفسحة ، واقفة على السلم . إنتظر حتى نزلت للأسفل ثم جاءت السيدة بولاردس لتقف إلى جانبه . ثم حدث شيئ عجيب . بوجه مستغرب ظلت السيدة هينكس واقفة على عتبة السلم تنظرللسيدة بولاردس ، لاحقا إليه . ثم تغيرت ملامح وجهها فجأة ، حدث شئ مروع ، إختفت بعدذلك في مطبخها .

بفم مفتوح من الخوف نظر آكلي للسيدة بولاردس ، التي كانت تضحك بملامح راسخة وهي تنظر إليه . خلف الباب تدوي أصوات نواح . كان يحاول فتح الباب بسرعة ، لكنها أقفلته .
' سيدة هينيكس ' لم تبدر منها أي إجابة . لم يدري ماذا يفعل ثم ظل شارد الذهن يدور ذهابا و إيابا. فجأة مشى مسرعا سلم الصندرة . في الأعلى حاول توضيح الأمر للسيدة بولاردس لكنها قالت: لاشيئ . لاتتحدث عن الأمر .
- مرحبا ، قرأت وهي ضاحكة ماهو مكتوب على اللوحة ، ثم توقف قرب عتبة الباب : أوه .. كم هو مؤنس هنا ! لمن هذه الأزهار ! هل أنا الأولى أم الأخيرة ؟
- حاول آكلي بذل قصارى جهده كي يضحك . قدم لها الكرسي ، ثم قام ليجلس على حافة السرير وصمت، متوجعا من التفكير المتواصل بالسيدة هينكس .
- أعتقد بأنني يجب أن أوضح لك الأمر ، سيد آكلي ، همت السيدة بولاردس بالكلام ، غيرت شيئا في تسريحتها . مانويل لن يأتي .
- نظر إليها آكلي .
- جلس في المنزل منشغلا بملحمته الشعرية لايعلم شيئا .
- هكذا إذن !
- ' لم أره '
- هكذا إذن ...
- هل تريد سيجارة ؟
لا شكرا لك ، سوف أسعل . مندهشا تناول علبة عود الثقاب ثم قدمها إليها . أوه ، عذرا ، قال ، ثم أشعل لها السيجارة . ليست نفس المرأة التي رأيتها في ذلك الصباح . الله يعلم من تكون، كان متخوفا منها . بدأت تدخن سيجارتها صامتة تنظر للأرض . في عتمة الظلمة المتسارعة يبدو كأنها قصت من ورق الحرير الياباني . ترتدي قبعة فوق رأسها رائعة مثل المسرب الذي يضعه الباحثين أسفل المايكروسكوب . الآن وفيما بعد كان ينظر بخجل إليها , تجلس بقربه بدون علم بولاردس . كانت تداري ذلك . أراد الوقوف لفتح المصباح لكنه عدل عن رأيه وبقي صامتا . لم يفارقه التفكير بالسيدة هينيكس .

لقد سمعتك اليوم وأنت تعزف ، سيد آكلي ... فجأة بدت السيدة بولاردس على الرغم من ذلك كأنها فاقدة الصوت . لا أستطيع قول المزيد .. نظر آكلي الى الأرض ثم صمت ، بعد مرور برهة سألها : ماهو رأيك بالشعر الملحمي ، حيث يعمل زوجك ؟ على الفور فتحت السيدة بولاردس سجلا آخر . الشعر الملحمي حول الذرة ! قالت ضاحكة . هل أخبرك شيئا عنه ؟
ثم حدثته عن ملحمة الشعر الأبدي ، حيث يعمل بولاردس منذ خمسة عشر عاما . أطلق على بطله إسم ' الرمز' ، عندما تتحول ذرات المياه إلى أشكال أخرى ، متأثرا بكتاب ' حول الطبيعة ' للفيلسوف الشاعر لوكريتيس رفيق يوليوس قيصر الذي كتبا شعرا جميلا حول الطبيعة ومات . قبل خمسين سنة من ولادة المسيح، بأسلوب شاعري علمي وصف بولاردس كيف تنشأ الذرة بطريقة غير مفهومة من ' الفراغ والزمن' ثم تنفصل بواسطة الأيونات إلى غمامة بدائية . بعد ذلك تسترجع عبر آلاف الهيكسميترات ، ثم تسقط في ' لوس ألوس' الشمسي ، بدا بولاردس عصريا في تصويراته ، بعدذلك تسقط تدريجيا في الأرض الملتهبة الباردة . هناك في طريق زراعي على جانبه أشجار ، ثم تتوحد زوجيا بالأوكسجين ، دائريا ملايين السنين في البحر الأرخسيسي . بلغ بولاردس إرتفاعات عاطفية كبيرة في تأسيس ذلك الإرتباط المائي الدائم .

وعندما حضر الزمن ، تبعا لقواعد بولاردس السرية و التحولات ، ولدت خارج الفضاء الجوي أجسام من الفراغ ، ثم بدأت بالتشكل عبر الغلاف الجوي ، حيث إلتقت بالمادة ثم تطورت إلى مانطلق عليه اليوم الحياة . أطلق عليها أيضا ' مبادئ العهر' ، ضحكت السيدة بولاردس و تحسست تسريحتها .ثم بدأت أولى علامات طريق الآلام عبر الخلايا التي تشبعت بالطاقة ، ثم ظهرت الحيوانات ذات الخلية الواحدة ، والإسفنجية ، التي ترى دائما بفجوات كبيرة حيث
يدخل فيها الماء مجددا . بحذاقة توصل بولاردس لفهم طبيعة ذلك الشد الزمني الكبير للتزاوج
المتجدد ،بناء على ذلك إستوحى أفكاره ، نوعا ما ذكرت السيدة بولاردس ذلك على سبيل التهكم : تسنى للبشر الإنصات لخمسة دقائق فقط ، ما يشبه الأبدية ثم شعر البشر بدغدغة . تكاثرت عبر ألف عام :نطاقات الفراغ الفاجرة ، والرموز الرائعة ، مرارا وتكرارا مشحونة أكثر بالموت ، ثم ظهرت نباتات البنجر الثلاثية ، المرجان البحري والزنابق البحرية البيضاء ، الأسماك ، المطر المتواصل على الأرض بالقرب، لامس الأشجار والحيوانات ، كانت الخيول صغيرة الحجم مثل الكلاب ، الطيور مثل التماسيح الطائرة ، القرون الأنفية للبازلت الحجر البركاني وفي نهاية
المطاف البشر الأوائل ، يرتجفون أيضا من الخوف ، داخل الصخور المنفلقة وبين جذوع الأشجار ومجددا الماء ، الماء ، لكن لم ينصت آكلي لكل هذا الكلام . كان يفكر بلا توقف بالسيدة هينكس . شعر بذنب كبير يعتلج أعماقه . لاتوجد أسباب مطلقة ، كي يحاول تبرير ماحدث للتو .
بأقصى سرعة ممكنة ، تعلل خيانة السيدة بولاردس لزوجها ، لم يكن بمقدوره فعل شيئ ، كانت إبنة الشيطان ، لكن لماذا يشعر بالذنب ؟ في ذلك المكان ظهر مجددا وجهها أمامه وهي واقفة على السلم . ربما لأنه لم يلف أو يدور مطلقا بالكلام أمامها ، ولم يستطع فعل شييء لإصلاح ذات البين ولكن إذا شرح لها وهو مشدود الأعصاب بأن السيدة بولاردس جاءت صدفة، ربما تفسر ذلك كإعتراف بالحب . وكيف يبدو أمامها ، مستحيل ، مستحيل . ربما من الأفضل ترك الأمور على علاتها ، ربما تظن بأنني أخدعها . ربما لن تتمنى شيئا أبدا . لكن طيفها لم يفارقه مطلقا .

في لحظة زمنية تذكر الحرب البونشية التي دارت رحاها في روما سنة 218 قبل ميلاد المسيح وظهرت علامة بالعين اليمنى لصديقي الشاذ التاريخي قيصر .بعد تلك الحقبة دخل التاريخ الأوربي ، في كبد الإنسانية ، في رداء الكهنة والراهبات ، في قمصان المجرمين والقتلة وبطبيعة الحال مجددا في كافة أنواع الديدان والنباتات ، في نهاية المطاف ظهر في الحبر حيث وضعت نقطة خلف الكلمة الأخيرة . في المستقبل سيحدث الإنفجار النووي حيث تسقط الأرض بأكملها كقربان ، مجددا عبر الطاقة و تطير كضوء في الكون ، حيث جاء من هنا .صمتت ضاحكة ثم أومأت برأسها . عند الشفق العميق كانت تبدو غير مستعجلة . آومأ آكلي أيضا وغاص الجميع في صمت عميق . الآن يجب أن ينير الأضواء . بدت السيدة بولاردس شاحبة دوما . ظهر شيئ ما في عينيها ، مثل شبح في الغرفة ، بلا إنقطاع إنحسر ... إنحسر متوقدا إلى أزيز متوقد غيرملحوظ . وقف بإرتعاشة شديدة .

لعبت دورا رائعا ، سيد آكلي ، فجأة همست بالغرفة . -
مشى مسرعا نحوها , خامره شعور وهو ماشيا على السلم بأنهما سيقضيان الأمسية لوحدهما . و أنه لايستطيع تغيير ذلك الشيئ أبدا . كرونوس كان غائبا عن روح أولمبوس ، غاص خارج الزمن ، ثم أمات سمكة الحوت بقدم واحدة خلف رأسها ، و إغتسل بالماء الذي إحترق مثل البنزين .

عند الفسحة أضاء آكلي الأنواء ثم أنصت . سكينة رهيبة خلف باب المطبخ. لوى إصبعه عندما
قرصه و أخذه بين أسنانه ثم مشى السلالم مسرعا حتى بلغ مدخل المنزل . كان القس واقفا على الرصيف ، عصبيا ينفث شاربه الأشيب الأشعث . كان أصما ، تظهر من خارج إذنه عقدة بيضاء مرتبطة بشيء مبهم تضفي عليه شئ من القداسة . غرز يده نحو الخارج ثم توقف أمام عتبة الباب غائبا بجسده ، منزعجا ، مرمش العينين .أمنياتي ، آكلي ، تمنياتي القلبية . كان من الصعوبة العثور عليك ، ماهو رأيك؟ نعم شكرا لدعوتك ، هذا منتهى اللطف منك . منتهى اللطف منك . يجب أن أتحدث معك اليوم. لم أسمع شيئا ، لكن زوجتي .. تعال معي ،نعم . مشى خلف آكلي الى الطابق العلوي ، أعذرني حول اليوم . لم أغيرملابسي بعد ، وتلك الأسئلة .أتساءل من يكونون .. ليس من المستحسن طرح تلك الأسئلة، لكن سوف تتفهم ذلك . بالتأكيد سوف آتي ، أحيانا أقوم
بطرح أسئلة غريبة وعندما يضحك الناس ، أسألهم فيما إذا وجهت إليهم سؤالا غريبا أم لا .. ياإلهي . حرك رأسه ، ثم نفخه للأعلى كما لو أنه ينوي الإنفلات من خيط العنكبوت .

فتح آكلي باب غرفته ثم حدق بالمكعب الأسود ، أدار مفتاح التشغيل الكهربائي . بعد مرور ثواني رأى السيدة بولاردس متلاشية أسفل بالزينة : ذراعيها للأسفل، رأسها مرتخي خلف رقبها في اللحظة التالية نظرت في الوجه المأخوذ للسيد سبلايسترا وهي ضاحكة .
ماريانا، تعثر . كنت أعتقد .. كيف جئت هنا ؟
- بالقدم ، ضحكت ، بالقدم ، مايندرت . مثلك تماما . لكن .....
- لكنك لم تفكر بتلك ، أهكذا ؟ في حقيقة الأمر كذلك السيد آكلي .
- لقد وبختني بشناعة.
- ماذا؟
- لقد وبختني بشناعة !
- أوه. هل يأتي مانويل كذلك؟
- تعال .. تعال ، مايندرت ، لاتكن كئيبا ؟ منذ متى لم تلتقيان سويا؟ ماهي أحوال أليسا؟
مشوشا نظر سبلايسترا حوله ، الى الزينة المعلقة بالنافذة ، إلى السيدة بولاردس . كان محطما كلية .
- هل آتي هنا ....؟ قائما تأهب للجلوس على حافة السرير .
كانت السيدة بولاردس تشعر بسرور يصعب جمحه . برفق وضعت الزينة جانبا ثم قالت : هل تشعر بضيق اليوم ، مايندرت؟
- أليس كذلك ؟ نعم ، متعمدا . هنا بالقرب يرابط رجل بموازاة الرصيف ، إمرأة جلست تحدق بالخارج . في الميدان هناك وسط الميدان شاحنة تحترق .
- لايوجد أحد يراقب المشهد الآني .
- يجب أن أعد الشراب ، فكر آكلي ، لايوجد شيئ للشرب .
- هل ترغب بالشاي؟ سوف أعد الشاي . بعد قليل سيأتي صديق لي ، سوف يؤخذ شيئا . بسرعة أخذ يملأ إبريق الشاي الكهربائي ، الذي إستعاره من السيدة هينكس . سوف أسأل كذلك السيد دورنسبايك ، لكنني نسيت.
- دورنسبايك ، إنسان همجي ، قال سبلايسترا .
- ماذا ، صاحت السيدة بولاردس . الراهب إنسان بدائي ؟ هل يأكل لحم البشر ؟
- وحشي ، كرر سبلايسترا ثم بدأ يضغط بعصبية على آلة السمع . ذلك الشيئ المزعج ؟ إنها جديدة . لاتلائمني . بدائي ، كرر ذلك مرة أخرى ، بالنسبة إليه يوجد شيئين هامين : الكنيسة ، ذلك البناء وإدارة الأعضاء المنتسبين . ماذا يحدث في الكنيسة أو للأعضاء ، غير مهم
بالنسبة إليه وهو الشخص صاحب السلطة ، لقد فهمت ذلك منذ زمن بعيد . لقد تحملني لبعض الوقت كغضب لامفر منه ، لكنه سوف يتملص منه في يوم من الأيام . سوف يضعني في السطح وهو المدير . سوف تصبح الكنيسة كأثر مقدس لايمكن تفسيره من الماضي وإدارته عديمة الفائدة ، لكنها تبقى أعقد وأشمل دائما . في نهاية المطاف سوف أكون أنا وهو بدون إستثناء أتباع
للكنيسة ، ذلك البناء المليء بآلات المحاسبة العملاقة ومنازل هوليرث ذات الأشكال المختلفة المرتفعة والكمبيوترات الإلكترونية أو كما تسمى تلك الأشياء .
- نظرت إليه السيدة بولاردس بحيرة .
لا أصدق أذناي ! متى تطورت لديك تلك الموهبة الساخرة ؟ ماذا حصل لك؟ نظر إليها سبلايسترا ، محاصرا قليلا وفي نفس الوقت غاضبا . بدأت السيدة بولاردس تدوي من الضحك فجأة توقفت ثم ضحكت مثل سكين حلاقة .
- هل تريد أن تتجنبني؟ سألته.
- يجب أن أذهب للفور الى السيدة هينيكس ، فكر آكلي . وضع ركبتيه أسفل الطاولة ، ثم أخذ يبحث عن الشاي في الصندوق ، لكنه لم يجد سوى معدات و سكين نظيفة لفتح العلب بداخلها حجرين بني وأسود . سوف تموت ، لقد رأيت ذلك ، سوف تموت . يجب أن أتوسل إليها كي تفتح لي الباب . يجب أن أصارحها بكل شيء ، الحقيقة ، الرحيل . تلك المرأة زوجة بولاردس ماهي سوى عاهرة ، تهدد زوجها ، تنغص عليه حياته وجاءت عندي مرتدية الصليب ، تود سماع شييء من الموسيقى ، عاهر قذرة والسيدة هينكس تعتقد بأنني خدعتها ... فجأة سحقته . ثم بدأ يرتجف ، من المحتمل أنه عرف ماذا فعل ثم ألقى الصندوق بسرعة خاطفة باتجاه المدفأة النفطية رأسا على عقب . أراد النهوض ، ضرب عموده الفقري بحافة الطاولة ثم وقف ، هائجا أخذ يتنقل بين الضيوف واحدا تلو الآخر . عاهر قذرة ، تندسين براحة أصابعك ، عاهر قذرة .الشاي ، تمتم ، ركض خارج الغرفة ثم صفق الباب خلفه مغلقا . إنطلق بسرعة شديدة في الظلمة فوق السلالم ، بكلتا يديه أخذ يطرق باب المطبخ بعنف وقوة .

سيدة هينكس ، إفتحي الباب ، أرجوك إفتحيه. لم أكن أعلم شيئا ، أقسم لك ، جاءت من نفسها ، لقد دعوت زوجها فقط ، الدكتور بولاردس ، تعرفيه جيدا ، البارحة كنت عنده ، كان مستعجلا ثم .. سيدة هينيكس أرجوك إفتحي الباب ، سوف أوضح لك جميع الأمور ، أشعر بالأسف لتلك الفعلة أكثر منك ،! إستمع . لم يسمع شيئا ، قولي شيئا ، سيدة هينيكس ، لم أخدعك . من الأفضل .. سيدة هينيكس . يجب أن تفتحيه وتنصتي إلي . تعالي الى الطابق العلوي ، أنت مدعوة كذلك . لم أرها في حياتي من قبل، سيدة هينكس ، لماذا لا تقولي شيئا ؟

ثم سالت الدموع على وجهه . ترك الباب مفتوحا ، زحف في الظلمة الى السلم المؤدي لغرفة الصندرة ، نصف الطريق جلس على السلالم . إنتفض جسده ، ثم توقف عن البكاء . المنزل من حوله مع السيدة بولاردس ، وسبلايسترا والسيدة هينكس في المدينة مستغرقة بهمومها ، عبر الهواء ، حيث بدأت سحب رمادية تدور بسرعة مكونة دوامة ، إرتفعت ثم إنخفضت , علق أمام عينيه خلف يديه شلال مياه أسود ، وحبر من المياه الزرقاء لا نهاية له . مضى كل شيء في تلك العاصفة الظلماء التي جاءت من العدم وذهبت الى اللامكان. لاشيء سواه . كان هو العاصفة ، العالم يتآلف مع الأشياء الأخرى . ماريولين ...ذات مرة إنتحبت ماريولين من لسانها . إستند برأسه على الحائط ، جدار عبارة عن سيل أسود متدفق. كان صوت سبلايسترا يسمع من فوق السلم ، من الضوء خارج الغرفة .
-آكلي ؟ هل أنت على مايرام؟ جلس على السلم ثم قال بأنه مندهش من الضوء . كانت السيدة بولاردس بقربه على عتبة السلم وذراعها حول ذراعيه ، سحابة بنية داكنة اللون من العطر . تحدثت بسرعة وبهدوء . جئت هذا الصباح والدموع تملأ عينيك ، فهمت بأنك غير سعيد ، الأمر محزن جدا ، تماما مثل ماحدث معي ، لكنهما لن يفهما أبدا .

إختفى سبلايسترا في الغرفة ثم نادى: قولي لآكلي ، لافرق عندنا اذا كان هناك شاي أم لا ، لم نأتي هنا لنأكل ! هل تسمع ذاك المعتوه ؟ همست السيدة بولارد س في الظلمة ثم وضعت ذراعها الأخرى حول ركبتيه . إكتشف ذات مرة وجود بشر مثلي ومثلك ، بدأ آكلي يستعد للوقوف ، بدون أن تزيح ذراعيها نهضت السيدة بولاردس واقفة ، فجأة تمايلت ثم مسكت به بشدة . في نفس اللحظة ضمته بقوة وتمايلت على درجات السلم ، كانت تقبله بعنف شديد لسانها إبتلع لسانه في الداخل مثل رأس ثعبان ، بدأت بطنها بالتحرك وتضغط قدمها بين قدميه . فتح آكلي عينيه ثم نظر الى الرأس المشوش ، سرعان ما إنحرف الى ذوبانها الشديد ،عندئذ دق الجرس . على الفور تركته السيدة بولاردس . هناك صديقك ، قالت ثم وضعت يديها في تسريحتها ضاحكة . مشى آكلي للأسفل ، مرتبكا ويديه أمام صدره ، كما لو أنه يحمل زهرية كبيرة فاخرة الثمن ، زهرية من الفخار البنفسجي الداكن سحب سوداء وشرايين ذهبية .

عند مسند السلم بدأيمشي للأمام والخلف ثم إلتف دائريا ورقص أمام باب المطبخ .
دق الجرس مرة أخرى ، ضرب الباب ، لكن أوتوماتيكيا ، وضع ذراعيه حول بعضهما على مسند السلم ورأسه للأعلى . ثم سمع أحدهم يضغط على الجرس ، لحوحا ، منزعجا ، عندئذ ذهب ليفتحه . وقف كيتيلار فجأة أمامه عريضا ، بقبعة بيضاء وقميص مزهر كان يتدلى خارج بنطلونه ، بجوارب من الفرو وحذاء أصفر فاقع . على الفور وضع علبة كارتونية بين ذراعيه . برفق أيها الوغد ! لاتدع كل شيء يسقط من بين أصابعك . إستدار آكلي ثم بدأ يمشي فوق السلم ، كيتيلار خلفه بحقيبة التسوق حيث ملئت بقناني الشراب .

اليوم أنهيت بعض المشاغل ، موب ! ناداه . مع الأميركيين ! شباب لطفاء لكنهم أغبياء قليلا ! الثقافة الغربية بهذا الأسلوب . أريد أن أقول شيئا واحدا ، أشرب بسرعة ثم أصرخ بصوت عال ! بدأ يغني على سلم الصندرة .
عمي بيت
وعمتي نيل
اللذان قفزا في صوص الدجاج
كان في غير وعيه . صامتا دخل الغرفة ثم نظر ضاحكا الى كلاهما ، فجأة أخذ يلوح .
- مساء الخير ! أنا كيتيلار ! كيتيلار في وعاء الساحرات .هذه السيدة بولاردس ، قال سبلايسترا ، الذي سحب معطفه. العقدة البيضاء تشير الى جيب الصدرية ، أما الظهر ذو الجوانب السوداء من الصدرية يلمع كما لو أنها وضعت أسفل النجوم ؟ أوه أو لا..لا.. يا لها من مفاجأة ! حرك يديه ثم نظر خلال ذلك الى جسدها . سبلايسترا ، قال سبلايسترا ثم أخرج يده .
- ماذا . هل أنت راهب ؟ صرخ كيتيلار .
- مصعوقا بشدة نظر الى سبلايسترا ثم رفع يديه .
لقد أقنعتني ، قال بينما ذهب ليجلس . لقد أذعنت . لقد رأى كما لو أنه أذعن بالفعل . هل لديك سيجارة ! إنخفض صوت كيتيلار ثم ناوله حافظة السجائر . إفتحها ! نادى على آكلى لاحقا الذي كان واقفا عند الباب بيده العلبة .
بدأ بجلب القناني . قل ، ماذا الذي سمعته منهم بشأنك؟ هل عزفت جيدا في الأبراج .
نعم ، قال سبلايسترا ، هذا أيضا حقيقي ، لقد حاولت مرارا اٌلإتصال بك لكنني لم أستطع إلتقاطك . كما لم أسمع منك شيئا ... كنت في العمل ، لم أستمع للمجيب الآلي .... أخبرتني زوجتي بذلك لاحقا . قامت أختي بعملية التسوق كذلك إبنتي ديانا . قطب حاجبيه ثم رفع وجهه للأعلى . أنا .. نعم ماذا قلت؟
- حسنا ... أحنى رأسه ثم غرق في تفكير عميق .
- تريد قول شيئ حول لعبة السيد آكلي ، قالت السيدة بولاردس .
- أوه..نعم . لقد إتصلت بك حول نفس الموضوع ، سيد آكلي لكن المتوحش قال ،
- نعم نعم ، قالت السيدة بولاردس
- ماذا ؟
- نظرت إليه السيدة بولاردس ثم عبست وجهها .
أوه حسنا ، سيد آكلي ، إتصل بي أحد أعضاء الكنيسة . لماذا لاتذهب في جولة . هناك العديد من المنافسات والمباريات حول دقاقي الأجراس تقام في ماسترخت ، أعتقد ذلك ، أو في ميخيلن هناك يجب أن أزور السيد كلوس. يعلم كل شيئ بخصوص ذلك .
- هل تشعر هناك بشيئ ؟
- نظر آكلي إلى الزجاج الخارج من العلبة .
لا.... قال . هذا لايهمني ، في حقيقة الأمر لا ، أنا .. حدق برجل ذو شارب وعقدة بيضاء حول أذنه . من تكون ؟ فكر .
- كما تريد ؟
- نعم صحيح ! نادى كيتيلار .
أنت تبلي بلاء حسنا ! جلس بقبعته مجددا قرب القس ثم سحب القناني ليفتحها . هل أنت مخادع ! هل تود الجلوس هنا طيلة حياتك ؟ بمقدورك أن تصبح رجلا مشهورا أشهر دقاق أجراس في العالم قاطبة ، ألفين خلدن للحفلة الواحدة . سوف آمرك بئلك ! إذا لم تفعل ، أنت غبي ! سحب القس الجهاز الصغير من أذنه ثم عاود وضعه مرة أخرى . لكن السيدة بولاردس ضحكت ، بشحوب غير عادي ثم أغلقت عينيها ، حركت رأسها ، لم يفهم أحد كم سيطول ذلك
لا...، قالت ، لا .. سيد آكلي لاتذهب في جولة . لن تفهموا شيئا. ثم فتحت عينيها ونظرت إلى آكلي .
- يجب أن تظل هنا دوما؟ مكانك هنا .آكلي ، جالسا عند حافة الفراش مشغولا بحفلتك مثل طير منشغل في بناء منزله . لم يسعفه تفكيره محاولة فهم مايدور حوله، متسائلا نظر إلى كيتيلار، بعد مرور لحظات قليلة كان يملأ الكؤوس بإتجاه السيدة بولاردس الصامتة .

- السيد آكلي حر فيما يفعل، قال سبلايسترا . ماهو الأفضل كي أحتسيه .
- بيرنود. الشراب الوحيد في الأوقات الحارة ، يبدو كأن كيتيلار قد تحرر فجأة من الوهم وجعل الشخص الجالس أمامه يرى الواقع على حقيقته ولايعيش في الأوهام أو التخييلات . عندما قدم الشراب للجميع ، نظر الى آكلي هنيهة وهو صامت ثم قال . في عيد ميلادك السادس والأربعين ، موب .
- ماذا عساي أن أقدم لك ، عزيزي السيد آكلي .
- بالصحة والعافية .
إشربوا فقط والكأس بيده نظر آكلي عبر النافذة إلى الليل . تدفقت الحرارة للداخل وبدت الزينة ساكنة بلاحراك . الدموع تملأ مآقيه . يهوى البقاء مع الناس ، لكن ماعساه فاعلا ؟ داهمه شعور كاسح من الحظ . أوربما مشاركات وجدانية ، إحساس بالعتمة ...عتمة إلى الأبد ، حيث يعيش هؤلاء . الحلم معلق بالصليب ، للأسفل يتراءى الحطام مثل إحساس متوهج بالحياة ، في الكون حيث عاشوا . نظر الى تلك الفوضى من المعدات ،الفرشاة ، المسامير أسفل الطاولة . تبدو المدفأة الغازية وهي مقلوبة رأسا على عقب ، تشكلت حولها بركة قزحية اللون . ظل ينظر إليها مندهشا لم يرى أحدا يتفوه بكلمة . سمع صوت البيرنود، حيث عبأ كيتيلار كأسه من ذلك الشراب . من أجل خاتمة صائبة في رأسه . للأسفل جلست السيدة هينيكس تبكي أو تنظر مرتبكة للخارج . لايوجد أي فرق إذا كانت تبكي أو تضحك . في المدينة هدوء لم يلحظه أحد .

أنصت إلى السكينة . هنا جلسا سويا ، أسفل الزينة ، صامتين . إنهارت كل الزعامات لكنها لاتزال قائمة . شعر بأن السكينة مؤلمة بعض الشئ للآخرين ماعدا كيتيلار . بالكاد لم يسحب أنفاسه . بجلده شعر مميت يداهم السيدة بولاردس وكذلك الراهب . السكون أشبه بالمستنقع . العرق يتصبب من مساماتهم. إلتفت جماجمهم متوترة ولم يجدوا شيئا ليبوحوا به . كان الصمت أشبه بوحش وقف بالمنتصف ، سحبهم إلى جوف الطين .

- دعنا نصلي . قال كيتيلار ؟
كانت مزحة ساخرة . بشحوب الموت نظرت إليه السيدة بولاردس ثم فتح القس عينيه ناظرا من عويناته . لم يحرك آكلي ساكنا ، لكنه شعر بكل عرق في جسده . فجأة مائلا بدأ كيتيلار يجيل النظر الى نقطة بدولاب الكومودينو . بينما تقبل الراهب الموقف ، يقضم شاربه ويتحسس الجهاز الصغير خلف إذنه ثم قال : سيدي ، إذا كان قصدك أن توبخني عمدا ، قل ماعندك بدون لف أو دوران ، عندذلك بإستطاعتي الإعتذار من مضيفي ، يبدو بأن وجودي غير مرحب به . ليس بوسعي سماع المزيد من الترهاب منك .
- مايندرت ... قالت السيدة بولاردس ، لم يحرك آكلي ساكنا .
- نعم بالتأكيد ، دمدم كيتيلار ثم سحب قبعته من فوق عينيه . حسنا ماقلت ، أليس كذلك؟
- نعم بالتأكيد ... أليس كذلك؟
سيد آكلي ، بدأ سبلايسترا ثم وقف، لكن السيدة بولاردس وقفت له بالمقابل ، قائلة: إجلس ، مايندرت ، إذهب مجددا للجلوس , هل أنتم مجانين ؟ هذا عيد ميلاد السيد آكلي وليس جدالا ألوهيا .
- جدال ألوهي ، نادى سبيلايسترا .
- عبس كيتيلار ، أخذ القنينة ثم سكب الشراب في الكؤوس .
هوب أيها القس ، قال . لاتؤخذ الأمر بمؤخذ الجدية ، ما أنا إلا إنسان بربري . حقا إنها أمسية تدور حول مناقشة علم اللاهوت . أصبحت النافذة سوداء ، لكن لازال الهواء يهفهف في المدينة ، بخرطوم في الغرفة . لم يحرك آكلي ساكنا ، لم يتدخل فيه أحد ، وعويناته فوق ركبتيه نظر إلى النافذة السوداء . كانت المدينة تحفل بالشوراع ، حيث يمشي هناك البشر اللاهثين بملابسهم الخفيفة المرخية الأزرار . كانت نوافذ وأبواب المنازل مفتوحة . الناس في السيارات والدراجات يغادرون المدينة بحثا عن البرودة . الأرض بأكملها ساكنة ، بشر ساكنين في كل مكان في الحدائق ، أسفل الأشجار ، في الماء الجامد غير المتحرك .. هناك للأعلى يتدلى الهواء ، طائر رمادي يرقد على الأرض .
- فجأة إنشقت عدة مرات ونظر خائفا من حوله .
لايوجد سبب مقنع بأن يعيش شخص كل يوم مثل سابقه . أو كالثانية الماضية . تستطيع في كل دقيقة أن تتغير بطريقه مثيرة للضحك أو السخرية أو إلى كانغارو على سبيل المثال أو راحة ، حريق . ليس هناك وجود للعالم، أستطيع المجىء من الخارج وتختفي أنت ، كل شيء جائز ،لايزال الصوت موجودا . بنفس مكتوم ، نظر الى واحد تلو الآخر . تذكر بأنه سمعه ، لكن ياترى من قال ذلك ؟ وكم إستغرق ؟ جلس كيتيلار على حافة السرير ثم نظر ألى قدمي السيدة بولاردس . بينما حرك سبلايسترا رأسه بعصبية ثم نفخ في وجهه ، إحتسى الشراب بدون إنقطاع .نظرت إليه السيدة بولاردس ضاحكة . هل قالت ذلك ؟
- 'كلهم مبتدئين' .
إحدى البورصات المالية . سألت السيدة بولاردس .
- لقد إتخذ النقاش منحى آخر .
كما لو أن الأرض ستتلاشى بكل مافيها فجأة ، قال كيتيلار ، وخاتمه يطقطق بالكأس
، هل سمعت ذلك من قبل . سوف يبقى شيئا مثاليا غير ملحوظا . إذا كان الله ، صاح كيتيلار ، أنت رجل لطيف ، لكنك غبي بعض الشيىء . مشغول داذما بالعقيدة ، أفرط القس في شرب البيرنود ولم يعد بوسعه الإحتجاج . ' الله الشيئ الأخير.. الذكرى الأخيرة في حلمي ، والذي نسيناه جميعنا . لو وقفنا نلوح لبعضنا . إنها تتجمد بالخارج . يجب أن نسرع وإلا سيفوت الأوان .
- أنت تسأل كثيرا.... أنت تسأل كثيرا... وترد كثرا .
بدأت السيدة بولاردس بالضحك ثم وضعت يدها على ركبة آكلي . وقف سريعا ولم يدري مايقول .لقد رأيت اليوم في الشارع شهود 'ئي.إش.فيه.إش' . كانوا يحملون لوحات كبيرة ، على إفتراض أن اليوم سوف ينتهي كل شيئ، وبالتالي تم تغريمهم في زاوية الشارع من قبل الشرطة ، لقد حرك المشهد مشاعري .
- فكرت : ماذا سنفعل غدا؟
إرتعب ..فجأة حدث إضطراب وفوضى عارمة في الغرفة ، يتحدثان مع بعضهما ، كيتيلار والسيدة بولاردس ويتمشيان ذهابا وإيابا .
-لا، هنا قالت السيدة بولاردس ثم مشى كيتيلار خلفها . ضاحكة نظرت حولها خلف ذراعها ،
تناول سبلايسترا الزجاجة من الأرض ، بينما كان يحك ظهره ، في الخارج يدوي صوت صفارة الإنذار .
- كلهم بالتأكيد لا؟ صاح كيتيلار ثم بسط أصابعه.
مرتبكا نظر آكلي حوله. ذهب بإتجاه كيتيلار ، الذي جلس القرفصاء، يحدق النظر من أسفل السرير .وعدساته بيده سقط آكلي على السرير ثم نظر الى الراهب الذي كان بالقرب منه يستعد لتدخين سيجارة جديدة . نفخ الدخان الأول بإتجاه الزينة ورأسه برقبته ثم فتح لسانه العريض . بينما إستلقى كيتلار أسفل السرير يركل برجليه . بينما كانت السيدة بولاردس تقهقه بصوت عال.

كلهم كادحين ، دمدم سبلايسترا ، كلهم كادحين . دخان الينسون إخترق لسانه .
خلفهم شرب آكلي كأسه حتى النهاية . بنفس اللحظة إندهش حول الموقف الآني ، توقف سعاله ، فجأة سيطر عليه شعور بأن شيئا ما سيحدث . من فراغ ظهر جانب من المدينة في الغرفة : حقل شائك عبر المنازل الأخيرة ، مطبات ممتلئة بالمياه الآسنة، في كل مكان أوعية مصدأة ، كراسي محطمة ، أحجار وأكياس زبالة ، قيء المدينة . للأمام يحطم الشبيبة بعضهم البعض بين التلال . لكنه إستلقى بذراعه في منحدر قديم وظل هناك قرون طويلة ،مرتجفا غرزه حتى كوعه في الثرى ثم حبس عينيه محدقا بإتجاه أبراج المبنى المظلم عند أوعية حفظ الغاز .

كان اليوم هو الأحد ، الهواء الكئيب يجذبه ويشده بقوة . حرك أصابعه . من هنا يجب أن تكون اليد الأخرة بمسافة ميليميتر واحد تقريبا بنفس المستوى في الأرض . عصر ذراعه أيضا أكثر . الأرض كانت مبللة ولزجة ، جسد محموم . حينئذ شعر باليد الأخرى .
- هل يعرفها آكلي؟ السيدة آكلي.
- أو ..بلى ، صحيح ، ألس كذلك موب؟
بإنتفاضات من عينيه تفحص كل الزوايا بقرب رأس كيتيلار ، كمن يبحث هناك عن شخص يوجه له كلامه.
- من؟
- ميريل
- أو نعم . ميريل
شيء أصبح مشدودا ثم رأى زوجة كيتيلار السابقة : إمرأة مغرية من هولندة ، عينين بلون الأزرق الفاقع ، الجداول ، الشمس تتدلى فوق الجبال ، رجل يسبح في الهواء ، نهدين حيث يستطيع النظر إليها بدون خوف ، لسان مثل المهبل ، شعر ربط على شكل جديلة غير متماثلة ، مما جعلها تشبه الفتاة وبالتالي أثارت الرعب في المدينة . ' الدمية النائمة' رآها تلعب مع كيتيلار , تقبل ظهيرة كل يوم بسيارتها إلى المصنع ، بلوزة وبنطلون ، بكلمات لطيفة ، الباب مقفول ، تأتي مسافة متر لتقف أمامه تغمض عينيها وتتركه يسقط منكفأ ، حيث تترك على مدى دقائق مثل جثة هامدة تسحب ، ثم تجر فوق الكراسي ، أسفل المكتب تجذب ببطء مثل سجادة ملفوفة ، . لن يتم التحدث بالأمر ، في نهاية المطاف المتعلمين فقط ، هناك لم يبلي بلاء حسنا . منبهرا بالأبواب المصفوقة مشى خارج المصنع، مشدودا كان يجيل النظر
لم يتم تصحيح وجهها من قبل أي جثة أخرى ، للأسفل تئز الآلات ، عند الممرات يمشي سعاة المكاتب ، أحيانا العمال ،يحمل قبعة بيده، فوق ساحة التخزين ينتحب البخار بالحديد ، أوزريس تهمهم في الجبال .....

- كانت ضحكات السيد كيتيلار مضادة للمدفع الرشاش.
- كان سبلايسترا معه ، جاثما على ركبتيه
- هل تؤمن بما قلته، أيها القس؟
لاأفهم كيف تختلق مثل تلك المواضيع ، مايندرت، حيث أكون في نفس مستواك.
إحفظ لسانك . أنا لا أقصد الإساءة إليك. الجميع يزني ... الزواج رباط مقدس ، حقيقة لطختموه كثيرا .
ماعلاقة ذلك بالموضوع؟ سألت السيدة بولاردس ثم سحبت يد كيتيلار ، الذي كان يزحف فوق ركبتها . ماذا فعلت أنا وأنت بالزواج ، هذا الشييء الوحيد الذي فعلناه. وإذا كان ذلك الرباط المقدس لايهمك ، إذا الأمر لايتعلق بذلك الرباط المقدس .
ماذا قلت ، صاح كيتيلار ، بأن ذلك الرباط المقدس غير موجود .....
مبتهجا ألقى قبعته في الهواء ، حيث تمزقت أحد الأشرطة الملونة ، التي هبطت مثل حفيف ورق الشجر على سبلايسترا .
سحبها جانبا .
أنا في الخامسة والخمسين ، قال سبلايسترا ، بالتأكيد ، إرتكبت عثرات كثيرة.
عثرات ، قالت السيدة بولاردس .
عندما نظر إليها آكلي ، ذابت عينيها ثم نظرت إلى لسانه . كان يبحث عن كيتيلار ، الذي كان يجلس فوق درج البوفييه .
عثرات، عثرات ، أومأ سبلايسترا إيجابا . في مهنتي الخطأ بعشرة ، هل لازلت تتذكر نظريات تتعلق بميثاق الشيطان ، التي يعقدها القس ؟ سألته السيدة بولاردس .
لكن في السنوات الأخيرة عثرت بحوزة زوجتي على شيئ ، تلك ... سوف أقول بسرعة : دولاب لحفظ القربان المقدس ..... بدأ يستخدم يديه ثم أصبحت كاثوليكيا تقريبا كي أستطيع نشره . كان شراب البيرنود في كل ناحية بالدولاب . لقد إعترفنا بكل شئ وغفرنا عن كل شيء .
أوه ياإلهي ، أشعر بذلك ، أشعر بالقيء ، قالت السيدة بولاردس .
لم أعد نفس الإنسانة ، لاتعرفني ، تعتقد بأنك تعنيني ، لكنك تعني بذلك شخصا آخر . تتحدث عن ماضيك . أغلق عينيه . إسمع .. يوجد عالمين وآخر بمفرده . بذل آكلي قصاري حهده كي ينصت للنقاش . شعر باليد الأخرى . مقدمة الإصبع بظفر ، لم يقصه منذ فترة طويلة ، ربما كانت يد إمرأة ، شخص من الناحية الأخرى يسنده ويمد له يده مثله تماما ، شخص مجهول الهواء الكئيب يجذبه الى غرفته . مذا يفعل هؤلاء الناس هنا؟ خامره شعور بأنه يبدد وقته بالجلوس في ذلك المكان ، أو أنه ضيع حياته كلها في الجلوس بالغرف، عبر المشي بالطرقات، تأليف الموسيقى ، الجلوس بالفراش . تنتظره في مكان ما مهمة لاتوصف ، لكنه نسى ، أي ؟ شعور واضح ودقيق حول مخطط تمهيدي ، كانت مهمة تتعلق بكل ما يريد معرفته والحصول عليه ، لكنه نسيها منذ ولادته ، نسى بأنها كانت موجودة ، نسى بأنه قد نسيها فعلا . يجب أن يحاول أن يستردها ، من المحتمل بأن الآوان قد فات . عندما يفشل في ذلك ، ستكون العواقب وخيمة . غرق في تفكير عميق ، ثم أصبح كل شيء كئيبا وساكنا .
صحيح أو لا ، موب؟
بفم مفتوح نظر إلى كيتيلار الذي كان جالسا على الكرسي . تجلس السيدة بولاردس بالقرب منه على الفراش ثم إستندت برأسها على ذراعه . الأمسية كانت على أشدها مثل أفعى جميلة .
ماذا ؟
كانت ميريل سيئة الطباع .
أومأ آكلي برأسه ، تقدم كيتيلار للأمام حتى لامس بركبتيه السيدة بولاردس .
هل نذهب ذات يوم للأوبرا . لونخرن كما أعتقد من تأليف فاغنر . كل شيء رائع بفستان السوارييه يجب أن تذهب الى باريس أولا لرؤية العرض ، ألوان موضة جديدة . بالطائرة . هل سمعت جيدا : بالطائرة . برأيك أي لون ؟ الأسود صاح كيتيلار ثم ضرب بيده بطنه .
إنحنت السيدة بولاردس حول حضن آكلي من الضحك ، في نفس الوقت قرصته في فخده ، حتى يصيح آه . إتجه كيتيلار نحوها .
ماذا تقولين ....
أعتقد بأنه جميل ، ضحكت السيدة بولاردس . في حقيقة الأمر ، الأسود أيضا هو لون جميل .
الأسود يمثل غياب اللون ، قال كيتيلار : ثم حرك رأسه بقوة . لاأحاديث، حيث يرتشف الأسود خفية الضوء، الأشياء السوداء .
خفية؟ كيف توصلت لذلك ! قل لي مثالا يدل على اللون الأسود ، واحد ، واحدا علىالأقل .
زنجي ، قال آكلي .
حدقت به السيدة آكلي ، عندئذ عطست خارجا .
في العدم يوجد بشر غير مرئيين ! صاحت
ضوء مفعم مرتشف وغير مرئي؟
لكن آكلي وقف عند الباب ، الأبيض الطباشيري .
يجب أن أبحث في غرفة الصندرة عن جهاز الجراموفون . سوف ... كذلك .. أقصد من أجل الأنس سوف ... ربما تريدين أن ترقصي . هناك أيضا أسطوانات موسيقية .. كنت متواجدا نفس اللحظة التي كان فيها خارج الغرفة ، جلس كيتيلار بجانب السيدة بولاردس على الفراش . شد يديها بقوة ثم نظر إليها بعينين واسعتبن .
أنصتي ماريانا ، لايجب أن تلفظي كلمة زنجي أبدا عندما يكون حاضرا ، أبدا ، هل سمعتني !
لماذا؟ ماذا تقصد بذلك؟ هل أخطئت؟
لا ، لاأستطيع ان أشرح لك ، لكن يجب أن تعديني ، لصالحنا .
ماذا تعني ؟ لقد أستخدم المصطلح بنفسه في المرة الأولى .
نعم ، صحيح . عندما يذكره مرة أخرى ، تظاهري بأنك لم تسمعي به وتحدثي بصورة إعتيادية . فجأة قال: إننا مجانين ببقاءنا هنا ، هل تعرف ذلك !

حدقت به السيدة بولاردس ، أخذ سبلايسترا نفسا عميقا ، همهم وتذوق . كان مقابل الحائط ثم نام نوما عميقا غير منتظم . بحركة سريعة وضعت السيد بولاردس نظارتها على الطاولة ثم جذبت يدي كيتيلار.
- يتعلق الأمر بسر ما ! لاتوجد أسرار في حياتي ، كنت أعلم ذلك من اللحظة
الأولى التي رأيته فيها ، هل توافقني الرأي ؟
بدأ كيتيلار يتلصص النظر إليها , بعد مرور هنيهة قال ببطء : 'الموت في حياتي'
زحف الموت إلى حياتي مثل الدودة. إنه مهترئ تماما . يمشي في المدينة ويعزف موسيقى
كاريلون ،مثل قنبلة مجوفة . شعر برجفة في ظهره . لم تنعطف بعينيها عنه .
ترك قنينة شراب البيرنود نصف مغلقة . رآته يلمع من الندوب والجروح .
كان قرارا . بمجرد أن يحتك رجل وإمرأة في لب الحياة ، منهم أو من شخص آخر ، سيذهبان إذن للفراش سويا . عندئذ لاوجود للوحدة .
ليكس ، يجب أن تخبرني بكل شئ ، قالت السيدة بولاردس ، لكنها لم تتحدث عن آكلي مرة أخرى . لن تتحدث مع كيتيلار أبدا عن آكلي . الحديث عن آكلي ، مثل قائمة دعاية حول محول ذو جهد كهربائي عالي ، لعن كيتيلار نفسه ، لأنه يفهم .
كطالب إحتدم جدل مستمر حول المبررات الأساسية ، حول من يتفق معه أو من يتبعه . لكن من الأشخاص الذين إتبعوه ، فعلوا ذلك كي يضعوا أنفسهم تحت إمرته ، أما البقية لأنه يريدون مشاكسة الآخرين ، الثالث يهوى المشاكل ، الرابع يضايقه كل شئ ولايوجد أحد لديه المبررات الأساسية ، حتى هو لاأحد مطلقا ، لأنه كان متفقا معهم أيضا . في الشارع أراد فجأة أن يكشف نوايا الآخرين ، مقززا ومتغيرا .

مرة تلو الأخرى حرك رأسه , أعلى الزينة صوت جلبة . يجب أن لاتطرحي مزيد من الأسئلة ، قال . لاأستطيع إجابتك . عديني بأنك سوف لن تسأليني مرة أخرى ....
كوميديا المحادثة . أصبح مظللا، بعد عد كؤوس لن يستطيع أن يميز بين الأمور . يعلم ذلك بالتأكيد. ولكن ماذا أعطته ؟ أراد أن يذهب معها للفراش ويعلم أن الشئ الوحيد الأن : أن يكشف حياة آكلي على الطاولة. الشمعة بيده إستلقى آكلي عند الشرفة العريضة لغرفة الصندرة ، حيث وسط ذلك بدت سجادة سافلة واضحة للعيان . نظر للرجل الساكن في الزاوية ، ذراعه على جنبه ، أس الرجل ضغط على صدره عند السطح المائل ، حيث الأواني مرتخية ومشكوك فيها . قذفت الشموع جرعة من الضوء الأصفر حول الجدار الجانبي المتكلس ، مسقوفة بجذوع من الغبار طوله عدة أمتار رقيقة. تكثف الغبار مثل شجيرات على كل الطوابق . تسللت رائحة نفاذة من البول . في الحرب تم إخلاء ستة أطفال كانوا نائمين في غرفة بالصندرة ، هكذا إذن: أقبلت ليلة مراتب الأسرة وتركوا المياه تنفذ بين الألواح الخشبية . هواء حار قادم باتجاه الطريق الزراعي المزروع بالأشجار بعد مرور عشرة أعوام ، جعل رائحة البول تتسلل من بين الأخشاب.

لم يتحرك الرجل . مع تمايل الشموع تغيرت ذراعه اليسرى بدون إنقطاع على شكل رأس نجمي ، رأس نجمي .. شحط آكلي . كان للعديد من الحشرات الصغيرة قرون إستشعار
إنتشرت في كل مكان تحوم في عراك هوائي . بسط شفتيه بموازاة المرمر الناعم لحوض الغسيل المننكسر وزحف للأمام . ولد فيل بقبعة قوس قزح ويبتلع الطعام بكميات كبيرة مباشرة . سمع للأسفل أصوات ، يعيش الناس في الحفر ، فكر ، تتلخص حياتهم في البحث عن الحفر حيث يتمكنون من الإختفاء ونسيان أنفسهم . حمل الشموع للأعلى ظهرت مجموعة من الحقائب ، أغطية مصابيح ، حصان هاوي في الملاهي يزفر بشدة ، ورق زينة ملفوف، ميزان مصدأ ، كتب ، فراش سيارة ، خلف القضبان صندوق مطوي ،كرة صفراء أرضية بنقط حمراء . تحسس القماش ، عطس ، واصل الجري، رأى مصنعا ، مصفاة ، قاعدة فرن عالية مفكوكة. ضحك . سقطت قطرات من العرق على وجهه ، بينما شربت الحشرات دمه ! في تلك اللحظات كان لدى سبلايسترا حقيبة محملة بالأحلام . كان يغرق مرارا وتكرارا مع بعضه قدما ، إنزلقت ذراعه بعمق في الطريق بين فراشه والحائط ، كما لو أنه وجد على الأرض حلولا لجميع الأحجيات والألغاز . وقف كيتيلار بجانب حوض الغسيل منحنيا ثم تناثر الماء على صدره من الحنفية على صدره ، ضغط ببطنه على الورود المعلقة مبدا وجهه محطما كما لو أنه غرق في بحر هائج بنصف وجه حدق بعينيه إلى الحشد الأخضر ،الخائن قال مع نفسه : مبجل الموتى ...اللعنة ، كيف سأعطي تلك المرأة شحنة ، إحتسى شراب البيرنود حتى رقبته ، كي يتمكن من مواصلة المشي عندما ينحني .
تحدثت خلفه على الفراش .
كنت أود ملاقاته منذ زمن بعيد ، ولابد أن ألتقيه ، وعندما حدث ذلك الشي فإنه يعني لي الكثير ، كنت أريد حينذاك ألايكون أحد المرضى الذين يعالجهم زوجي . كان عاشقا دوما لأليسا ، قالت ثم نظرت إلى سبلايسترا، متكرمشة في الزاوية . ولكن لتعلن عجزها .قبل خمسة عشرة عاما وضع نظرية بقافية واحدة ، ربما يكون جسدها من إنسان ميت . بحث عن حكمة جسدها لأنه لم يذهب معها إلى الفراش قط .
لكن بالتأكيد مع سبلايسترا .
في الماضي ...في الماضي... منذ أمد بعيد . لقد نسيت تماما ، ماعدا آكلي . لم أفعل شيئا من أجل إستمالته ، على الرغم من أنه كان لينا . خامرني شعور بأنني لو لم أحضر سأصاب بتشوش . يجب أن يحدث كل شئ من تلقاء نفسه . أوه ليكس ، لم تسمع اليوم . حلقت بهدوء مثل طائر يرفرف بجناحيه . ظهر فجأة عمود أبيض ناصع للأعلى فوق المدينة . كنت جالسا على كرسي الحديقة ، عندما رأيته إعتقدت بأنني لن أستطيع الحراك وكانت الشمس ... لماذا لم تخبرني ماحدث معه بالضبط ؟
مسح كامل سميك على ملابسه بقماش لاصق مثل يد ، وقف آكلي في الغرفة .
بإنتفاضة إستدار حوله كيتيلار .
اللعنة ، موب ، صرخ ، كما لو أنه يبكي ، إلى الخصيتان بكرة روث كاملة ! مشى نحوه ، الماء يتساقط على صدره . كانت السيدة بولاردس تضع يديها فوق حضنها ،ثم فتحتهما ووضعتهما فوق وجهها .

وضع كيتيلار جهاز الجراموفون فوق الأرض ثم بدأ يعبث . كات بداخل الغطاء بعض السطوح . مندهشا نظر آكلي إلى السيدة بولاردس وسبلايسترا . الطاولة المستديرة تعطلت والإبرة كانت منذ خمسة وعشرين عاما مصدأة ، فجأة بشرت سانت لويس بلوس مجددا خارج الجهاز.
أوه ، يجب أن أرى شمس المساء وهي تنحسر
أصوات الرجال ، المدوية .. المرتفعة . بدأ جهاز الساكسيفون ينوح وإنزلق آكلي
على ركبتيه أمام الجراموفون ، عندئذ تعرف على الصوت ، ذكرى قادمة من
التقمص الروحي الماضي سوف يلتقطها ويضعها في فمه ، يود لو يلتهمها ، يعبأ جسمه بأكمله ، بالصوت ، الماضي ، حيث كان . كان ثعبانا الذي كان على الأرض خارج فك حيوان مفترس
.زاحفا خارج الحنجرة على اللسان الأسود.
وزاحفا . الصدى عبارة عن عضو خفي ، مستتر.
في تلك اللحظات إستيقظ سبلايسترا ، أصيب بفواق ثم إبتلعه ونظر شاردا حوله . بينما رقدت السيدة بولاردس ساكنة ووجهها على يديها . بأي حال إستطاع آكلي أن ينكفأ على نفسه ثم ثبت يديه مثل الصدف على أذنيه . كانت عينيه مغلقتان ، وبين أجفانه زحفت الدموع وسقطت على الإسطوانة ، التي تأرجحت وتهادت من نفسها .

نظر آكلي الى الفتاة الرشيقة القصيرة في السادسة عشر من عمرها بلسان جلي مرسوم ، ووجه عريض ساكن . جفنيها نصف مغلقان .
هل أبي هنا؟
حدق بها آكلي . لقد ضغطه شراب البيرنود مقابل الحائط .
أباك ؟ من هو أباك؟
أنا ديانا سبيلايسترا .
بموازاة جميع السلالم جاء ضاحكا ، أما كيتيلار كان يراقص السيدة بولاردس في الأسفل . نظر آكلي إلى العربات على الرصيف. هناك كان يختا بحريا مخصص للأنس ، المنازل فارغة وساكنة لاأمسية بالشارع ، داكنة و متروكة ، كأن قدم إنسان لم تطأها مرة أخرى ، ثم مجددا إلى الفتاة .
هل تريد التحدث إليه؟
قدر المستطاع ..... مجرد لحظات . ترددت . هل هو عيد ميلادك؟
هو آكلي رأسه إيجابا .
تغير وجهها فجأة . أغلقت عينيها ثم ضحكت ، مرتبكة ، ضحكة واهنة .
لم تهنأه ، لكن سألته :
هل تنوي إقامة حفلة ؟
أومأ آكلي . أدخلي .
مشت أمامه على السلم ، بينما كان ينظر إلى قدميها : رشيقتان ، قدمي فتاة لاتوصفان . مشى حتى تعرق ، كان قميص العسكرية المعلق مفتوحا ، حتى ظهر الشعر الأبيض في صدره جليا . كان يمعن النظر فيها . في الممر المتجه إلى السلم في الطابق العلوي نظر إلى الشق أسفل باب المطبخ ، لكنه نسى فجأة فيما إذا كان مضاءا أم لا . عند عتبة باب غرفته نظر وهو ساكن إلى الداخل .كان الجزء العلوي من جسد كيتيلار عاريا ، مرتميا للنصف حول السيدة بولاردس على الفراش الذي كان يهتز يمينا ويسارا ، حاولت أن تمسك صدرها ، لكنه كان ينزلق من يديها بصورة متناسقة مثل آلة . في نهاية المطاف بدت تسريحتها فوضوية . كان سبلايسترا ثملا تماما . لف جهاز الغراموفون ثم نقل الكرسي إلى حوض الغسيل . هناك ظهر برأس متدلي ينظر إلى الورود ويدمدم . الغرفة تفور من الحرارة ، الدخان و بخار الينسون .
إستدارت ديانا نحو آكلي تريد قول شئ ، دنا بجسده منها ثم عانقها ، رأى ذلك سبلايسترا . ثم بدأ يمشي متعثرا في الغرفة .
- ديانا ، قال.
- كان كيتيلار جالسا على ركبتيه فوق الفراش.
- يشم عطر الفتيات ! صرخ .
- ديانا ..ماذا تفعلين هنا ؟
- لي .. ماذا تفعل هنا؟ لي ... ماذا تفعل هنا ؟
- حاول التحدث بصعوبة .
- مشت ديانا خلفه ، ذهبت لتجلس على الفراش ثم نظر كيتيلار إلى صدرها .
- مرحبا ، قالت ضاحكة . لم أعرف بأن أبي يعرف هؤلاء المعارف الظرفاء .
- ها.ها ، مرحبا سيدة بولاردس ,
- بقيت السيدة بولاردس راقدة للخلف مثلما كانت قبل لحظات قليلة ، رفعت يديها ثم وضعتهما فوق قدمي آكلي .
نعم ! صرخ كيتيلار ، كان يتحدث جسده بكلمات ، يؤكل ويتحدث بسرعة مثل
طلقات ماثلة للعيان . أشبه بدمية منبسطة
قدم آكلي ليجلس من الناحية الأخرى بالقرب من ديانا .
تقدم سبلايسترا ببطء للأمام .
ديانا .. ماذا ... أغلق عينيه . 'إلى المنزل! ' صاح فجأة .
بحركة سريعة جر كيتيلار مرة أخرى جهاز السمع من إذنه بصرخة تأوه بإتجاه السيدة بولاردس ، التي بدت شاردة تماما . صرخت ديانا من الضحك ، وكلتا يديها فوق وجهها , بأصابع مشلولة بحث سبلايسترا إلى ذلك الشئ الأبيض الذي كان
يتأرجح من فتحة البنطلون الأمامية . بدت تلك الأحداث أشبه بظاهرة طبيعية .
سألتني الأخت فيما إذا كنت ستأتي للمنزل ، قالت ديانا ، عندما تحدثت مجددا .
نظر سبلايسترا إلى فمها .
ماذا ؟
بدأت ديانا تحرك شفتيها مثل أرنبة ، بدون صوت .
ماذا؟ سأل سبلايسترا مجددا .
ضاحكة نظرت ديانا إلى آكلي ولاحظت بأنه يركز النظر فيها بعينين محدقتين وفيآ واحد
يحرك شفتيه بصوت مكتوم ، ببطء شديد ، عندئذ مرة أخرى .
ماذا ؟ سألته ديانا .
آكلي ... صاح سبلايسترا الذي كان ينظر إليها أيضا ، غاضب ، الوغد البائس ! ديانا ...
قومي ! قبعتي ! لقد تم طردك . الأسلات* هل تستطيع ذلك ... كان يسيل لعابه من الغضب .
رأى آكلي شفاه ماريولين ، التي أجابت بصوت مكتوم : أنا أحبك .
ماذا في الأمر ؟ قالت ديانا . وقفت ثم وضعت جهاز السمع في أذن أبيها . الأخت تسأل: فيما إذا كنت ستأتي للمنزل ! نادت بصوت مرتفع . لم يحدث أي شئ لأمي !
حدث؟ مشوشا نظر إليها سبلايسترا . بدأ ينفخ في وجهه .
جاءت الأخت إلى غرفتي . قالت لي حقيقة بأنني يجب أن أوصلك ، قالت بأنك هنا . شي يتعلق بأمي . تود إخبارك ، لكنها فقدت الوعي .
ماذا حدث ؟ هل تذهب لإستطلاع الأمر ؟
لا ، بالنسبة لي الأمر سيان . سوف أذهب على الفور . إن الأمر مرعب في الشارع .
حيوان ميت ... صاح سبلايسترا بصوت أنثوي .
ثعبان ! لا تستحق العيش ! بدأ يبحث عن معطفه ، ينفخ في وجهه بلا إنقطاع .
حدث .. ماذا حدث .. هل حدث شيئ
قام كيتيلار ليجلس ، و ديانا كأن عينيها بظهرها إستدت على صدره .
إنه شيئ مرعب جدا ، هل تعتقد ذلك ! صاحت. هل أصيبت الأخت بالجنون ، يا أبي ! تفوهت بشئ حول الإستيقاظ .... ربما إستيقظت أمك
ضرب سبلايسترا الطاولة . كان شاحبا مثل ورقة .
أين كتابي ، قبعتي ! صاحت .
للفور تناول بيده كتاب : النص الكوميدي للسيد واحد : بعد مرور ثواني قليلة نظر للأسفل ، حينئذ قام بشئ إستثنائي ، ثائرا بدأ يعض يومزف* قطع كبيرة بأسنانه ، مثل حيوان مفترس . قضم وعض حينئذ، حدث شئ لعينيه، مع الضوء . في نفس الوقت كان من الأسفل والأعلى غطى بنسيج العنكبوت ، غشاوة رمادية لامعة حول ملابسه ، يديه، وجهه وشعره . هكذا وهو لازال محلقا بفمه ، خرج مترنحا من الغرفة .
أخيرا ، قالت ديانا ، التي صعقت من المشهد .
تحولت الغرفة إلى مكان آخر . كل الغرف الأخرى تغيرت مع قدوم الناس أو خروجهم . الغرف الفارغة لم يعد لها وجود . من يفكر بغرفة واحدة ،كانت مشغولة في ذلك الحين . بعض الناس تغيروا داخل غرفهم وظلوا كأشباح إلى الأبد .
أشبه بآلهة عاجزة عن الحركة تحولت إلى بودرة ، ضحك كيتيلار . هل ماقلته عن الراهبة حقيقي؟
-مرحبا ديانا ، قالت السيدة بولاردس . مشعثة الشعر تماما جلست وهي متماسكة ، في تلك اللحظات ظهر شعرها ماثلا للعيان .
بطبيعة الحال ليس حقيقيا .
هل ستشعر بإرتياح إذا إكتشفت بأن أمك قد تحسنت فجأة ؟ مثل تلك الأشياء تحدث مرارا . لافرق عندي ، قالت بنغمة واحدة كما لو أنها قالت حبيبي كإسم عائلة . سكبت الشراب في الكوب .
هل تحترم أمك وأبيك ، قال كيتيلار موعزا بإصبع السبابة .
يجب على كافة الأهالي لدى ولادة طفلهم أن تتم تصفيته من قبل الدولة ، قالت ديانا ، ثم تبادلت معه النخب . في مكان ما في ميدان القيصر الساكن في منتصف الليل .
أنا نفسي فكرت بأكثر من خندق مائي جاف في صباح ضبابي من شهر فبراير ، زمجر كيتيلار ، لكننا لم ننظم ذلك بعد ! في صحتك يا فتاة .
في حقيقة الأمر أنوي الذهاب إليها هذا المساء ، قالت السيدة بولاردس .
فهمت ديانا ماتقصد ، أخبر آكلي الراهبة ظهر اليوم بأن تهجر سبلايسترا . لأن هذا الأخير قد غادر ولم تأتي السيدة بولاردس . كان هو أول من ذهب عندها ، مرتابا ، على أمل أن يكشفهما سويا ، ليس لمباغتهما . كان يعتقد دوما ، بأن أباها متورط مع راهبة الدير . كات درجات السلم تطقطق كل ليلة... الحنفيات في منتصف الليل...ماعدا السيدة بولاردس كانت هناك ، مرتدية البيجاما منشغلة بإعداد الطاولة ، تغطيها بالأوراق . أخبرته حول سلوك الراهبة ، إتصل بولاردس مباشرة من غرفة المقابلات لم تسمعه ثم غادر المنزل بدون أن يراها بالبيجاما ، قافزا بسيارته ممر ساخن . ولم تقرأ ما هو بالأوراق ، أخذت بيديها لاحقا بعض الأشياء ، تركت المنزل في طريقها إلى آكلي . كان مروعا ماحدث في الشوارع ، كما لو تم إخلاء الجميع ، والمنازل بإنتظار غارة هوائية، قادت دراجتها بسرعة شديدة ، بالقرب من منزل بولاردس يجب من مكان ما أن تقفز من ماسورة مياه ، الشارع بأكمله ونصف الميدان كانا فارغين . بمفرده الكلب كان موجودا ، الذي كان ثملا .
هل ذكر شيئا عني ، لماذا لم أذهب إليكم مثلا ؟
لا. أنا لست مذنبا . أراد أباك التملص مني ، لكنه مشى مثل فأر بالمصيدة. في تلك اللحظات يعتقد بطبيعة الحال ، بأنني رتبت ذلك بينما لم يحدث شئ حينما قام السيد آكلي ظهيرة اليوم ....... أقصد بطريق على الجليد ، ببدلة السموكنج . ضحك كيتيلار .
لكن ذلك مرة أخرى ، لاحقا .
لا...أعدها ، أعدها !
جاءت السيدة بولاردس تحمل بطانيات الخيول تزحف بإتجاهه ، شعرها مثل الخميلة *.
واصلي القيادة ، قال.
أعطني القنينة ... لا ، هناك....
في كل لحظة زمنية واجه آكلي ثغرات كبيرة في وعيه ويقظته ، كأنه لم يكن له وجود أو شئ آخر ، لكن لايعرف أين .... بدون إنقطاع ولد من جديد ، بدون أن تذكر الثانية التي مضت . لقد نسى ، بأن سبلايسترا لم يكن موجودا . إجابة لامعنى لها لأن السؤال كان معربدا . تتألف المقابلات من بعض الأسئلة والإجابات ، التي لاتسمع سويا . الآن وفيما بعد إكتشف بأ ن ديانا كانت بين ذراعيه . لم تكن لديه أدنى فكرة كم الساعة الآن وكم ستدوم الحفلة . حاول الإنفكاك ، لكنه يحبها بعنف وأحيانا تخامره فكرة بأنه قبلها . كانت الغرفة ساكنة . أين رأى كيتيلار ، رأى فجأة شق في ورق الحائط ، وجوه ، كؤوس، أيادي ، قناني فارغة ، دخان ، أفواه ، ظلال ورود مهشمة، لمعان بالمرآة ، تتغير مع بعضها ثم تسقط مبتعدة عن بعضها البعض أضواء متواصلة آثار لتسجيلات صوتية وصورية بداخله . قائد الأوركسترا في غرفة الهوايات مع البيانو وأكاليل الزهور المغبرة مع أشرطة مناسبات الإفتتاح على الحائط . الرأس الثائر لبتهوفن . بهجة البار في القبو ، علامات حمراء لمرأة عارية تستند على حاذط حجرى ، تتراشق بقناني فارغة . شابة خلف النافذة ، ذات يوم أحد ، الشارع نائما بالشمس ، ملل على الرغم من ذلك لم يكن مللا لكنه يتدفق بلا إرادة في السكينة، عالم غير مفهوم .

أشعل أحدهم الضوء ، إشتعلت شمعتان إلىجانب بعضهما على الطاولة . سقطت الغرفة في الظل ، الزينة كانت مبهرة ومتشابكة . أصبح الليل بالنافذة جليا . مجددا فجر قفز كيتيلار منحنيا دائريا ثم رشق بالمسدس المائي اللمعان الوامض الطويل للسيدة بولاردس ،
حين ذلك صرخ : هل أصبت بالجنون مرة أخرى من تلك المرأة ؟
عندما رآه في معسكر الإعتقال 'نونخام'، حيث كان مسجونا هناك ، مع رجل آخر يحمل صندوقا ، برفق شديد في حين لم يفهم ما بداخله ، عبر الرمل الذي كان جافا وأصفر من الخوف مثل الرمال في أفران الصهر العالي ، بينما تصاعد الدخان ، قطار مر بسرعة عالية ... ذات مرة ذهب بنفسه للوقوف على الطاولة لأن أيدي السيدة بولاردس إحترقتا بجسدها بينما زحفت ديانا للفور بين ذراعي كيتيلار ، لكن هذا الأخير سحب السيدة بولاردس مجددا إلى الفراش . ونظر قاني واحدة منالنافذة ' لثانية واحدة رأى المدينة ساكنة . أصبحت بلون الفضة ، كما لو أن شمسا من الثلج قد أقبلت . في مكان ما ، جرى سبلايسترا بسرعة في الشوارع ، الورق يرفرف خارج فمه .

ثم أصبح ساكنا مرة أخرى ، يصفر بمفرده ، ينتحب ، يتقدم ببطء . رأى بأن الصحون تنطبق بسرعة ، ظل باب خزانة الأطفال مفتوحا ، وملابسه مبعثرة في أرجاء الغرفة . كانت الزهور مبعثرة في الزاوية الأخرى في الغرفة .داس منخفضا كي لايترك المياه الخضراء تنساب . نظر إلى ديانا .طالما نهضت أمامه من مقعدها من لاشيئ ، أولا عند مدخل باب المنزل ، مرة تلو الأخرى حينذاك في الغرفة ، لم يفهم من تكون . كان شيئا متدفقا وقف بين ذراعيه ، شيئ واحد بمفرده لذلك الغرض : للإجابة عن القوانين . تنبعث رائحة حريق في الغرفة . كم إستغرقت السيدة بولاردس جاثمة على ركبتيها ، بفلينة محترقة بخطوط سوداء جذبت كيتلار بوجهه وصدره وظهره ؟

جلس عل الأرض بجانب ديانا وأخبرها ، بأن أباها والراهبة يودان قتل أمها ، لكنها سوف تضربهما بعصا هناك . لايعني هذا بأن الأمر لايهمني كثيرا ، هل سمعت ، ولن أسمح بذلك . أجد بأنه من الأفضل لو أنهما يجالسان أمي بصفة دائمة . إن أمي كئيبة ، قديسة ، هل تعلم ذلك دائما ساكنة وصبورة . لا تلجأ إلى اللعنات مطلقا لأنها مشلولة والآخرين عكسها تماما . هل تعرف ما حدث مباشرة بعد ولادتي ؟ فعلتها ، عندما كنت في أحشاءها ، لقد كنت عاجزة تماما لماذا تجلسين هناك بذراعيك و لاتقبليني ؟ لايعني بأنني لا أريد أن تقبلني ، لايجب أن تفكر بذلك ، لأأود ذلك لأن لدي صديق .
كيتيلار صديقي ، قال آكلي . إنه هناك . أطلق صيحة تألم ، أعرفه منذ فترة طويلة . هل لديك صديق ؟
-نعم ، قلت لك.. أليس كذلك .
-أومأ آكلي برأسه إيجابا .
-كيف يبدو؟
حسنا ، كبيرا ، بطيئا لدرجة تثير الآخرين ، بعينين زرقاوين وأنف كبير وفم كبير مرتخي .
وجه عبقري ، أومأ آكلي برأسه إيجابا .
-من الأفضل أن يكون موهوبا ، لكنه كسول جدا .
-إنه مشغول بالماريجوانا . هل سمعت ذات مرة بأنه دخن ذلك الشيئ ؟
-ليس قليل الشأن بدرجة كبيرة ، أليس كذلك؟
-من هو أقل شأنا مني؟
-بيد أنك قلت بأن صديقك أقل شأنا مني .
-أنا؟
كيتيلار منفصل عن زوجته . كان يفضل الخيول دائما ، يراهن هل تعلم بذلك ، في سباقات الخيل . هل تحسست قدميك؟
-نعم ، هل تسمح لي بذلك؟
هل تعلم ... قال آكلي ببطء ، بوى ردس رجل عظيم الشأن . إكتشف نظريات علاجية جديدة ... في غرفته ... تلك المشبعة بالضوء .... آكلي لديه عينان جاحظتان بلون أزرق فاتح . نظر بهذا إلى زوج من الورود المهشمة التي لازالت تتدلى.
أحدهم قال بأنها جميلة ، قال هو ، والآخر نفى ذلك .

نظر للأعلى لمعرفة مصدر الضجيج ، الذي تقدم فجأة بإتجاهه . يتم الإستعداد لرقم كبير جدا . إختفت ديانا ، إلى جانبه ظهرت قدمين ، كان صوت كيتيلار مرتفعا . إنتحي جانبا ! الكل ينتحون جانبا من أجل الأمير بيبي ! لقد إنتهت جميع
التحضيرات ؟ جميع الأشخاص في السطح !
لم يفهم آكلي ماعلاقة الأقدام بصوت ؟ هل فهمتم شيئا . وهل حدث خارج شيطرتهم ؟ شعر بشفقة وعاطفة أمام تلك الأقدام ، اللتان كانتا تستندان بمعزل عن بعضها ، مواسيا أراد أن يتحسسهما ، عندئذ رأى السيدة بولاردس على الكرسي تحاول تسلق حوض الغسيل ، تمسك بتنورتها للأسفل، هناك تجري بعض التعديلات حتى تسحق بمؤخرتها لاحقا ماتبقى من زهور .
أهلا ! عزيزتي الملكة !
في تلك اللحظات قفزت القدمين ، عصرته تقريبا رأسا على عقب . كان سعيدا بئلك ثم بدأ يضحك . إذهب بعيدا ! لاتنظر . إذا نظرت ، لن تذهب . إختفت القدمان ، لاحقا تجلجل الضرب على الفراش , مشعثة الشعر ، صامتة ، بفم نصف مفتوح بدأت السيدة بولاردس بجانب حوض الغسيل تنظر إلى عيني آكلي لكنها لم ترى شيئا . نظر إليها مجددا، وجهها بدا مسترخيا مثل المتأمل المبهم ، التي تنتظر نداء الله . بدت متعبة ثم بدأت للفور تفكر بالأبدية ، بينما أصبحت خشخشة الرخام الرقيق مسموعة. أصبح لحياة السيدة بولاردس معى وفائدة . جسدها يتصل بالأرض وكينونتها أصبحت سامية . العالم ينزلق راجعا إلى الأصل ، ، شبح الآلهة يحلق فوق المياه. أخطأت السيدة بولاردس في إحداث تناغم مثالي وتناقض عرضي مع الكون.
على السرير رقد كيتيلار مغمورا إسفل ديانا . زحفت من جميع الزوايا نحوه وظهر متوحشا وهو يقبلها ، أسفله إنزلقت يديها فوق ظهره العاري من بنطلونه .

-قذر ، همست بين الوسائد ، عفن ... قذر .. عفن .
ظهرت السيدة بولاردس من حوض الغسيل ، رفعت بنطلونها للأعلى وتركت نفسها أسفل آكلي الذي كان يبلع الربيان . بوشمه الأسود قفز كيتيلار واقفا ، ثم حرك ديانا بعيدا عنه مثل الرمل .بخطوتين كان عند السيدة بولاردس ، التي بدأت تصرخ حملها ثم وضعها على الفراش بينما حمل ديانا بعيدا عنه ،وضعها عند آكلي على الأرض ، لم يتفوه بكلمة ، ثم إنبطحت فوق السيد آكلي ، كيفما ينبطح البشر وهم على الشاطئ فوق منشفة الجسم .

إستلقى آكلي مرتجفا بمؤخرة رأسه على الفراش ثم نظر للأعلى ، إلى زينة السقف يبدو بأنها أدت الغرض المطلوب . حلق عاليا إلى الخارج إلى آلاف الخطوات ، الخشخشات ، الإنتفاضات والطلقات . موصلات الأوراق من ألوانها الخاطفة تشير إلى لغة موريس السرية خارج الظلال التي أصبحت ماثلة للعيان . مقابل الألواح المتعفنة خلف الزينة ، كانت الحركة قائمة علىقدم وساق في المدينة العالمية ، ظلال ميرايدن تنزلق ببعضها ، إختفت ، سقطت منفصلة .

كانوا هم الطلبة في القبو المكتوم ، المكتظ ، أمام إشارة حمراء ، بانت سيدة ، أسفل كل القناني المتناثرة خالية من أي خدش . بينما في الحفلات الأخرى حيث الناس سكارى والعراك علىأشده كانوا هم الأطفال في منطقة اللعب على البلاط، الرماديي الجميل، حيث أصوات صرخات معبرة عن فرح خفيف ، تدوي بعيدا عن الطريق .

كان أباه بقبعة كبيرة ، إختفىبالممر ونفسه الذي ظهر في آلاف الأحلام والشوارع . كانوا كل البشر الذين لم يقفوا أبدا أمامه في القطارات والترمات . كان الحبل الذي يتدلى من صندوق البريد .مع قائد الأوركسترا مشى تلك الأمسية في أرجاء المدينة . الأضواء ، في مكان ما كانت العوالم ، حيث وجد وحدث مل شيئ وسوف يحدث ويبقى للأبد . هذا أهم من الحياة بعد الموت وروعة الخلود السرمدي . كان الحبل مهما . في مكان ما لازال يتدلى من الباص وبإنتظاره ، الباب المفتوح سوف يسحبه . في كل لحظة بين صفوف هؤلاء الشباب في القبو ، يظهر شيئا مهما في كل ثانية خلف النافذة في الشارع النائم أسفل الشمس . لن يستطيع شيئ الإختفاء ، القنالات التي حفرت من الكتلة الرملية لراصفي الشارع ، حيث ترك تتدحرج هنا وهناك ، الكرة ، التي إنبثقت من الظلمة ثم إلتفت فوق سور البلكون ، إختفت بالداخل و
بزغت من الناحية الأخرى . قلبه يتفطر من الحنين والشوق . كل شئ مهم . في كل لحظة في يوم ربيعي يظل واقفا بين الخس ، وذراعها حول ذراعيه ونظر إلى قطعة الحائط المتآكلة العتيقة حيث تزحف الوحوش من مكان إلى مكان . كان السكون الشديد في الغرفة . إحترقت الشموع تقريبا ، ظلت الألسنة إلى جانب بعضهما لكن أحد الألنة كان حادا مثل الإبرة وأصدر دخانا .
وعندئذ ؟ همست السيدة بولاردس .
رقد كيتيلار مجددا بقربها ، وفمه مقابل أذنها ، لم تتدفق الكلمات في العالم ، إنزلقت من رأس لآخر . عندما فتح عينيه رأى الشعر خارج جبهتها اللامعة : ناعما ، رفيعا كأنه غسل في كوكب آخر . خديها وملابسها ملطخان بهباب وجهه وصدره .

هل رأيتنا ذات مرة مثل زوج وزوجته . كل شئ ساكن في الأرض ، يتدلى كل شيء
يتدلى بلا حراك في الهواء ، حتى الطيور . اليوم أصبح يشكل خطورة للحياة .
حينئذ ... حينئذ ؟ شعر كيتيلار ببطنها تضغطان عليه . ضغطه برفق .
أين الثلاثة ياترى، قتلوا للفور بالأفق . ليس من الأهمية من مات أولا ، الرجل ، المرأة أو الثالث . القضية الرئيسية ، بأنهما أصبحا إثنان فقط.
هل عرفت المدينة مثل ذلك السكون من قبل . يرقد الجميع خلف بعضهم في الغرفة، نصف نائمين ، بإنتظار شيئ ما .
هل قتلها؟ همست السيدة بولاردس .
لانعلم ماحدث بالضبط . إنتظر كيتيلار إنتظر حتى يتلاشى نفوره . ضرب الزنجي مثل عجينة فاكهة مطحونة،لكن ذلك لم يكن ذو أهمية . كان الكل منشغلين في جميع القاعات بضرب بعضهم البعض مثل عجينة فاكهة . وقفت ثم رتبت ملابسها صامتة ، ضاحكة . هل سمعت ليس من أجل شخص محدد لملمت بقاياها ، ليس من أجل موب أو الزنجي . تقريبا منذ لحظة ولادتهما يسمعان لبعضهما البعض . كنا نستمتع بهما كصنف عجيب مدهش يعيش بيننا ، موب وماريولين . لم تقل شيئا . قدت سيارتي متوجها إلى المنزل ، بينما جلسا للخلف بدون كلمة ، كنت أتلوى من الألم في خداي . نصف الطريق في مكان ما في الطريق السريع
المظلم الذي تم إنشاؤه وصيانته على نفقة الدولة وليس البلدية ، طلب مني التوقف .
ثم توقفت . لم أنظر حولي وبقيت جالسا مثل سائق تاكسي . كان في موقف يحسده عليه حتى الخدم . سمعت بأن الباب إنفتح من زاويتها ثم إنتظرت و بدون كلمة توقفت في الأرض المظلمة . سحب الباب ثم أغلقه. واصل القيادة: قال لي . قدت السيارة لوحدي للأمام . في اليوم التالي إنتشلت جثتها من القناة مرتدية ثياب الحفلة إبتلع نفسه مرة تلو الأخرى ثم خبط ذراعيه حولها . أنصتي جيدا ، لم يحاول الأنتحار ليس لأنه يشعر بالألم والحسرة ولكن لأنه لم يشعر بقطرة من الألم والحسرة .
مقابل الحائط ظهر من رأسه مثل ظل عملاق . مجددا شعر بقدميه بين يدي ديانا .
وموب ؟
حاول الإنتحار ، الإنتحار . لم يشعر بطعم الحياة . بأسلوب أو بآخر تحول إلى شخص ساخر بالحياة ، مخبول فنان .. أوه..أوه.. ماريولين .
شد عضلاته ، كي يتناوبان الحركة ويرقد إلى جانبها . ضغط قدميه بين قدميها اللتان كانتا تتباعدان عن بعضهما . بدأ يرتجف . بركبة واحدة رفع تنورتها ثم شعر بيديه تشدانه ، عبر الممرات اللانهائية ، الأقبية ، السلالم ، العليات، الأزقة ، الميادين ، أقبية من العصر الروماني المتاهات تقوده إلى جسدها الملتهب. بدأ يتحرك ببطء بدأ ، تنهد بهدوء في أنفه ، بينما تحركت هي ببطء ثم تسلقته بإحكام . جلس آكلي على الأرض ثم تحدث وهو يفكر بعمق إلى ديانا ، التي كانت مستيقظة وساكنة ، وظهرها إليه تحدق بالمرآة ملطخا بالأسود مثل السيد بولاردس الأجمل في العالم الجدران القديمة ، هل فهمت يا ديانا؟ .

قطع من المرمر أحيانا توضع باليد مرة واحدة. غالبا منخفضة وليست طويلة ربما بقايا مزارع منهارة ومحترقة ولكن لايمكن رؤيتها مرة أخرى . تنتصب بين أعواد القمح والخس تقاوم المطر وضوء الشمس .في الماضي جبست بالطين ولكن يتزاحم حولها الجلمود في كل مكان . عند أقدامها توجد طبقة سميكة من القاذورات ، مليئة بالحشرات . لم يفكر أحد بتحطميها .وقعت عينيه أمام علبة منتقاة بعناية ، لف حولها شريط بعناية تامةثم وضعت أسفل السرير.فاقد الشعور تناولها بيده ثم بدأ يفتحها .كم هو رائع ، الطريق . طريق مألوف ، طريق إسفلتي ، حيث السيارات وقائدي الدراجات يقودون هنا وهناك . ذات مرة ظللت صامتا لساعات ، أحدق بالطريق . حاولت فهم الطريق ولكن ليس هناك أصعب من محاولة فهم الطريق، عندما تكتشف ذات مرة بأنه سيكون ضدك... مثل بقية الأشياء الأخرى . جدران البيت الصماء على سبيل المثال : تبدو أحيانا مبهمة ومدهشة أكثر مما حكاه لك أبيك عن المسيح من قبل . لايتحدث الناس مطلقا حول تلك الأمور . ربما لأنهم لايرونها ، أنا نفسي رأيتها في السنوات الأخيرة . هل تعرفي ذلك ، ديانا .. أشياء تجدها فقط على الأرض . أما في الكواكب الأخرى فالأمر مختلف . صمت ونظر إلى العلبة ، التي ظلت مفتوحة بيديه . بعلبة محشوة بالقطن يرقد فرس بحر جاف ، مخلوق جميل بخرطوم مدبب وذيل مكرمش . بدأت شفتيه تتحركان ، الحمرة غطت وجهه .الآن سوف أذهب للسيدة هينيكس ،تمتم.... الآن سوف أذهب للسيدة هينكس، وقف ثم تعثر بكامل طوله للخلف ، بيد تكسرت بشظايا الزجاج، بينما تمسك اليد الأخرى بالفرس عاليا في الهواء . عندئذ وقف مجددا إلى جانب ديانا ثم نظر إلى المرآة . في نفس اللحظة رأى ما كانت تنظر إليه ، في العالم الآخر فجأة حلقت الطيور أسفل الأرض ، ديدان تزحف عبر الهواء ، حيث تتأرجح الجثث ، تمشي ، تبحر مرات عديدة بين الأشجار والأسماك ، بين الطرقات . للحظة أصيب بفواق وأدهشه تسرب الهواء للغرفة ، لكن الضوء لم يصل إلى تلك الأشياء، الظلمة والضوء في نفس الوقت، ضوء حيث أضيت الشموع مجددا ، ضوء يجب أن يكون منيرا . فجأة أخذ يصرخ ، مشيرا بإصبع السبابة بالمرآة ، إلى النافذة . . .


(7)

الإستاد الرياضي

أنظر ، أنظر، أنظر ! صارخا ، قافزا ، مصوبا طبع أصابعه بزجاج المرآة ، ظهر وجهه ، رقبته ، صدره مشبعا بالعرق والسخام . نظر إلى النافذة إلى يمين كيتيلار . أسفله أدارت المرأة وجهها إلى ناحية خدها . يتدلى من النافذة ضوء النهار ، السماء بلون الأزرق الصيفي ، لكن الظلمة تستولي على الغرفة تضيئها الشموع فقط .

إنه القمر ، قالت السيدة بولاردس ، أحنت رأسها جانبا ، وجه كروي ، شعر آكلي بشئ يصرخ من فمه، يفلت مثل عضو من أعضاء الجسم ثم يجذبه للخارج. مرتعشا ومبتلعا ريقه تسلق الطاولة ثم نظر للخارج . يقضب وجهه من الضوء الساطع . أسفل الهواء الرائق المتعذر جمحه ، حيث يحلق جسم سماوي كبير ، تبدو المدينة سوداء مثل الكرنب ، تلمع الأبراج بوضوح في الضوء ، بإتجاه الأفق ، بدت الأرض أشبه بمستعمرة سوداء في الضوء ، كما لو أن الظلام يشع. إنها الشمس ! صرخ . الشمس ! ليكس ! الشمس أشرقت لكن الضوء ليس بعد.
- كم الساعة الآن؟ المدينة بأكملها سوداء ، مبهورا إلتف حول نفسه ونظر في الغرفة . ضوئين يهيمان بالظلمة : أعمدة صغيرة ، في العمق أرخى جسمه ثم تحرك . شعر فجأة بيديه عند كعب قدميه ثم بدأ يركل برجليه في الهواء كالأطفال . كان يركل كما لو أن صينية الطاولة أصبحت من الحديد الحامي ، إنطفأت الشموع .
- اللعنة ، موب! موب!
- إنها الشمس ! صرخ . الشمس تلاشت !
فجأة أرخى يديه ثم شعر بجسد كيتيلاروهو يتسلق الطاولة . بدون حركة بقي واقفا وذراعيه حول جسمه كما لو أنه متجمد . السكينة عبارة عن رجل في الغرفة . ظل رأس كيتيلار لعدة ثواني مثل صورة مظللة في الضوء المربع من النافذة , تغيرت الصورة المظللة ، الأنف جذب الرأس
- إنها الشمس .... وشوش.
شعر آكلي بجسده وهو يتلاشى. تقدم ببطء في الغرفة . لاحقا سمع صوت الباب يفتح وخطوات أقدام على السلالم للأسفل . أولا رجل واحد ثم رجلين ، ثلاثة بدون أن يتفوهوا بكلمة .
إنه وحيد إستمع آكلي ثم غير إتجاهه راجعا إلى الطاولة . لايوجد أحد ، لكن يوجد شيء يصعب تحمله . في العدم يوجد صوت . يتقلب في فراشه وحيدا. الكرسي وحيد . الهواء فارغ . الغرفة مشبعة بالهواء . تحسس بإتجاه النافذة ثم شعر بالخوف . لايوجد أحد بقربه أكثر من الكرسي، الفراش ، الهواء وجسده الحقيقي . لم يجرؤ للوصول إلى الطاولة والمشي في الغرفة الى الباب . الغرفة غير مأمونة ، تحولت إلى وحش مفترس. بدأت قدميه تتأوهان من الخوف فوق الطاولة ، حيث يقف .

على الفور كان يتدلى للنصف خارج النافذة ، و قدميه تترافسان في الهواء ويديه تعبثان بسرعة في الأوعية السوداء . السماء تشع . منتفضا حاول الخروج من تلك الفتحة الضيقة ، حتى تدلى بالمقلوب فوق السطح ، لاتزال قدميه فقط بالنافذة . بسط ذراعيه ، عثر على حافة النافذة وترك جسده ينزلق برفق في ماسورة تصريف مياه المطر ، بكامل طوله فوجىء بأشياء مبعثرة مستترة في كل مكان من قطع زجاج ، نباتات دقيقة لزجة ، أوراق ممزقة .

كان يوما رائعا فوق سحابتين بيضاوين تنزلقان ، سفينتين ، عبر الأفق الأزرق ، هكذا مضى الليل بأكمله من حوله وأسفله . ما رآه سوى خط معقد من الأسطح ، الأبراج ، قناني الغاز ، مداخن المدافئ ، أعمدة ، عقد ، حمام لايعد أو يحصى ، حوصر حول الضوء الذي تحته،
لاحت أولى خيوط الظلام ، بدون علامات مميزة . في أعلى الضوء شكت في كل مكان غرز بأحرف وكلمات من إعلانات النيون ، بعيدا من هنا تنتصب مجموعة من حنفيات المياه مثل قطيع من الحيوانات الثدية والزرافات . لم يستطع رؤية يديه . عندما حشرهما فوق حافة السطح ، كأنهما ولدا في السام . شعرأسفله بوجود المحصول النامي المرتب في الباحات ، الحدائق ، العشش ، أماكن العمل ، السلاسل ، الشرفات ذات الجدران الزجاجية ، أماكن تخزين البضائع ، أوكار الأرانب ، ركام الزبالة . في أرضية البلاط ، حيث يذهب كل صباح رجلين سمينين بمناشف حول الخصر ، يمشيان ويتصارعان .

بين تارة وأخرى يحاول تسلق حقل عشبي غير منسق فوق الطاولة ، مفتونا بالعتمة رأى خلفه لون أخضر قاتم غير مفهوم ، عند الجدران المظللة ، الطرق ، الأسوار ، تنتمي للأرض . غرقت جميع الأشياء في حفرة من الظلام . بحذر وإحتراس تحسس الطريق من حوله و زحف بيديه وركبتيه في ماسورة تصريف المياه للأمام ، عينيه غير معتادتين على حدود الضوء والظلام الموجه إليه . إختفى الملل ، الجو لم يعد دافئا أو باردا ، لم يعد هناك أثر للجو. تؤلمه يده ، من المحتمل تنزفان . على بعد أمتار شعر بالنافذة ، ليس مثل النافذة المائلة بالسطح ، ولكنها بنيت للأمام . توجه إليها ، وقدميه فوق الأوعية أزاحها ، ثم تسلق ذلك المكان الصغير . وقعت إحدى الأوعية إرتطمت بالأرض ، ثم سكنت ، أطلقت ضربة واحدة في عمق الظلام أولا على ركبتيه ثم شعر وهو واقف فوق السطح ، بأنه علاوة على ذلك مرتفعا ، منبسطا طائرا من السكر . بقدم تلي الأخرى بدأ يمشي للأمام فوق الزلط الصغير . من مسافة تبدو أبراج الشركة الشرقية-الهندية مرسومة بالحبر الأزرق . شبكات وأنتينات هوائية أزيلت سيقانها ، تتزاحم في الهواء في كل مكان . مدفأة كبيرة تنتصب فوق أربعة أعمدة . ينبعث منها دخان أسود قاتم ، فجأة سمع بالجراد يحوم من حوله ثم نظر للأعلى إلى السماء اللامعة . ثلاثة طيور سوداء تتمايل . تعثر بإحدى الأسلاك ثم رأى فجأة قمر عملاق أحمر بلون الدم ، للنصف في الأفق الأسود . ظل يتأمله ، مجددا أكثر إبتساما كما لو أنه تعرف على صديق قديم .

بيديه وقدميه وصل الى الزاوية الأمامية من منزله . في العمق يجب أن يصل للشارع من بين الظلمة تصاعد طنين هادئ ، أزيز ودمدمة كما لو أن ملايين الحشرات هاجرت إلى هناك . بلا إنقطاع أدرك بأنه فقد جسمه ثم ترك عينيه تلهوان عبر اللاشئ ، لكن تتراجعان مرارا وتكرارا الى الخط الحاد بين النهار والليل .

كما لو أنه أصيب بالعمي . ولكن كيف حاول في تلك بالظلمة الشديدة التحمل والإستمرار من غير أن يتخذ شكلا معينا . ماعدا الطنين ظل يتزايد ، أحيانا شيئ يتناقص أو يتزايد لكنه مرارا وتكرارا غير محدود المعالم ، بدون عمق ، حشري . بموازاة حافة السطح بدأ يزحف ثم حاول أن يكتشف مكان وجوده ، مرارا وتكرارا الطنين خارج الظلمة في أذنيه وصل الى زاوية السطح .. هنا في الحارة يظهر الخباز في الشارع . تذكر فجأة سلم الحريق ، الذي تبعه ذات مرة بعينيه في الزقاق ، الإنحناءة ، حيث وصل للسطح ، خامره شعور بأنه سجن . إختار ركنا محددا ثم رأى إنحناء من مسافة عشرة أمتار في مقابل السماء . من الإنارة إرتفع الصوت، فجأة أدرك بأنه قد سمعه من قبل ، أيضا عندما كان لايزال واقفا في مجرى تصريف المياه في السطح . إرتفع الصوت في كافة أرجاء المدينة ، في تلك اللحظات سمع تنهيدات رائعة حتى بلغت نهاية المنازل .

إذا ما وقف بظهرة إلى الزقاق بين القضبان الحديدية ، يصبح خائفا من الهبوط داخل السخام . لكن فيما بعد تظهر الظلمة فوقه ثم يتناقص الضوء تدريجيا . المعدن في يديه ليس باردا وليس دافئا ، كأن لاوجود له . ورأسه برقبته ، عينيه مصوبتين نحو حافة السطح ، شبكة تلي أخرى للأسفل ، الصوت أسفل قدمية أصبح أكثر حدة . مخشخشا ، مائلا ، منزلقا ، متدحرجا . إنه الضوء في الطريق الحليبي الصغير .بالضبط عندما يشعر بشئ أسفل قدميه ، تبحر كلا السجابتين للداخل . فتش بقدميه ، كل شئ يتحرك أسفله ، عثر فجأة في فتحة صغيرة ثم ترك نفسه يسقط بداخلها . وقف بالشارع ، حتى إذنيه في مكان ما يغرق ، في عاصفة ، في الناس ، الذين يدفعونه معهم بأجسادهم ، من الحارة إلى الشارع ، حيث السماء كبيرة . من منزل لآخر الشارع المستتر محتشد بالناس المتحركين ، في كل الزوايا شعر بأذرع ، أقدام ، أظهر ، بطون ، رؤوس ، أفخاذ , يتدحرجون ، يفتح إذنيه بدرجة كافية، يسمع دحرجة لأقدام لاحصر لها فوق الأحجار الصخرية ، تتزاحم ، تهمهم لكن لاتتكلم ، في مكان ما صراخ ، لايوجد صوت سوى الهمهمة . حشد لانهائي متحرك مطنطن عبر أرجاء المدينة أسفل السماء اللامعة . الآن وفيما بعد كان يصطدم بالشاحنات ، التي تقف ساكنة مثلما الحيوانات يرتطمون بوجهه .

فجأة سمع صوت صراخ . ظهرت بموازاته ملامح لبشر طوال القامة يمشون مثل الأوزة وسط حشود الناس ، بينما نادى صوت في المقدمة هل رأيتم: هؤلاء موفدين لإبلاغكم بأن نهاية العالم قد إقتربت ، عبر إستخدام خاصية التقليل البصري لرصد إمتصاص تلك التداخلات السببية . مثل نموذج خاتمة ، نشير هنا إلى السمك الظاهر المتعفن والأضواء المنخفضة ليوهانس فورموخن. مر بهم مرة أخرى ، تدافع الحشد ، مدمدما ، خائفا، كارها وغير راضيا . لم يحتج أحد أو يتزايد عددهم . ظهر أحد الشبيبة حول عمود إضاءة الطرق ، أسود خارج الضوء ، مطقطقا بأصابعه ، ملوحا ، متحركا . كانت الشمس تسفع السطح المستوي للمبنى المنخفض ، محصورا بين جدران المستودعات وماحولها. العالم بأكمله ، حتى ظلها تلاشى ولم يبقى سوى اللون الأزرق والأبيض لسحابتين ، بينما الأحمر في مكان ما عند الأفق حيث يبدو القمر أشبه بإستاد رياضي تقام فيه مباريات وتظاهرات غير معروفة.

في نهاية المطاف تخيل آكلي كما لو أنه العالم ، حيث يشعر بالملل ، ضوء السماء وظلمة الليل والناس المتدافعين ، بينما تبدو قارة إفريقيا في سفر الرؤيا بأكملها في طريقها فوق رؤوسهم . أقدامهم تمشي بالمياه ، في كل مكان أصوات لعب ورشق في المياه. فجأة كأن فرس البحرحط بين أصابعه . نظر للأعلى ثم دفع صدره للخارج , زحفت شجرة خائفة خارج الضوء المتعذر جمحه وللأبد. بانت على وجهه إبتسامة تدل عن نشوة إنتصار ، راغبا في الإكتشاف إندفع
بين حشود الناس مثل سباح ماهر .




هوامش المترجمة :

.سمايتر: وجبة هولندية شهيرة تقدم كفطور في الصباح.
.أبراكادابرا: لغة السحر والشعوذة
كلارسينت: آلة نفخ موسيقية.
ترمبون : آلة نفخ نحاسية
العصاب : إضطراب عصبي
لايدنارس: كناية عن أهل مدينة لايدن في الجنوب الهولندي مثل البصريين أو البغداديين
موسكوس: رجال محاربين في فرقة الخيل الحربية
البركيت : طاشر الحب أو ببغاء صغير
الصندرة: فراغ صغير تحت سقف المنزل
الأسل: نبات القش يستخدم لصناعة السلال والمقشات
الأخت : راهبة في دير أو كنيسة
خميلة : مجموعة شجيرات

 

 

 

 

 

 الكتل

رواية إخفاق دولة

 للكاتب الهولندي:   فيرديناد بورديفايك

ترجمة :إنتصار الغريب

 

 

 

سيرة ذاتية

 

كانت ولادة الكاتب فيرديناد جون ويلهيبم كريستيان كارل إيميل في شارع يان ستي بأمستردام في 10 أكتوبر عام من عام 1884  ، كان أباه يعد مرجعا في مصلحة الأرصاد المائية التابعة لوزارة المواصلات ويتولى تسجيل حركة المياه في الأنهار والقنوات والبحيرات وأيضا مراقبة الجسور والكباري. بعد مرور عام رحلت أسرته إلى منزل جديد يقع في جادة 198 بالقرب من قناة مائية حول المدينة التي يطلق عليها حاليا كيزررايك،  إنتهى به المطاف عام 1894 للإقامة بمدينة لاهاي. إلتحق بالمدرسة الثانوية العليا ويستئيندة ، ثم درس الحقوق لاحقا بجامعة لايدن الشهيرة ، حيث تخرج منها سنة 1912 ، تعتبر المدينة الجامعة مرجعا لحكايات وقصص رائعة حتى يومنا هذا .

 

عام 1913  حلف اليمين كمحامي رسمي، فيما بعد إشتغل  لفترة قصيرة  في قسم الأرشيف التابع لمصلحة التأمين على الحياة، لاحقا كمحامي مبتدئ في مكتب شارع بومبيس 11 بمدينة روتردام الشهيرة،  وهو المكتب الذي لعب دورا هاما  في تكوين شخصيته .  هنا ظل بورديفايك يعمل حتى سنة 1919  وهو نفس العام الذي إستقر به المطاف للعمل كمحامي مستقل في مدينة سخيدام وظل يزاول نفس المهنة حتى مماته .

 

تزوج بورديفايك سنة 1914 من الموسيقية جوانا روبمان ،أنجبت له ولدا أسماه روبرت وإبنة تدعى  نينا. مابين أعوام 1918 و1920  عمل مدرسا في مدرسة التجارة بميدان ألكيمد نفس الموقع الذي دارت فيه أحداث روايته "بينت" . سنة 1919 إختصر إسمه الأول إلى فرديناند.

 

قام مع زوجته برحلات كثيرة حول العالم ، سنة 1927  على سبيل المثال إلى جنوب إفريقيا، نهاية 1945 أنتخب رئيسا

للمجلس الشرفي للأدب ،وهي عبارة عن هيئة تتألف من الكتاب  الذين فرض عليهم حظر النشر إبان الإحتلال النازي . مابين أعوام 1947 و1952  شغل وظيفة رئيس مؤسسة  يان كامبرا في

 لاهاي وهي مؤسسة بلدية تمنح المنح الدراسية والجوائز.

توفي بورديفايك في 28 إبريل عام 1965 عن ثمانين عاما  في

نفس الشهر التي نشرت فيه روايته خولبرتونس . كما حصل على الميدالية الفضية  من بلدية خرافنهاخ في نفس العام .

 

كان للمؤلف عدد من الروايات المثيرة ومجموعات قصصية كثيرة ، حيث كان يعمل كمحامي في النهار ، ومؤلفا بالليل. لكنه كان يشعر بمشقة أثاء كتابته للروايات أكثر من القصص، خصوصا أعماله الطويلة ، من أجل المحافظة على جودتها .

 

على الرغم من أنه كتب روايات طويلة ، حصلت على شهرة واسعة من القراء أكثر من القصص القصيرة . لازال الناس يقبلون على قراءة  رواية "الشخصية" ولاحقا رواية بينت حتى يومنا هذا . له  روايات أخرى مثل:  الجبهات ، الوحوش الساخطة، القصر الأحمر، أبولون . عبر تلك الروايات  نلحظ  كاتبا قصصيا يتطور إلى كاتب روائي يحافظ على أسلوب معين للكتابة حتى النهاية، تعتبر  كتاباته مزيج من السوريالية وتأديب النفس .

 

 

عراب السريالية

 

إتخذت السريالية الأدبية  أشكالا مختلفة في أرجاء مختلفة من العالم ، لكن الحركة في هولندا إستقلت بذاتها حتى أطلقها الروائي فيرديناند بورديفايك (1884-1965). هذا الكاتب إشتهر بروايات فترة ماقبل الحرب العالمية الثانية مثل بينت(1934) والشخصية (1938) كما كتب بعض المجموعات التي تتضمن قصصا سوريالية في سنوات الأربعينات والخمسينات من القرن الماضي. وتعتبر تلك القصص حسب تصنيف كبار الكتاب الهولنديين أمثال فيستدايك، هيرمانس، وكيلندونك من أفضل القصص القصيرة سواء من حيث جمالية اللغة والوصف وأيضا الأسلوب. إن تلك القصص تركت في نفوس الناس آثارا كبيرة وإذا كنت وبادرت شخصيا إلى جمع وتدوين كل ماكتب عن بورديفايك فإن ذلك نابع عن تأثري بكتابات بوردفايك ولكن أي نوع من القصص السوريالية نتحدث؟!

 

من عام 1946 حتى عام 1945 أطلقت صحيفة أوترخت على بورديفاك لقب الناقد الأدبي

كونه أضاف الكثير من المفاهيم للسوريالية الأدبية في هولندا . إن تفسيره للسريالية يمكن تلخيصه بثلاثة نقاط: أولا تلاشي الحدود بين المخلوقات الحية والأشياءالفانية،أيضا أطلق عليها

التجسيد والروعة التقنية في بناء قصصي ملتحم ، ثانيا :الأسلوب الفني المتزن  ثم الإختلاف الفوضوي  بين الواقع والحلم. في إحدى آرائه النقدية يورد بورديفايك ميزة جوهرية للسوريالية تتمثل في عزل الحي لصالح الميت ، الشيء أو التجريد. هنا يطرح بورديفايك أمثلة مختلفة من فن الرسم

مثل ويلينك، كوخ، هاينكيس ثم أولى إهتماما  حول الكاتب ويليام فريدريك هيرمانس  وقصته "الدكتور كلونيايك".

حول مسألة التجسيد في تلك القصة كتب  قائلا: الناس ينزلقون تقريبا من خلال تلك القصة  مثل

أجزاء المتحركة، يعتبرها بوردفايك نموذجا للقصة السوريالية، بينما يقف معارضا لنموذج

آخر مثل رواية "الوجود الغائم" للكاتب كولا ديبورت التي يصنفها كبديل مخفق ، و يبدو بأن الأفكار الراديكالية  للسوريالية الفرنسية  لاتلائم  بوضوح آراء بورديفايك  حول السوريالية

  تعبير سوريالية يعني ما "فوق الواقع" ولايعني هذا التعبير تماما علم اللاوعي أو"الجنون" 'إذا إعتبرنا الجنون هو جزء من الواقع المعاش،أو أن المجانين بشر يتعامل معهم عقلاء على الأقل ، أطباء وباحثون في الأمراض العقلية لكن السريالية تعتمد أساسا في إبداعها على "لاوعي" الفنان أي أن يستمد عمله من لاوعيه، وهذا يتطلب إزاحة كل تحكم للوعي عن طريق مايختزنه لاوعي الفنان من صور ورؤى وأفكار .

 

بوردفايك على النقيض من ذلك إتبع الأسلوب الفني الإبداعي  من خلال القصص التي كتبها ، عرفها كدلائل  وتصورات راسخة مقصودة من الترجيح بعيد الإحتمال،  قصص كتبها بوعي تام،

أكبر مثال لبورديفايك الكاتب فرانز كافكا  ، من خلال روايته "نثريات"  قدم كافكا  في تلك الرواية تبعا له أسلوب كتابي لم يسبق له مثيل خصوصا السوريالية  في الفن النثري، مستخدما براعته  بوصف الأسلوب التشاؤمي وجمعه  بمحتوى غامض، بالتالي يجعله يتميز بدسيسة ونهاية مفتوحة، أما الشؤم والبراعة فيشكلان السمة الثانية  بالنسبة لسوريالية بورديفايك.

 

تناقض ظاهري بمافيه الكفاية، أو مانطلق عليها : السوريالية الفاحصة" هذا لايعني عمدا وجود

عناصر واعية  بمقدورها أن تلعب دورا  بنشأة النص ،  كناقد أدبي ركز بورديفايك خصوصا  على عنصر البراعة، لأنها  تعتبر ركيزة لتقييم العمل الأدبي . إن تكرار الواقعية و الروعة  يعتبر خيارا قويا للمعالجات النفسية في قصصه، بالنسبةإليه يجب أن تحاكى عبر عالم القصة نفسه، نستطيع القول بأن  عناصر الواقعية القصصية مثل المواقع، التشخصيات، الأشياء تصوير العالم الداخلي المعاش للبطل الرئيسي للقصة، يجب أن تقرأ مجازيا.

 

 

رواية الكتل

 

كان لبوردفايك مقهوم خاص حول موضوع رواية "الكتل" التي

كتبها عام  (1931) يعود للقرن التاسع عشر ، تخيل الرواية أشبة بحقيبة أخبار أو رسائل حيث بمقدور الكاتب التعبير عن أي شئ في مكنونه ، هذا العنصر ظهر واضحا في جميع كتبه تقريبا أو مايسمى بالوظيفة التسجيلية ،  ويظل عنصر الإضمحلال مركزيا

يعني هنا الدولة التي تبدو بأكملها مثالية ثم تنهار تدريجيا  ، نستطرد هنا الجملة الإفتتاحية لفصل من فصول الرواية بعنوان"الإعدام :ميكانيزم الدولة يبدو مثاليا ، لكنها تبدو هشة فعلا ، حيث تبدو للعيان كراهية الراوي لشيء يوصف بالمثالية لكنه بعيد عنها كل البعد، الدولة النموذج تمنح فرصا عادلة للجميع والكل سواسية  لكن هنا يتلاشى الشعور بالإستقلالية . رواية الكتل تعبير عن اليوتوبيا المضادة حيث الشمولية  كنموذج للدولة يتم نبذها بالكامل . ويتصور الراوي دولة ذات سلطة ليس لها حدود ونموذج غير مرغوب فيه من الإدارة والهيمنة التي تلغي حرية الأفراد. إن الدولة النموذج ليس لها وجود  ونكتشف ذلك بوضوح في إحدى عبارات الراوي وهي فشل الدولة السعيدة ، حسب رأيه لم يحاول الكاتب في تلك الرواية الفكاك من روسيا الشيوعية  وفق العبارة التالية من فصل البهجة: سقوط شهاب غير محترق بسبعة أطنان ، مقارنة مباشرة  مع حادث الشهاب المحترق الذي سقط في سيبيريا في 30 يونيو من عام 1908 ، نشير لمقطع  آخر من الرواية: بلاغ: يبدو بأن السطح الخارجي غير ناضج بعد، أغلقت الدولة حدودها وإنغلقت  متغطرسة  على نفسها من الداخل ، هذا يشير لسياسة ستالين ، عندما  إستوعب حدوث إنقلاب شيوعي في العالم لم يعد قاصرا فقط على الإتحاد السوفيتي.

 

بدا بورديفايك محذرا من وقوع إنقلاب شيوعي مماثل في أوربا أيضا،  لكنه كان ينتقد الدولة التي تتلاشى فيها فردية وإستقلالية رعاياها ، مثل تلك الأفكار يتم رفضها ولاتحصد الدولة سوى اللعنات في النهاية . إلى جانب عنصر الإضمحلال أيضا التأديب ، عندما تبنت الدولة نظاما  صارما لايتسم بالمرونة  ، الدوائر ممنوعة، كل شيء مستقيم .

فقرة من الرواية:  كانت الدولة كبيرة ومتوازنة، الشوارع مستقيمة بالوسط  تبدو أكثر إتساعا من الزاوية الخارجية  . ليس فط المدينة يجب أن تتسم بالمثالية  والإستقامة  لكن الناس كذلك، ويجب أن يتم توظيفهم بإستقامة مثل بقية العناصر الأخرى في المدينة ولامكان للشخص المستقل بذاته. قررت المجموعة "آه"

المقاومة،   وسعت للمصالحة  مع الحكومة  . هنا ترمز تلك المجموعة للحرية وهي باعث هام في رواية الكتل، يعني هنا الحرية المطلقة  وعلى الرغم من  أن المجموعة آه يتم تصفيتها،  تبقى رغبة الشعب  بالحرية  قائمة ، ها يصور بوردفياك  البشر مثل مخلوقات عنيدة متمسكة برأيها تنبذ الإنزواء في زاوية معينة، والسعي للكمال ليس وجود لأنه مفقود بين صفوف البشر ولا أحد كامل .

 

مقطع من الرواية: قلب المدينة كان صغيرا، لكنه مترابط ببعضه مثل جمجمة متناسقة لحيوان زاحف، كانت صورة مصغرة لدولة الرأسمالية، لاوجود لقناة مع منازل أرستقراطية، كانت هناك مواقع لثكنات عسكرية، منازل ذات غرفة واحدة ، حارات وأزقة ضيقة في المدينة وعشش وكنيسة واحدة.

 

إستخدم بوديفايك هنا في آن واحد مقارنات وجمل قصيرة،  هنا يشعر القارئ عبر ذلك الوصف البارد للمدينة بالإشمئزاز منها ويعود به الحنين  للسكينة والهدوء.  وتم التركيز  على الموقف  الدولة الشمولية أكثر من التركيز على جانب القصة،  يتم شرح الماضي والمستقبل وهما مفهومان مهمان  لوصف الموقف الآني.

 

 

منشورات الكاتب:

 

عش الغراب ، أشعار تحت إسم مستعار توم فين ، 1916

 قصص رائعة ، ثلاثة مجموعات قصصية ، 1919و1923و1924

الكتل، رواية قصيرة 1931

الوحوش الساخطة ، رواية قصيرة 1933

بينت ، رواية مرسل ، رواية قصيرة 1934

 الشرف الأخير  عام كتابات 1935

 القصر الأحمر ، نهاية قرن رواية 1936

شراب اللبلاب ، قصص قصيرة 1937

الشخصية ، رواية إبن وأب 1938

القيثارة القمحية ، قصص 1940

ثلاثة مسرحيات 1941

أبولويون رواية 1941     

 فيفي فيسفيوس رواية 1946

بلوطات دوجونا، رواية 1946

قرب الضوء الغازي ، رواية 1948

إيبرسخيلت، مجموعة قصص 1949

القيثارة القمحية ..سلسلة جديدة ، قصص 1951

جرن المعمودية ، رواية 1952

السيد والسيدة ريبوس، عشرين قصة قصيرة 1954

تأملات 1954

الطريق إلى بيكونس ، إثنى عشر قصة قصيرة 1955

غصن أزهار الربيع ، رواية 1955

محطة مدينة الشمال مسرحية 1956

 عشرة أعمال مسرحية ساخرة ، 1957

الحقيبة الدبلوماسية، عشرة قصص قصيرة 1958

الغجر ، عشرة قصة قصيرة ومسودات 1959

مركز السكينة ، قصص 1960

عيش الغراب ، نصائح مقفاة ، أشعار  بإسم مستعار تون فين 1961

خبر بعيد ، روياية 1961

جولات عبر دنهاخ وضواحيها ، قصص بإسم مستعار تون فين ، .1964

يشم ، يشب و    الحكمة والجمال  في حياة يارون قطر الندى المتألق ، مجموعة أشعار بإسم مستعار تون فين 1964

الربيع، سبعة قصص 1964

خولبيرتونس، رواية 1965

ميناء دريفر وكاتادروفي، دراسة مبدئية لرواية الشخصية 1981

سبعة قصص رائعة، قصصة حولت لمسلسل على حلقات 1982

خمسة قصص قصيرة، قصص على حلقات 1983  

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الليل

 

توجهت الطائرة في طريقها، أشبه بسهم مستقيم غير منحني،

وإشارة ضوئية حمراء في المقدمة تبدو بارزة عبر  سلسلة المنشورات الضوئية المثبتة في لوحة الأجهزة البصرية الكريستالية. إنطلقت ليلا  مثل سهم بنقطة متوهجة . الهدف كان المدينة ، طارت منخفضة فوق المناطق الزراعية.

 

لم تكن الأرض مضاءة.  كان هناك فيض من الضوء  في السماء . هناك حيث  البشر بدون سلطة  مطلقة ، عاشت الأرض في ظل رومانسية طبيعية ومتوهجة بإنتصارها  . كانت السحب العاصفة

تبدو  رائعة مثل بوراج حربية إنطلقت في الليل ،  تجر بشدة . الأشرعة تمزقت الأرض تستلقي مبقعة بالأبيض و الأسود ، الأسود و الأبيض الشاحب.  إنطلقت الطائرة عبر الظل والضوء. فجأة إنشق القمر  متلألئا، مطلقا تدفقات ضوئية  إنتهت في شلالات المياه .

كانت تمتلأ بها هاوية الليل . أخذت الطائرة بضوئها العنيف الرادع  تتفحص المدينة .

 

القرى، الأطلال  كأنها محيت من الوجود. كان لايوجد مكان للقرى في الإقليم .   مجرد نقاط مركزية كبيرة . حلقت الطائرة فوق الأرض الزراعية، فيما بعد المراعي، لاحقا فوق الغابات .

كان الضوء مختفيا عن الأرض، بزغ القمر بشدة، حبات من برد الشتاء تخشخش بموازاة الحافات المعدنية، إرتفعت محلقة فوق التلال المستترة في طريقها إلى العاصمة .  حتى الليل كان مكتملا، فيما بعد في الأفق ، لمع الضوء. يبدو بأن طائرة تحلق وهي متوارية عن الأنظار .

 

في الكابينه المظلمة نهض المسافرين من الفراش.  في الليل تساقطت حبات الثلج لكنها ظل معتمة لاترى ، أصبحت مشبعة من العيون المحمرة ، للأسفل والأعلى. في مكان ما بزاوية من السماء ، تبدو مرتفعة جدا،  كانت تبدو مثل تابلوه من نجوم وفيرة، يمكن رؤيتها عبر الزجاج الأحمر، تزحلقت النجوم رويدا رويدا ببعضها متشابكة .

 

لاح خط متوقد تحول إلى سفينة جوية حيث تلمع جميع النوافذ الزجاجية. من الناحية الأخرى إستقر ضوء حليبي منتشر متدليا ثم  إنشق فاتحا مثل جبل ثلجي أشبه بوميض شمسي، لاح خارج الضباب، الماموث، وهو نجم جديد متوهج في السماء ، سفينة جوية عملاقة قادمة من مدينة تقع أعلى الأرض. إنشق القمر خلال ذلك مجددا، لكنه كان يبدو مهلهلا أمام ذلك العالم  الجديد الكبير اللامع، كل هؤلاء الرجال شدوا للأسفل، ربطوا، قيدوا،  خاضعين لمصلحة كبرى تعلو فوق مصلحة البشر . إسم الماموث كان صغيرا، المجلس سوف يعيد تعميده برقم 4. هذا الرقم  لايشير لقياسات محددة.

 

توجهت الطائرة مائلة أسفل كوكب الماموث الذي ترك بموازاة مسحة وهج في الأفق بعد تجاوزها للكوكب أصبح الليل فجأة مكتملا من عيون محمرة، للأمام بانت مساحة ضوء أخرى تبدو مستقيمة ،  حيث يوجد حقل الطيران الخاص بالمدينة.

 

الآن كان القاع متوقدا بالكامل بصفوف متسقة من أضواء عميقة، مجسم مستقيم. أصبح المطار  واضحا للعيان مثل علامة مستقيمة،  منخفضا جدا، حيث النجيل  الأخضر المربع الأملس ، يلمع عبر الضوء المتدفق.

 

أعمدة الإنارة الستة عشر  تطلق ضوءا أحمر  غير عالي من القمة. لكنها كانت أضواء البحث الستة عشر عند حواف الأبراج الإسمنتية ، أعمدة مصابيح الإضاءة لستة عشر شمعة مربعة مستقيمة  تبدو كأنها  تلمع بشدة في الليل . حول الأعمدة تحلق طيور هوائية بمناقير حمراء للداخل والخارج.

 

طائرة الهيليكوبتر  تبحث عن وجهتها ، إنخفضت بخط قائم ، تهادت هنيهة على العشب، هبطت وأجنحتها مطوية مع بعضها في هجيع الليل . إرتفع المسافرين للخارج، وشارات الإتصال بصدورهم ، يبحثون بشعلات الكابينات . في نهاية المطاف ظهر الماموث بتاج كان يستخدمه ملوك الشرق في الماضي البعيد .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

النهار

 

أسفل راية السماء الخافقة إستيقظت  العاصمة في يوم الإنفراج ، الذي يصادف الخامس من كل شهر . في المسكن المريع كان اللهو والنشاط على أوجه .  لكن

 في مساكن العمال المربعة يبدو الوضع  مختلفا.  كانت المدينة عريضة ومتوازنة، الشوارع مستقيمة ، الوسط أوسع من الزاوية الخارجية. الإسفلت كان ملقى على الأرض بمختلف الألوان، الأبيض ، البني، الرصاصي، الأسود بفتحات ذات لون واحد مرصوصة إلى جانب بعضها أو بحافة إغريقية لكنها ليست جذابة .  كان لابد من كسر حدة الرتابة والملل لكن على الرغم من ذلك لم يفلح أحد في إنتزاع  الإنتباه

من المباني، التي كانت جدرانها مطلية بألوان متشابهة، في المسكن المربع توجد مابين أربع إلى خمسة نوافذ مرتفعة، أما مساكن العمال فكانت منخفضة. الشوارع  لم تكن طويلة أبدا، أما طرفها فلم يتغير وتم تغطيته من جهة كتل البناء . في حالة اللعب بين الفراغ و إتخاذ القرار كسبت الأخيرة .في كل الجوانب  تنتصب المدينة مستيقظة بسبب المشاة.  لم تصل للنهاية بعد ، كان يظهر أحدهم  بغتة دوما  عند الزاوية . لم يتم تشييد المزيد من المباني  ،كان سكان الولاية  بدون حركة توقف النزوح إلى المدن الأخرى، في الوقت الحالي يسمح بالإقامة فقط بالمدن، أما التبادل بين المدن كان نادرا. الآن

يتم تحريكهم  بنفس النهج . عاش سكان المدن  كشيء تذكاري من الماضي.  وهكذا كان للبعض حق العيش في العاصمة  بينما الآخرين لم يكن لهم شيئا. لكن  على الرغم من تلك الروعة الضئيلة وجد كل واحد منهم  ضالته في  مدينته الخاصة و  مايشتهيه من ملذات الحياة.  البلاد مطوقة بإتجاه المدن، في بعض المناطق القائمة كان لدى البشر مدن إضافية إسمنتية  يسكنها الناس في الصيف فقط .

في المدينة كانت الأحياء السكنية ومواقع العمل مناسبة جدا  بنيت إلى جانب بعضها ، لم يمشي أحد بعيدا عنها،  السيارة وهي وسيلة النقل الوحيدة إنقرضت هي الأخرى، خطوط السكك الحديدية كانت موجودة مسبقا ، لاتزال آلة الحرب تميز السيارة. في القدم  إستعادت حقوقها الأزلية ،وظل المشي أفضل وسيلة  للإسترخاء .

 

في يوم العطلة  تغادر مجموعة من الأسر مناطق سكناها ، تسير في كل الإتجاهات في المدينة التي كانت في تلك اللحظة تعج بالمسيرات ،الأعلام وموسيقى هادئة لم تكن أبدا صاخبة، كما أن الشخص الوحيد غير المألوف يلمح  على الفور نظرات الشك والإرتياب مجتمعة مثل لمعان الشمس في نقطة الإحتراق وكان مهددا بالخطر

في أية لحظة. أما الأطفال فلم يتركوا أبدا بدون رقابة في داخل المزرعة الخامدة، آثر الأهل لاحقا في ذلك اليوم مرافقتهم في جولات قصيرة حول كتل المنازل.

 

الحركة الدؤوبة في المدينة تصور مدى أهمية أيام العمل الأربعة في كتل المباني الأثرية الضيقة ،لكن بهجة يوم العطلة تتمثل في الورود التي تزين النوافذ، أيضا هناك حدائق النجيل في داخل المزرعة، الأراضي المسورة والنافورات. عطايا الدولة كثيرة بدءا من العشق حتى الطبيعة لأنها تضفي البهجة والهدوء، أيضا 

منحت الدولة أزياء تقليدية محددة، الموضة منعت، حتى يوم الخامس عشر من نوفمبر يرتدي الناس فقط الأبيض والأحمر ومن الخامس عشر الأسود مع الأحمر ، أما في يوليو وأغسطس  فيتم تدشينهما  بأسماء جديدة. هذا كان يوم العطلة الأخير  قبل إرتداء الأسود في يوم الثالث عشر من نوفمبر ، كانت الملابس  رياضية، فاتحة،  الشعب أصبح مستعدا بصلابة للبرد القارس.

 

يمشون في جماعات بذراع صغيرة واحدة ، رغم صلابة المباني السكنية كانت

حركة الناس تتسم بالمرح و البهجة وفيرة، لم يتم صرف إنتباه تلك الأعداد الوفيرة

من الناس، كانت حركة متينة ذو تأثير قوي لاتقاوم، وفرحة شديدة ، هيمنت المسيرات على المدينة تماما .

 

في المستعمرات المغلقة كانت عجلة الحياة  تسيرقدما، أغلبها من الفتيات والنساء. بأذرع صغيرة شكلوا مربعات وزوايا مستقيمة لاغبار عليها.  التنورات البيضاء القصيرة بخط أحمر وحيد تحلق فوق الركب، البنطلونات القصيرة البيضاء بزوج أشرطة حمراء مزركشة  من الركبة إلى الحوض . الأقدام حشرت في صنادل، أما القدم السفلى من الركبة للكعب فلم تغطى .

  

عبر تلك المسيرات كانت تسمع تنهيدة رقيقة. ملامح الوجوه تنم عن القوة والسعادة. عبرت بسرعة مارة بأنغام أحادية. ماعدا ملاحظ سريع بشدة تحسس الموقف بمعزل عن بقية الآخرين، رأى بأنه في تلك المجموعات الضخمة جدا، هناك  العديد من القرصات المثيرة للدهشة  لكنها نظيفة .الفتور المادي ، الحياة تسير فقط بوتيرة واحدة، جعلت الشعب يعيش في يسر وإزدهار.  نتيجة للعناية بالفم اللشاملة ، كان لديهم أسنان رائعة، مزروعة  ، يضحكون ويعضون. اللمحة زاهية، مستقرئة، تقريبا قوية.  أما محتوى طاسة الجمجمة كان متناميا، متفوقا وخاليا من الشوائب. 

الرجال يتميزون بطاسة جمجمة طويلة من عرق بشري ناقص.  عظمة الجبهة والفك العلوي من ناحية الخد  تم تثبيتها بإحكام، عبارة عن أحجية  للمعهد الديموغرافي الذي أعلن أيضا عن تنقية مستقبلية تشمل ملامح الوجوه.

 

حتى 15 نوفمبر يجب أن يرفع الغطاء عن الرأس ويتوقف تساقط الشعر،  وينمو شعرجديد ، أغلبهم مترفين، ببدلة مقصوصة بعناية تامة.

 

كانت هناك جماعات من عدة رجال شباب، كانوا الأنظف، يتهادون ، يتمايلون مثل  مدخل ثلجي مثقوب في مياه متحركة.  تنم لمحاتهم عن هامشية خواطرهم، لم يتغيروا أبدا ، أجسادهم مرنة وساكنة وملائمة لهم.  يؤمنون بمبادئ الجماعة التي يعيشون بينها وفقا لنظام خاص يحددونه، أشبه بإعصار أحمر من الأعلام فوق رؤوسهم.

 

يجب أن يواصلوا الغناء خارج البناء.  إنطلقت الحناجر بترنيمات ، الموسيقى تعود  للعصر الجريجوري (نسبة إلى البابا جورجيوس)، لكنها قوية  كي تزيل الحزن  واسعة  كي تكون متمردة.  يوجد بعض الفاسدين الوطنيين  في الحكومة، في المجموعة هناك، العمل، الرياضة، الغناء،  إحتفل الشباب مجددا بالنصر، أناشيدهم الجماعية تعزف التحية السكرية عبر الهواء.

 

كان النهار شديد البرودة ونقيا ، رياح القطب الشمالي،  تتخلل عبر الرئة، السماء تبدو زرقاء فاتحة، الشمس منخفضة، قبة السماء كانت مبقعة بطيور العقاب وهو من الطيور الجارحة، حيث إنغرز فوق نقطة صخرية، في الوادي يوجد عش النسور . كانت  مزرعة الطيور مخصصة للعناية بالحكومة المبجلة،  في الليل يتم نقل الجيف  إلى شباك مسورة كغنائم، تشكل منازل كاملة من عظام ساق نحر منها اللحم بحرص .

 

حول المدينة المربعة يوجد سهل من غابة ومرعى وسهل ضغير، أما حزام

 الإسترخاء فقد إستحوذ على جميع السكان بسهولة ويسر.  بعض الجماعات ظلت تسير بخطوات منتظمة أشبه بعرض عسكري، على مدى ساعات طويلة، بينما

يتدرب الآخرين  في المراعي على رياضات مختلفة. أما العداء الرياضي  فقد عاد مجددا عاريا ، أما المباني الرياضية الإسمنتية ليست قصرا على أحد ، بمقدور الرجال والنساء ممارسة الإلعاب جماعيا . الحكومة  لاتعترف بالأجناس ، المرأة مثالية ومتساوية مع الرجل وتكيفت للعيش وفقا لتلك الصيغة. الإختلاف بالملبس، كان الشيء الوحيد المتبقى الذي لم تلاحظه الدولة بكل ممنونية. ولكن عند حرية الصداقة  تعترف الدولة بالطهارة كدليل على عفة الشعب ، المهم تغطية ماتحت الجسم

 

 توضح النهار أكثر وأكثر  مع  الحشود المنشغلة بالإستعراض،  تتقاطع مع جماعات الشرطة، كانت جميع  الطرق  تحت السيطرة، لكنها مفتوحة. أخذ النهار ينكمش ,أصبح أقل هدوءا. لاأحد يشرب، الوجبات كانت لاتقدم أكثر من سبعة عشر ساعة . بعد مسيرة مشي على الأقدام دامت ثماني ساعات، عادت جماعات الناس 

مجددا بالأعلام والغناء وهي فخورة بنفسها.

 

هبطت الشمس،  السماء فتحت على مصراعيها،   الرياح الشمالية هبت فوق  التلال،  تقرص الملابس  ولم تتقدم أكثر من ذلك. كانوا يغنون ملأ أشداقهم

ويعاودون ترديد نفس الأغاني  والأناشيد الجماعية ،هبط الليل على النهار الغفير.

 

في المدينة خفت حدة الغناء لكنه ظل متناميا.  بمربعات وزوايا مستقيمة مشت الجموع بهدوء لاغبار عليها. كانت إنارة الشوارع كافية ولكنها ليست فياضة، من المنازل لاح ضوء وفير، يبدو بأنه لم يتم الإلتزام بقرار منع قتح ستائر النوافذ وتم إلغاؤه من قبل  مجلس الحكومة الجديد،  على مدى ثمانية أعوام عاشت كثير من الأسر أماسي الليل بكل شفافية. أضواء منازلهم  تنير الشارع. في بعض المنازل ، بالطابق الأرضي كانت الأغلفة الزجاجية لمصابيح الزيت  ذات إضاءة شديدة  وفي متناول الجميع، مقابل المشاعل الخلفية التي تتميز بإنارة خفيفة، يرقد الموتى. متفحمين  لمنع العفن ، ظلوا هناك ثلاثة أيام متتالية للعرض أمام حشود الناس التي تتدفق دائما، ثم تم دفنهم وهم أحياء، منتصبين بقبور رملية، طمروا كاملة بالرمل الرطب، محشورين حول الجثث.  إعتادت الدولة دفن موتاها وهم واقفين، كانت عقوبة مشددة  حيث يدان البشر ليتم دفنهم  وهم مستلقين في مدافن الكنسية،  كنيسة الغزي والعار، طريق بعيد جدا،  لم يزره أحد قط. سوى تغيير نموذجي يستطيع إلغاء تلك العقوبة.

 

 الآن السكان أحرار في البحث عن مساكن ، لكن العديد منهم  لايختارها.  يتوجهون إلى قاعة الشعب، وهي عبارة عن قاعة مربعة الزوايا تسع لمائتي شخص، إحدى القاعات بدون  دعائم،  حيث ثبت سطح رقيق بألمنيوم مشدود.  الأرضية  من الألواح الإسمنتية، صفراء وبنية ، الجدران، والسطوح بيضاء. لاح ضوء أشبه بضوء النهار، من جميع الإتجاهات. كان الجو  شديد البرودة،  ولاتوجد أماكن للراحة، الكل ظل واقفا.  شيئ  وفير  من النهاية البعيدة،  آلة الأورغل تنتصب كمدينة في تلك القاعة،  ولكن مدينة بدون ماضي، مدينة نظامية  بأسطح، تواصل العزف على الأورغل ساعتين، منذ البداية  حدث تغير بالضوء،  أصبح بنفسجيا، أحمر،  من أصفر بهي،  يتبدل بدون إنقطاع  مع نغمات الموسيقى.

 

لاتوجد أوركسترا، وأيضا معدات موسيقية قليلة. الآلة الوطنية المستخدمة كانت الأورغل وهي آلة نفخ موسيقية في الكنيسة أصلا  ويختلف أورج الكنيسة عن الأورج المتداول بين الموسيقين حاليا. كل مدينة كان لديها أورغل في قاعة الشعب، أما العاصمة فكان لديها الأورغل الكبير،  ذلك البناء كان موجها ليس للتسلية وعزف الموسيقى،  لكنه يدار من قبل جيش من موظفي الحكومة، محاطا بصف من الموتورات،  مهيمنا بحيث ليس بمقدور العازفين اللعب على العزف  بصوت خافت، متوافقا مع البيانو كان الصوت يزمجر دائما، أشبه برشاش في ثقب كهربائي، في الأفق. لكن السائد كان المؤثرات،  فقط عندما تفتح الأسطح  فوق  مدينة الأورغل، يكون الصوت حادا وعميقا يخترق الأذن،ويعربد برعشة الهواء.

 

إقترح الناس القيام بإستعراض  في  الحفلة الصغيرة، تسمع في النهاية وقفوا غير بلا حراك. أما الشباب أرادوا  عند الإنفلاقات الصوتية الحادة،  أن لايطرف لهم رمش ،  لمحت وحدة متكاملة تسمع،  لكن من كان ذو لمحة ناقدة، سوف يلمح من بين  الحشد المرتدي لملابس موحدة، مع ذلك سيترك من قبلهم يسقط.  تظل الطبيعة، أقوى من الحكومة، إخترقت الألعاب ذات الصوت الأحادي التواجد البشري وهي متقلبة. الطلاء الكثيف للدولة لن يستطيع  أن يصم الألوان الأصلية.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الندوة

 

 ظلت آلة الدولة قائمة على وضعها الحالي على مدى خمسة وأربعين عاما، في تلك الحقبة الزمنية كان أحد الجوانب محكما ، بينما ظل الجانب الآخر مرخيا وهذه ببساطة كل القصة. كانت الدولة تتوهم بأنها وصلت للنظام المثالي على الأرض،  وأسست للأبدية الأرضية. تستطيع  البقاء ملايين الأعوام ، البشرية أصابت قشرة الأرض فقط بالتلف،  وبلغت النواة، حتى لو شوهد البشر دوما بدرجات متفاوتة لاحصر لها . إكتشفت الدولة كافة أنواع المواد الطبيعية اللازمة للعيش. كان لاوجود للتجارة مع الدول الخارجية،  ولا مواصلات دبلوماسية،  فقط  المقايضة بالأفلام،  ولاوجود للنقد،  الإنتاج والتوزيع يتم وفق نظام حكومي وبواسطتها.  ولاوجود للقيمة المادية ، لأن القيمة كانت حينذاك شخصية وليست مادية . الدولة لم تتحمل أي نقد موجه لها،  لأن النقد يؤدي للإنقسام والتجزئة.

 

أراد المجلس في تلك الأمسية،  تشكيل مجموعة تتألف من عشرة أشخاص، خمسة رجال وخمس نساء، أن تدير أعباء الدولة، يسمع صوت واحد فقط من الماضي  وبهذا ترفه عن نفسها، في قاعة مجلس الإدارة سوف يقيم المجلس ندوة يحضرها كبار عمداء المجالس الأخرى للدولة، حوالي مائة  شخص تقريبا،  في تلك المرة سوف يسمع الرجال فكرة رئيسية من الشخصية الهامة في المجلس.

 

وقف متحدث بارز لم يخطو أبدا ، كان يتحدث بإستمرار عن الرئيس ،  وسوف يتحدث عنه الآن  مجددا،  وسوف يلقى بعذلك في السجن لمدة ثلاثين عاما،  حيث كان في الحقيقة شخصا جيدا،  الآراء المناوئة ضد الحكومة ليس بمقدورها المساس  بالمستمعين الموحدين . كان النقد ومثيلاته متعتهم الوحيدة.

 

وقف أحدهم على المنصة ، كان شخصا مألوفا لديهم،  كأن كلمته تعبر عن صوت

قادم  من الماضي البعيد، سمعوه أثناء ذلك، كان شخصا قصيرا ذابلا،منكمشا، وتكمن

قوته  في رأسه الطويل ، ذو الشعر الأبيض الثلجي ، كما أنه قصير النظر،  كان صوته ضعيفا لكنه غير واضحا.

 

من أنتم !!!  هكذا قال، بنيت مدينتكم إلى دزينات من الكتل ، أراضيكم المحددة والمسورة  تربض كمربعات، شوارعكم مثل الخطوط‍  أنتم مولهين  بالعشق المثلي  لأرواحكم،  ، بالخطوط الصلبة، القامات والهيئات . أنتم تحاولون إبراز فكرة  الكتلة بكافة خروقاتها، لكنكم عمليا أجسام مكعبة، أنتم سوف تكونون الموتى الجرحى العشرة على الزوايا الحادة  من دولتكم الحية.

 

سوف أتحسس جمجمتي المدورة كي أشعر بما يوجد داخل ذلك البحث المحكم بالدائرة، المستديرة والكروية. أوه،  يالروعة الخط بدون نهاية، سطح مستوي  بدون زوايا، جسم بدون أسطح.

 

كانت الكتلة بالنسبة لكم كل شيء  وكنتم بالتأكيد لاتستطيعون العودة للطبيعة، بعيون متفقدة يتلقى أولادكم  دروسا هامشية في قاعات دراسية مربعة ، حول مبادئكم الأساسية أنتم أنفسكم ، رجال تلاطفون بدندنة  نساءكم المستديرات الصدور، كيف ستكون  بسالتكم عندما تداعب أيديكم  وهي تهبط على المكعبات؟ لقد نسيتم  بأن الأرض مستديرة، وتدور حول الشمس، ألوان أحادية  تشق في قوس قزح  مثل قطرات مستديرة ساقطة.. أنتم  لا تحتفظون بالمياه الوفيرة ... لكن الحوائل الثلجية الفاقدة الباردة ، إن ذكائك المحدود القابل للإنفجار مثل ثلج غاضب على الموجات من عللك الجسدية.  بالتأكيد الماء يشطف للأسفل، عندما توجد أحيانا فتحة رقيقة بالجليد .  هل تعرف بأنه يوجد في ممرك الثلجي شيئ كبير، لكنه في نهاية المطاف  سيدك أسطح دولتك  إلى أجزاء ، أنتم  تتجهون للأسفل أكثر من اللازم نحو القطب المتجمد المتلامس.

 ماترويدون تحقيقه لايوجد بأرض البشر،  بأسلوب أو آخر لن تثقوا  أيضا بالمبدأ الأساس. مثل الماموث، المستودون وهو حيوان بائد يشبه الفيل لكنه أكثر ضخامة، المينوتاروس، و سفنكم الهوائية التي تسمى( إم) ، لقد علمت  بأنه سيعاد تعميدكم بالأرقام، سوف تصابون بالجنون، لاتوجد دزينات مليئة بالغاز،  لكن بالونات، إطارات النقل الخاصة بمدنكم  تسير مائلة،

مقذوفا أثناء اللعب ،  لايزال نفس القرص المستخدم في ألعاب القوى. لقد إكشتفت بأن مدافعكم الميدانية المكعبة  سوف تطلق أصواتا، إتجه صوتي  نحو نافذة  أذنيك المستديرة والبيضاوية؟  

 

تبدو السماء مثل قبة بناء أعلاكم ، الكون الذي يحيط بكم كروي الشكل،  يسعى النظام العالمي  إلى الكروية،  أرى مدينة المستقبل مثل مدينة القبب، مدينة شيدت  حول جبل كروي،  في حين تريدون أنتم الخدمة،  ، إخدم الكرة،  إنحني بالقرب أمام ذلك السر المهيب،  لمحتواها، أنتم متحمسين جدا  تسعون للعظمة،  ممارستكم العملية عبارة عن كاريكاتور لايتزحزح من مكانه متمسك برأيه،  من قاعدتكم الأساس،  أنتم تتعثرون بفكرين، بقياسين ، أنتم ثنائي الحساب.

 

  سمع المجتمعين أثناء ذلك أحد المسنين يقف  بدون حركة ، ضحكة أو سخرية، إن حالة الجسم المستقيمة  للبشر كانت دلائل على النمو، مجتمعين لم يجلسوا أبدا في وضع وقوف، عندما تكلم العجوز كانت هناك وشوشة،  قال الرجال  بأنه في واقع الحال قد خرف ، وكرر ذلك بشدة .

 عاد العجوز أدراجه بحراسة مشددة إلى السجن  حيث مكانه الطبيعي .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

قلب المدينة

 

كانت الدولة ترفض الإعتراف بوجود القيم الفردية ، أو بالمقام الأول قيمة الإنسان  أيضا تتمثل أهمية الفرد بالنسبة للحكومة فقط في أنه يشكل تهديدا مستمرا لها. إذن تعتبر الحكومة البشر بمثابة أعداء.

 

لذلك إنشغلت  بتطوير نظام يتعلق بالبشر،  يجرده من هويته الشخصية الأخيرة، الإسم والكنية،  وإستبدالها  بثلاثة أحرف ورقم.  ويتحول بناء على ذلك إلى حجر مرقم، في كتلة مشتركة. يتوقع البشر حدوث مقاومة، خصوصا لدى الأمهات، على الرغم من ذلك ليس بمقدور البشر التسليم بمبدأ منع الملكية.  كل مايحتاجه البشر  كان للجميع بالتساوي، الإسكان، الإضاءة، التدفئة، الملبس، الغذاء، التوجيه.  جميع البالغين من رجال ونساء، كانوا في خدمة الدولة. بالنسبة لتوزيع الوظائف ،

فلا توجد خيارات شخصية،  أيضا حق الإختيار غائب، التقسيم  يتم في مكاتب العمل، مع مراعاة بأن زمن التعلم يبقى نزعة فطرية، كل البالغين كانوا موظفين حكوميين. عبر المادة البشرية الوفيرة كانت جميع الوظائف الرسمية تظل مشغولة دائما.

 

كانت لاتوجد ملكية، في المنازل السكنية، المصانع،  مواقع التعليم والعمل، في كل مكان، كان النهار والليل يتعاقبان. لاتوجد أبواب، أيضا لا توجد أقفال،  عند محاولة إدخال قفل يعاقب الفرد عقوبة مشددة. ماعدا ضوء أزرق خفيف فوق أحد الأبواب  يعطي إنطباعا  بأن الناس لايفضلون الإزعاج والتشويش. القوة التي تفرض بإحترام

ومراعاة القوانين ليست هي  القوة التي تحددها القوانين،  لذلك عاش الناس بهدوء  تام.  في الليل تشتعل جميع الغرف بأضواء صغيرة  خافتة.

كل ماينتج تعود ملكيته للدولة، سواء عمل جسدي، أو منتج روحي، حتى الأطفال  بالنسبة لبعض وجهات النظر  يجب أن تقدم الدولة بعض التنازلات، في السنوات الأخيرة ، سمح  مجددا  بإستخدام ستائر نوافذ  من التل وهو نوع من الحرير الخفيف، لكن ليس المقصود بذلك تقنين الملكية الشخصية، لكن إعتراف لرغبات كثيرة

تتمثل في  مساعدة  البشر على تنقية الضوء الخارجي للمسكن. بالنسبة

للإسم والكنية  لن تكون هناك تنازلات، ذلك المفهوم الملكي المتجذر سوف يتنامى ، للأسف في صفوف الأمهات الشابات،  اللاتي يردن منح أطفالهن إسما.

 

أما النتاجات غير الذاتية ، فيتم تطبيقها بالنسبة لآراء البشر التي تتسم بصبغة شخصية، أيضا الإكتشافات، الإبتكارات والنتاجات الفنية. في السنوات الخمسة الأخيرة تم إكتشاف ثلاثة فيتامينات جديدة، حيث يساعد أحدها على منع إنتشار السرطان، ويجهل الناس  هوية المكتشف. لكن السراب الكاذب تم إكتشافه من قبل شخص مجهول  الهوية.  قاعة الشعب، وهو بناء مثير للإهتمام بنيت بواسطة رجل  مجهول، القطع الفنية، أعمال النحت ، النثر، المقطوعات الشعرية لم يتم توقيعها ، وكانت الدولة فخورة بذلك الإزدهار الفني والعلمي.

كان ذلك  الجزء من الدولة حيا من أحياء المدينة ومثالا سيئا ، أطلق عليه السكان" قلب المدينة"  ويقع تقريبا في المركز، كان الأثر الوحيد الباقي من المدينة القديمة، تم  تنظيف الأحياء المجاورة جذريا وإستبدالها بمباني على هيئة

كتل ، ربما  عبر الإضافات التدريجية  نتيجة للعمل والمساكن المربعة على الرغم من حركة النمو أصبحت مهمة تنظيف المدينة غيرضرورية. بدلا من ذلك لم يفهم أحد على الرغم من الأمان والضمانات  بقاء تسميتها بالأرض ، المواصلات كانت مناسبة جدا،، تنتقل هنا وهناك بدون أي تأخير، المجلس ،

أفاد وجودها كمثال منذر بالخطر .  أما قلب المدينة فكان صغيرا، لكنه معقودا ومتلاصقا ببعضه جدا  أشبه بخلايا  دماغ  حيوان ثدي منظم فائق الجودة، كان قلب الدينة عبارة عن صورة مصغرة  عن الدولة الرأسمالية. توجد ترعة صغيرة وسط المدينة، حولها مساكن تعود للأستقراطيين.

كانت منازل ثكنات تتألف من غرفة واحدة ، أيضا توجد حارات ، أزقة وعشش لكن كنيسة واحدة.  المتحف التاريخي  كان مقسم إلى ثلاثة منازل أرستقراطية، تتم حراسته من قبل موظفين معاقبين. في الماضي كانت الدولة تتبادل التجارة مع  الدول الخارجية ، تدريحيا إمتلكت كنوزا فنية من خارج البلاد مع محافظتها على قطع نموذجية فقط . على سبيل المثال كان يوحد قبر مصري موضح بكاتالوج

مع فراش يعود لميت مترف، مادونا فان رافائل،  لوحة بعنوان  "  سيدة سابقة"  ، وجبة قيمة ، تحصد بإزدراء ، تدعى خدمة البطن الرأسمالية، لاحقا قطعة فنية لمجموعة من السادة والسيدات وهم يمتطون الخيول بصحبة مجموعة من الطلاب،  أو ما يطلق عليه الرياضة الرأسمالية. توجد أيضا كتب تمجد إنتصارات الأبطال، عرضت  كنماج سيئة.، على سبيل المثال إلياس وأدوديسا المجهولي الهوية، كانت توجد مجوهرات وكنوز كنسية مع هوامش لمعرفة عديمة الجدوى. لكن  قلب المدينة بأكملة عبارة عن متحف هوائي مفتوح من التوبة والإستغفار. أصبحت غير معاشة، كانت جميع الممرات  في قلب المدينة مسورة، والظلال تلاشت في الشوارع  المعتمة من حولها . أيضا القيم الشخصية  التي تتوهج مع ضوء القمر مثل نجم فلكي صغير مجذوب،  ينطفأ على الفور في الظلمات. 

 

 رسميا كان قلب المدينة هو التحفة الوحيدة في العاصمة، جذاذة  ماضي  ملفتة للنظر ،  أيضا يبدو غير زاهي .  كأن شيئا  يجب أن يعرفه الناس كحلقة مكتملة من تربيتهم ، مثل إستنشاق ظاهرة حضارية بمنديل ورقي، ذلك الإستنشاق السابق للأوان أصبح مكتسبا، بدون أن يتخذ صبغة حضارية متكلفة، أصبحت الصفوف الدراسية التي تستخدم المناديل الورقية في قلب المدينة معروفة. و لكن نظير المنديل الورقي كان الجرثومة، يحتوي قلب المدينة على جراثيم  من حياة الظل  تعيش بمنأى عن  رابطة الجماعة المشتركة.

 

 

 

 

 

 

الأحادي

 

 لايوجد في المدينة كنيسة، أو عقيدة .  كانت الكنيسة التي تقع في قلب المدينة عبارة عن نصب تذكاري من القدم ، كانت الدولة تؤمن بعقيدة آه. أباد علم الفلك 

جميع الديانات الأخرى. العضو الإداري الوحيد الأعلى هو المجلس، يتألف من الفلكيين، كان الكون يقاس من جميع الزوايا، ويبدو بأنه لامكان لممارسة عقيدة معينة، أيضا الروح الأبدية.

 

لكن توجد أماكن للبشرية. بمنظومتها الحالية بلغت البشرية غالبا من الكمال بحيث يعجز أي إنسان عن إكتشاف مكنونها .  من بين تلك الخطوط المتنامية  في الطيف الشمسي، إنشغل الناس بأمر ما: بعد مرور ستة ملايين عام سوف تنفجر الشمس،  وتتآكل البقايا العديمة الجدوى على الأرض، البشرية  التي إستهلكت مسبقا الأرض،  سوف تفنى بالتأكيد، بالفعل نزح الناس عبر الفضاء العالمي ممارسين أعمالا حرة، تقريبا نصف المسافرين أجبر على العودة، أطول رحلة  إستغرقت أربعة أعوام وثمانية أشهر بالتمام والكمال، سوف يكتشف البشر كوكبا جديدا حيث بمقدور البشر أن يعيشوا في رحابها.   سوف يتناثرون في أرجاء الكون حتى يتلاشى النجم الأخير ستظل البشرية حاضرة، هؤلاء الذين لم يروا العالم  مضاءا ، سوف  يراهم العالم

أشبه بصم،  وذلك يعود لتلاشي قيمة البشر ولكن ينطبق الأمر على مجموعة أشياء متكاملة، الجميع  ليست قيمة حسابية من الأفراد لكن مخلوقات جديدة لها ذاتها الخاص،  بقواها الذاتية، وبسلطة لانهاية لها. أما فناء الفرد فيحسب للجميع ليس أكثر من تهاوي شعرة تستبدل بأخرى جديدة.

 

البشرية كانت أبدية في بإيمانها بعقيدة آه ، برغبة زائلة بالتأكيد .  كانت أروع ظاهرة يعرفها الكون، أما خصوبتها فكانت محدودة لكن عبر قوانين حياتية معينة تفقد قيمتها  بالتأكيد،  تلك المخلوقات الذاتية تحافظ على تماسكها عبر السلوك البشري، الرفيع  لأنها مكتفية بتحمل مسؤوليتها بذاتها .

 

توجد فرصة ضئيلة، ليس أكثر من واحد إلى مائة وعشرين،  في التصادم الأرضي عبر خمسمائة وأربعين ألف سنة، سيفنى جزء من البشرية بالفعل ،  سيبقى بالتأكيد جزء  كامل خاص  ، مهمتها الوحيدة روعتها وإمتيازها عبر البث في الطريق الحليبي، العناقيد الكروية، السحب الولبية.

 

إجتمع مجلس المدينة في تلك الأمسية الشتائية في قاعة المجلس الصغيرة، من عشرة أعضاء، خمسة رجال ، خمسة نساء، جلسوا حول طاولة  منخفضة مربعة. كان الضوء جليا والجو بالغ البرودة. ما عدا الأشخاص الذين غادروا مساكنهم يتمتعون بالدفء وهم يتجولون في أرجاء المدينة.

لم يتميز أعضاء المجلس بشعار ملابس خاصة عن بقية السكان،  أيضا خصائص الشخصية  لاتنطبق عليهم . نفسه المجلس لم يكن مجموعة خاصة، في السابق  شكل من ستة عشر عضوا،  ثم تراجع لعشرة كي لايشكل  مربعا، المجلس كان يمثل القانون، الواقعة، الحكم القضائي. ثلاثة وظائف للدولة تتمثل بسن القوانين، التنفيذ  والحكم القضائي، الوظائف القديمة التي تنطبق عليه أيضا،  ضمت في عضو واحد، هو المجلس. لكن ذلك العضولم ينشكل على هذا الأسلوب ، ظهر كمبدأ وسلوك، ممارسة وقرار. السلطة العليا في المجلس  كانت منيعة، حتى كل

 بإستطاعة كل وافد حضور الإجتماع لكن لم يأتي أحد.

 

المجلس كان المبدأ، الممارسة، القرار.  لاتوجد أغلبية، كان وحدة متكاملة. متماسكا  في داخله بإتساق  فولاذي.  كل أقلية تنشأ  في داخله يتم  تنفيذ الإعدام فيها. أيضا

تنبع محافظتها على شخصيتها من أحاديتها وإنفرادها.

 

من يريد أن يصرح  برأيه ، يجب أن يناقش الأمر أولا مع ثلاثة أعضاء من المجلس،  أيضا يعلن عن رأيه دائما من قبل أربعة أعضاء في نفس الوقت، إذا لم يتم الإتفاق ، يجب أن يردد القسم على الفور ، من يتردد بالقسم يتم إما نفيه أو إعدامه.

 

كان المجسلس يشكل منتهى الرعب، يتم إختياره مرة واحدة كل عشرة أعوام، ايضا ظل طيلة تلك الفترة أقدم مجلس في الدولة، تتعرض تشكيلته مرارا وتكرارا في غضون ذلك، لتغييرات كثيرة عبر أحكام الإعدام، أو الضياع الفكري. الخوف البشري العميق من الموت، التهديد المستمر من عقوبة الإعدام يتسلل إلى فهم أي من لايموت على منصة الإعدام.

 

لكن المجلس لايعرف الأعضاء  من خلال تشكيلته ، لأنه كان أحاديا رائع التشكيل وغير منقسم.  يجب على السكان  في نطاق محدود :  القبول  بالمجلس  على تلك  الهيئة الفائقة، المواطنة كانت تباع  لأفكار الدولة  الأساسية، الحياة أو الحرية تخفى تخفى فقط   لمن يحاول الخروج عن الخطوط الحمراء للدولة.

 

 الوافدين الذين يتمسكون يتم إحتجازهم ، كل من يتبنى رأيا مغايرا يشكل خطرا على الدولة، السجون  تحتشد بالثوار، الأسوأ من ذلك تنفيذ أحكام الإعدام بهم.  من يتمسك بآراء الدولة يبقى هو الأفضل،  من يتهاون  تتعرض حياته أو حريته للخطر.  في الخمسة سنين الأخيرة نجد بعض المشوشين في إثارة الدولة ضد حركة الأقليات، مقابل إثنان كانوا يمثلون الخط المتقارب، أما التشاؤميين فقد أعلنوا  بأن مسار النمو المتكامل  لن يتقابل مع خط الواقعية، مثل الإنسان العالمي  الذي يريد زرع نظام عالمي جديد لشخصية فردية  بدون لجام في بناء قديم آيل للسقوط. أخذت الحركات بالتنامي ، وظهرت أخرى جديدة،  كانت جماعات الشرطة ،  تعمل  من خلال منظمة كبيرة للحفاظ على الأمن داخل الدولة،  تكلفوا بمهمة أخرى تتلخص بتعقب الذين يتسللون للداخل.

 

قاموا بتسجيل تحركات المجموعة "مجموعة - آه"  مثلما يتعرف الناس في حالات إستثنائية  شخصية الحيوان عندما لايتحرك ، لكن الناس يفهمون  فقط بأنها تعارض الدولة الحالية. في أمسية شتائية إجتمع المجلس في القاعة الصغيرة  الباردة جدا  حول الطاولة الخشبية المنخفضة. جلس كل واحد بحرية ،  في الضوء الممتلأ،  يستطيع أي أحد إزاحته بالكامل ،  قلائل  كان لديهم أوراق بملاحظات.

 

الرجال والنساء كانوا يرتدون ملابس متشابهة ، أسود مع أحمر،  أم النساء فيرتدين بناطيل وتسريحة شعر رجالية ، أما أعضاء المجلس من الرجال فقد حلقوا ذقونهم حتى بدت ملساء،  إن ترك الذقن ناعما كان تقليدا في الدولة.  فقط في  السجون بمقدور الرجال  ترك الشعر ينمو حسب الرغبة.

 

في السجون كانت مساحة الحرية الشخصية المتوفرة أكثر من الخارج.

 

يمكن تمييز النساء عن الرجال عبر البناء الصوتي القوي المتناغم العئب، الرؤوس العشرة كانت تبدو مبتهجة أمام أعين الحاضرين، تبدو من ملامح البعض  علامات الخبل والحماقة. المجلس تداول مع المجموعة-آه ، إنهمرت الكلمات كتلة جليدية  في قاعة المجلس الشديدة البرودة ، صوت المجلس بالإجماع بالتخلص من  تلك المخلوقات الضارة. 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

المجموعة- آه

 

 في قلب المدينة إلتقى  في تلك الأمسية الشتائية  القادة مع بعض أفراد المجموعة-آه. فوق سطح منزل متهاوي مرتفع، في العلية الصغيرة عبر نوافذ السطح ، كان بسهولة رؤية الناس في المدينة.  السحب الداكنة الرقيقة تأطر المشهد،  من مسافة بعيدة

 حقل طيران يشتعل. دعاماته الستة عشر المربعة الخفيفة تستند ببعضها بإحكام .  كان لايوجد ضوء في السطح. يوجد شيء من السكينة. الرياح نقلت الضوء لسرج السقف.  قال أحدهم: أصابت الحركة الهدف، تحركات كثيرة ، خرج الأمر عن السيطرة ولم يعد بوسع القيادة كبح جماحها. بمجرد أن يتبنى الشعب فكرة المجموعة

المعارضة ، سيكون مصير القيادة  التقهقهر. لكن متى نجحت في تحقيق أهدافها و تنظيم صفوفها  سيكون مصير المعارضة معروف مسبقا.  قال أحد رجال المجموعة آه: أستطيع تقدير عدد أنصارنا بالتأكيد بستين ألفا.  يتزايدون كل يوما ، لقد أنجزنا المهمة.

قال أحدهم:  إذا لم تنجح الحركة ا، فمصيرنا معروف مسبقا، لكنني  لست آسفا.

قال أحدهم ،   وهي إمرأة:  ماذا تريدون بالتحديد؟  أقترح هذا السؤال كي أستطيع سؤال رفقائي  في دولة  ممنوع فيها السؤال  من قبل البالغين، ما عدا  قاعات المحاكم،  لأن الأسئلة هنا تثير الشكوك ،كما يقول الناس بأنه توجد جرثومة إنشقاق في دولتهم.

قال  أحدهم:

ما نريده  هو الوفاق  مع الدولة  وتعزيز الحرية الفردية. لحسن الحظ هنا  البشر، لايوصفون بالإنسانية، لكن يشكلون  خلية من جسد دولة، إذا كان بمقدور الخلية الإكتفاء والشعور بالشبع فلن تعاني من العوز والحاجة .  أسوأ المتمردين هو

 الذي يعاني من الجوع.

 

قال آخر:  لكننا لانريد العصيان،  نرى  ما يسميه الناس ثورة،  في شارع فرعي مثمر من تلك المجموعة، نريد بناء جديد غير فاسد . نريد تركنا نتطور بحرية. نحن في الحقيقة لانشكل خطرا على الدولة. هنا البشر ماهم سوى بشر، لست متفقا مع سلفي تماما ، لكنني لست كاملا. نريده كاملا، نريد ثنائية الحوار،  لدينا لغة المجموعات المشتركة، حسب رأي  بالتأكيد لايمثل الكل مجموعة متكاملة، لكن لدينا رغبة مشتركة:  تتمثل في حق النقد.

قال آخر: " النقد يسمى بالإنقسام" . لكن حسب مفهوم تقسيم الخلية من المحتمل تقوم

الدولة بتشييد بناء جديد  ، تلك الدولة رجعية، أو الأفضل القول  بأنها آلة فائقة

لكن بالموت.

 

قال الأول: 

 على مدى طويل الدولة تتحول الدولة إلى آلة ولاتخلو من العيوب والأخطاء ، تهتز من لامعقوليتها الذاتية.  أو ما نستطيع تسميته بعرض للموتى؟ هل تعتبرأيدولوجية الأبطال؟ الآن ، نعم، الموتى لايشكلون خطرا.  لكنه ليس تنازلا،؟  لكن لماذا يقدمون رجالنا طعاما للعقبان؟ لماذا يدفنونهم،  حسنا هل مثل تلك الممارسات تدعم أركانها ؟  هل هذا إعترافا

بالهوية الفردية حتى القبر؟

 

قال الثالث: 

 

الآن سألت سلفي. وأيضا أريد أن أسأله؟  هل يستطيع الناس  الوثوق بالدولة

الأبدية التي وطدوا أركانها في يوم من الأيام؟  إذا لن يتعلم الناس شيئا من التاريخ؟ لكن تلك هي الحقيقة،  يعرف الناس البشر التاريخ فقط كماضي لشيء عابر ، أو وجهة نظر مقهورة.  في حقيقة الأمر الغباء يتمثل  ذلك الشعب الموهوب، 

باقين لمئات الألوف من الأعوام مأطرين بلون ونموذج واحد.

 

قال السادس:

 هذا الشعب الموهوب سيكون أكثر موهبة متى منح  فرصة الطموح الشخصي . من المفترض أن  نعرف فنانينا ومثقفينا، يأتون بنشوة إنتصارهم يتلاعبون بمشاعر الآخرين، أو يهربون خلسة خارج البلاد ، للعلم  بأن غالبية مثقفينا  وفنانينا يخفقون في تحسس بواعث  الخيلاء والزهو،

 

قال الأول:

الأسوأ بأن البشر وهم نظريا أسمى المخلوقات في الوجود يتم الإعتراف بهم عمليا  كقطيع من الحيوانات الثدية. من أجل إستئناس الأرض توصلوا إلى أن الخيال الإنساني يعتبر عضوا ذاتيا كاملا .  بدأ الناس بإلغاء القرى،  ثم يودون إلغاء المدن  و ضم السكان بجميع أطيافهم في دولة واحدة  مثل زريبة حيوانات.  ولكن ماهوالناتج؟  شيء آخر،  يستطيع البشر الحصول على الدفء داخل  الزريبة وسيل متدفق من العلف،  لكنهم ليسوا محظوظين،  إنهم يريدون دوما شيئا آخر.

 

قال الثاني:

 

البشرية عبارة عن إكتشاف مولود.  قامت بإكتشاف، الأسوأ في  كل الأزمنة، أخطأت عندما إعتقدت بأنها إكتشفت نهائية الكون. تناست وجود الله بعظمته وجلالته،  تناست المقاييس الفلكية، البشرية التي يجب أن يكون لها مثل أعلى  ، إتخذت نفسها كقدوة، هذا المثل الأعلى عرض بصورة تجريدية في الدولة. متناسية عظمة الله الذي خلق هذا الكون الفسيح، لأن البشر يبحثون عن العظمة  خارج الكون.  هذا الكون فسيح  ، فسيح جدا ، إيماني يتزايد . إيماني  بأن الكون خارج التقييم الحسي  مربوط بأكوان أخرى، بوحدانية الله، وهذا الكون لامتناه ، ظلوا يتحدثون طيلة اليوم.  كانوا مدركين بأنهم لم يتحدثوا عن شيء خارج العادة أو غير مألوف، لكن شيء متعلق بالبشر ليس إلا. كانت أسوار المدينة مفتوحة.

 

 

 

 

 

 

 

 

الإعدام

 

كان ميكانيزم الدولة يتميز بأنه مثالي وكامل ، لكن رغم ذلك الكمال فهي هشة ، سهلة الكسر، خمسة آلاف متمرد  بمقدورهم جعل الدولة تتذبذب ، أما خمسين ألفا بمقدورهم إسقاطها .  نتيجة للأوضاع السائدة يتمسك كل ثائر برأيه،  لايتزحزح من الرعب الذي يمكن أن يثيره.  أما المجموعة  (آه) وإسمها يشير لرمز مجهول،  أخذت تتزايد شيئا فشيئا،  إنضم العديد من الأبرياء إلى صفوفها . كما تم نهب أحد منازل الغوغاء ، لكن لازال بحوزة الحكومة أفضل الأسلحة.  إنتقل التمرد  بواسطة وسائل النقل جوا ،  بسرعة إلى بقية المدن الأخرى،  لكنه لم يكن متأججا أبدا في العاصمة الرئيسية  .  لم يعرف المجلس العفو، في بلد ما حيث بمقدور كل إنسان أن يكون محظوظا بينما بمقدور الآخر أن يرتكب مخالفة ، أو جنحة ، أيضا الفطرة  تلعب هنا دورا هاما ،  أقصد فطرة حكومة الأقلية وهي مكونة من عدة أقراد تجمعهم مصالح مشتركة .  يشعر المجلس دائما بأقصى تذبذب يهدد ذلك التوازن،  مطاردة المتمردين سوف يساعد على تثبيت أركانه. رأى المجلس بأن التمرد سينجح عبر إستخدام  الأنفاق، أيضا الطلب المتزايد على وسائل النقل الأرضية و الجوية بكثرة،  ظواهر القلق،  كان المجلس في الحقيقة متمرسا بالتعامل مع الأوضاع الإجتماعية  المتوترة وفي حالة وقوع أمر سيء يمكن أن يثير القلق.

 

أعمق نقطة بمقدور التمرد الولوج منها إلى داخل الأفراد هي سرعة التنقل، كما

إمتازت الدولة في الآونة الأخيرة بقلة الإستبداد ،حيث إستفادت من تجارب الماضي ، إن فوضى الحرب تحسنت،  لكن بالنسبة للمخلوقات فإن الأمر لايختلف كثيرا عن السابق،  كان من الصعوبة صنع الغاز من خلال تلك المثالية التي

تتميز بها الدولة، الفولاذ والنار ظلا على حالهما، القطارات، السيارات المصفحة المربوطة،  تمخر شوارع المدينة  وتفرغ  كل حمولتها بالقرب بحيث يراها كل مار، بعد كل طواف ، كانت الشوارع تبدو  مثل حقول القمح بعد موجة الأمطار التي تسقط متجمدة في الشتاء ، بعد الدورة الثانية  لاتتبقى سوى بقع الدماء ،  عشرون  ألف ميتا تم جرفهم آليا للفور ثم نقلوا بعيدا . بعد الدورة الثالثة  تم رش بقع الدماء  بواسطة عربات بخراطيم مزودة بمياه تغلي ،   في بعض المواقف التي تشكل تهديدا للدولة  يتم إقتياد السكان سويا إلى زوايا داخلية حيث تتم تصفيتهم.

في سكن مربع بالعاصمة الرئيسية إختلجت حركة التمرد بقوة بعد ذلك، تم سحب إحدى حاميات الجند،مجموعة  سفن حربية صغيرة من الرجال المسلحين ذوي المهمات الخاصة من أسطول الحرب ، بتدفق متوسط في نهاية خارج المدينة،  أطلقوا وابلا من النيران بدقة بواسطة دزينة من الأشجار المحترقة، أما الذخيرة المخفية هناك فقد إنفجرت،  أما المربع فقد إحترق حتى تساوى مع الأرض تماما ، في غضون ذلك  تم القضاء على كل أحد مظاهرة بالقرب . إستخدمت جماعات الشرطة  الرصاص القافز الذي ينفجر بسرعة في الهواء ، الأشخاص الذين إحترقوا في الطابق الخامس المتهاوي ، تطايروا إلى عدة قطع ، ثم قذفوا بالقرب مثل ظرف عيار ناري فارغ ، أحشاء بطونهم بعدهم،  أماما الدودة فقد كانت ميتة . كانت الأحياء تعج بالسجون، بعض القلائل عرفوا بأنهم يشكلون خطرا على الآخرين قبض عليهم بهدوء مثل حيوان بفراء ثمين . الناس لم يعتادوا على فروهم .

 يناقش المجلس ذلك الردم من داخل قاعة صغيرة، لم يخرج منها أو ينام .

في اليوم الثاني كانت البوارج الحربية بالفعل تبحث عن مرساها ، أما قرار  منع مغادرة المنزل فقد ظل ساري المفعول لمدة ثلاثة أيام ، في تلك الأيام الخمسة لم يتناول السكان شيئا ، أو يشربوا، كما عانوا من لوعة البرد القارس. أيضا المجلس  مع هذا لم يشرب، عانى من البرد أو ينام .  خسر إثنان من الأعضاء بأسلوب مثير   وعلى الفور تم إستبدالهم من إحتياطي المجلس.  الغذاء، الماء، وسائل التدفئة تم قطعها بأمر المجلس،  ثلج رقيق  سقط في  المدينة المتجمدة.  بعض الأشقياء،  غامروا في بعض الزوايا بترطيب شفاههم في الثلج ، بشدة تم القضاء عليهم على غرة ، لكن منع نقل الجثث من الخارج .

 

أما نشرات الراديو التي تبث  الرعب في العاصمة الرئيسية جعلت المدن الأخرى  على إتصال مباشر بما يحدث .  اليوم الثاني ، الثالث والرابع  إنعدمت الأصوات في المدينة ذات المليوني نسمة،  في اليوم الخامس وفي مركز المدينة أخذت ترعد أشبه  بقصف ثقيل من مدفعية  ترافقها إنهيارات ذات أصوات مكتومة، جماعات الشرطة  لم يفهم أحد شيئا،  مجرد أنها قطعت عن العالم الخارجي، أما جماعات الشرطة يرتدون نعول أحذية من لباد ونسيج مصنوع من الصوف المضغوط غير مسموع  بدون إنقطاع. الهواء فوق مركز المدينة،  الهواء المكفهر المنخفض، بدأ يرى أحمرا، سقط الثلج بكثافة،  الثلج يرى أحمر.

 

وصل المجلس بالقرب من مركز المدينة رأى في حقيقة الأمر  شدة التمرد، أكثر خطورة  من أسلافه، المتحف التاريخي نقل إلى محل آخر ، أطلق الرصاص على مركز المدينة، حرائق ، مجرد حطام ،ضحايا حرب كثيرة  جرفت في الترعة الصغيرة وسط المدينة.

 

إستغرق العمل طيلة الليل، أضواء كهربائية بإرتفاعات مختلفة، تركت ثقبا في المدينة،  كأن قلب المدينة كان سابقا قطعة من النهار،  الدبابات تلقي مياه ساخنة، إنصهر الثلج في كل الطرق،الخراطيم ترش الرمال، أما المرداسة وهي ة تسطيج وتبليط لتسوية الإسفلت على الطرق فقد كانت تلف بنعومة ،  تم رصف  الحجر النقي،  ورصف الإسفلت بقطع كبيرة، بخطوط من مختلف الألوان، المرداسة  تركت بكثرة في  المدينة،  حتى الساعة الرابعة ليلا،  كان الميدان يلتهب  حتى الساعة الخامسة ،  حتى الساعة السادسة بصلابة الحديد  توقف الثلج  عادت المياه وأيضا الدفء مجددا للمنازل، حتى الساعة الثامنة صدر قرار العودة  للعمل ،  أما الأكل فقد سمح به  أولابعد الظهر ، تم تغذية السكان بقوة لكن بإعتدال،  بمقدورهم الصمود والمقاومة أما العطش فقد أصبح الأمر الأخير.

 

عادت الحياة مجددا  للمدينة مثل السابق،  لكن في الوسط يوجد ميدان إسفلتي لايمكن تخيله،  في المرع المدمر بدأت عمليات إعادة البناء بكثافة ومثابرة، المساكن  بأساساتها الإسمنتية  القديمة أعيد بنائها في مستوى الأرض حتى الطابق الثاني ،  قلب الميدان ، دائري تقريباـ يبدو غريبا،  شاذا،  في جميع زوايا، نواحي وكتل المدينة.  إستولى خمسة قادة على زمام الأمور في المجينة،  مهمتهم تلخصت  الدوران  في قاعة المحكنة الكبيرة، النجلس  مكونا من عشرة أشخاص  يجلس مثل   القاضي، يجلس بجدية مثل حلبة صغيرة، ألوف من المستمعين، ينصتون لمن ستم إختيارهم بالقرعة، كما تضاعف العدد كثيرا، في القاعة كان الوحيد في المجلس،   لايجب على المجل الإجتماع في بقعة أخرى ، إلا تلك.  المجلس، القاضي،  بوظيفته المهمة، قاع المحكمة القديمة  كانت لاتزال دائرية، لكنها بإتساعها إتخذت

شكلا مربعا، أثناء عقود الجلة جلجل  خافتا صوت المطرقة الذي إخترق جدران المحكمة للخارج.

 

طلب المجلس من المتهمين ردودا . إستغرق الإجراء أربع ساعات، المجلس نطق على الفور بالحكم، أدان خمسة رميا بالرصاص،  كانت الفرصة ميسرة للطعن بالحكم،  نفذ الإعدام بعد مرور عشرة أيام على النطق بالحكم، في اليوم الخامس للشعب. توجه المدانين متعثرين إلى منصة الإعدام، كانت أعينهم بشعة، إنحرفت عيونهم أكثر من عيون مشعة بفعل مصباح كزارتز بطاقة كبيرة. بعد عشرة دقائق أصبحوا لايروا بوضوح،  أسفلهم كانت توجد إمرأة ، حالة العمي التي أصابتهم جعلت ممشاهم يبدو متواضعا وفاقد الأمل بين جميع المنتظرين بموازاة الشوارع الداكنة من الناظرين، الذين يتبعونهم. لقد ضيع المجلس ملامحهم كي يجعلهم يشعرون بالندم . كانوا نادمين.

 

ستين درجة للأعلى جلية بالنسبة لهم فقط،  إنتصبت في زاوية من قلب الميدان منصة الإعدام، بنيت من الإسمنت،  وقاعدة واسعة،  ونهاية من الطين،  جانبا إنتصب مدفعين رشاشين. في نفس الحين تم إعدام الخمسة ، ربطت عظام الفك للمدانين بإحكام،  أما أعينهم العمياء فقد كانت تنزف دما، منظرهم مقيتا،

لكن في اللحظة الأخيرة، عندما شعروا كأن المدافع الرشاشة تنطق ، تلقوا  ومضة من شيئ كبير. توجهوا بكامل طولهم، نجحوا أحدهم نجح في رفع يده نصف الطريق.  سقطوا للأسفل.  لم تطلق المدافع الرشاشة بعد. إستقر الرصاص مستقرا بالطين.

كانوا: خلوشانت، دي.ماركاس، تاننهوف، المرأة: تيكالوبتي، يابسيمينتي. الأرض الإسفلاين بنصف إنسيابيتها الكاملة، تنظر ساكنة لما حولها.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

البهجة

 

بمزيد من الهمة والعمل الإضافي تم تعويض الأيام الفائتة، أيضا النقص الضئيل بالمؤن قاد الدولة  لمزيد من العمل الإضافي، بدلا

من العمل ثماني ساعات تم مضاعفتها لعشرة و إثنى عشر

ساعة . لكن المجلس أدرك جيدا بأنه لاتوجد أي عقوبة  أو عمل إضافي سيقللان من  أهمية المعارضة  التي تسعى لقلب نظام الحكم،  وأمر بمضاعفة الإسترخاء وتهدئة الأمور. في حفل كبير إعترف بخطورة التمرد،  بدلا من يوم العطلة الثالث أصدر قراره بمنح يوم عطلة آخر في فبراير .

 

كان  يوما من الصقيع  وإنعدام الرؤيا،  أشرقت الشمس  بضوء  متألق، غير ملتهب،  هبت ريح شديدة وسريعة ثلجية ، أصبح العشب في الحدائق العامة بفعل التجمد  سهل الكسر،  بانت العاصمة حمراء بفعل الضوء الشتائي.

 كانت توجد ثلاث إحتفالات: الصاروخ، الشهاب غير المحترق، السراب.

كانت وسيلة النقل الداخلية في الدولة عبارة عن مواصلات

محلية،  حيث تسير في العاصمة  مركبات نقل البضائع. الطرق الممتازة كانت لاتطأها إلا مركبات الحرب فقط . أما جسور السكك الحديدية  نصبت في الطرق الزراعية فقط لرعاة الأغنام،. المواصلات الجوية  بطائرات الهيليكوبتر  والطائرات الجوية كانت تعمل ليلا ونهارا.  كان بإستطاعة الجميع السفر  وعبور الحدود بكل حرية . أما في زمن السلم فقد كان إستخدامها ضئيلا.

كان للناس تقريبا كل شيء في مدينتهم الخاصة. أما الصواريخ التي يطلقها البشر  خارج الغلاف الجوي، كانت باهظة الثمن كي

يستخدمها الناس في التنقل. رغم حالة التأخير تقيد الناس بالملاحة الجوية . أما الصواريخ فقد كانت مخصصة لإستخدامها داخل الكواكب،  لمسارعة  نظام النقل . عبر تلك الصواريخ كان

بالإمكان رؤية الجهة الخلفية من القمر، أيضا فينوس ، مارس   و بعض

 النجوم المحيطة، المشتري و عدد من الكواكب الأخرى خارج المجموعة، وزحل أحد كواكب المجموعة الشمسية أطلق العنان لخياله.  

 

العديد من الصواريخ لاتعود،  وتمضي في رحلة سفر تستغرق خمسة أعوام  ويتم تصويرها كنجم. هذه المرة يبدأ الصاروخ رحلة قياس الأبعاد كأنه لم يقم بها من قبل أبدا ،  كان هناك مزيد من الهواء ورحلة معاشة  لثمانية أشخاص تستغرق مائة وثلاثون عاما، كانوا أربعة شباب وأربع شابات تم إختيارهم بالقرعة.  يتوقع الناس بأن  يعود هؤلاء في الجيل الأول ، الثالث أو الرابع  ، لأن الناس يتوقعون أن يموت هؤلاء مبكرا،  أما قاذفة الصواريخ فقد تم نصبها  في مخبأ يقع مسافة خمسين مترا  تحت الأرض ، كل من يريد القيام بالرحلة يتم إختياره بنظام القرعة. إستغرق الشهاب ثلاثين عاما للوصول

للجهة الشرقية  الشمالية،  لمعان ضوئي رهيب  طيلة اليوم ، أشبه بشريط صاعقة أبيض طباشيري واسع  خارج من سماء غير غائمة  إرتبك الناظرين بدرجة كبيرة  عندما أحدث الصاروخ  القادم إرتجاجا عميقا بالأرض ، لكن بين الناس لايوجد المزيد من القرابين ثلاثة قطعان تقدر بألف من حيوان الرنا  وهي من الأيايل ويعيش في المناطق الشمالية الباردة ، دمرت بدون أثر يذكر .  حط الشهاب  في نفق عمقه  ستمائة مترا،  أسفل الأرض ، الحرارة الشديدة جعلت الغابات ترى بعيدة من مسافة عشرين مترا  وهي تشتعل فيها النيران. في السنوات الأولى  كان مقدرا مفترضا أن يقترب الشهاب مسافة ثلاثين كيلومترا، الإقليم بأكمله بإستثناء سكانه القلائل ، تم تضليله.  تبدو الصور الجوية للمخلوقات كبيرة جدا،  كأن كوكبا  يتزاحم مع كوكب آخر ، ظل الهواء يتذبذب من الحرارة الشديدة ، ثم أطلق  حزاما من محصول إستوائي ، رويدا

رويدا تلاشى ، بعد خمسة وعشرين عاما كان بمقدور الناس التحقق من أمر الشهاب، قدر وزنه  بسبعة ملايين طن . تعتبر تلك الهدية  الهفوة الوحيدة تربض بشكلها الكروي تتألف من الحديد، 

النيكل، غازات وفيرة، كروم، فاناديوم. كانت أكبر هدية قدمت لهم.  ظنت الدولة  منذ تلك اللحظة  بعقيدتها الفطرية الساذجة، بأنها دولة مختارة‍‍‍. ردمت الأرض من حولها في السنوات الأخيرة. يرقد الشهاب المحترق  الآن داخل قمع بأجزاء مسدلة،  من جدران متوهجة. عديمة القيمة كانت عبارة عن زائدة جلدية طبيعية منصهرة ، أيضا حارة،  تستقر في نقاط مختلفة ثم يظهر الشكل عاريا، عموما  تم تبريده بما فيه الكفاية كي يتم إستصلاحه.  هذا على الأقل هذا ما إستهلوا به يومهم هذا.

 

كان هذا السراب صناعيا، يتناسل فقط في السماء الصافية أو السحب العالية،

 كان التلفزيون في البداية عبارة عن سراب، سينما في ضوء النهار ، يتابعها عدد كبير من الناس، حيث تصل درجة عدم وضوح الرؤيا لستين كيلومترا  من مكان المبادلة التجارية، في الهواء الصافي تصل لألف كيلومترا.  رأى الناس بحذر

شديد  بأن ذلك التمثال  لايقع خارج حدود البلد. من المحتمل بأن مكان المبادلة  تم إختياره ليصبح مركزيا. كان ذلك السراب بواسطة إستخدام غاز نادر يشكل متعة نادرة أيضا.

 

جلب السراب ألعابا نارية  متلفةعبر اليوم ، ألعابا نارية  من غازات ملونة،  لاتتأثر بالرياح بسهولة  عديمة الرائحة،  غير ضارة، تتراكم فوق النهر الكبير، أولا  تتشكل على هيئة كتلة صفراء ثم إلى كتل أخرى ، البنفسجي، الأرجواني  الأحمر، الأزرق المفرط إلى مدينة من الكتل،  إلى كتل من مدينة المستقبل، القدس الجديدة  لتلك الدولة. إستغرقت تلك الرؤى ساعتين تقريبا. بالنسبة لإستصلاح الشهاب المحترق أعيد إنتخاب المتفرجين بنظام القرعة، أما الملايين الأربعة المتبقية   بإستطاعتهم متابعة السراب،  في كل النواحي من الدولة. هذا الأمر يمس جميع أعضاء المجلس وجميع من ينتمي إليهم. إنطلق الصاروخ في الساعة الثالثة عشر في بادئ الأمر غير مرئيا في مدار ناري  بإنفلاق عميق محتمل. ثم رأى الناس من إرتفاع عشرة آلاف ، أيضا مرتين شعلة من الألعاب ثم سرعان ما إختفى الصاروخ.

 

 الضوء المتدفق  على حافة القمع المقلوب الضخم إستقر بعمق في الشهاب.  قطعة مربعة الشكل من زائدة منصهرة تحولت بفعل الكهرباء إلى نار

 مبهجة عصرية.  لم تشتعل كانت تتوهج بأبيض فاقع، أشبه بحجرة منصهرة. لم تصل الشمس إلى هناك،  توهجت كبيرة ومربعة  في العتمة.

 

مع تلك الفانتازيا  القوية والملعوبة  أصبح بفعل التيار الكهربائي بناء مدينة الغاز،  بأشكال محكمة،  بألوان رقيقة.

رأى الملايين ذلك المشهد  بهدوء ،  هبت الريح  بلانهاية  بحزمات من الصقيع البارد  على البلدان، الجبال، التلال، السهول، المياه، المستنقعات، الأغشية الثلجية الحية وغير الحية ، فوق الملايين الصلبة المتمسكة برأيها.

 

كان إحتفالهم فريدا  ،إحتفالا للناظر ، من عين إلى أذن ، من الحواس الأخرى أصبح بمعلوم الحكومة تقبل ذلك التحسس الإحتفالي ، نادرا ما تتعامل  الحكومة

مع مثل تلك المشاكل.  شارف اليوم على النهاية . حطت طيور العقاب في كل الطرق.  عاد الفائزين أدراجهم إلى المنزل بطائرات جوية.   الأمور في مدينة الألوان تجري بسرعة، تسير الجماعات بخطى منتظمة إلى الكتل، بإعلام مرفرفة ، موسيقى خفيفة وغناء حاد في الصقيع البارد المتأجج.  أصبحت

السماء سوداء، أما أرضية السماء السوداء تتناثر فوقها أمطار ثلجية  على هيئة حبات كبيرة نجمية الشكل.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الخطيئة

 

يبدو قلب المدينة رديئا ،  مرارا وتكرار من الإسفلت المتخثر.  أما منصة الإعدام فقد تم تنظيفها،  ظل السكان يتفادون الموقف الآني.  نادرا ما تحتج مجموعة حول مثل تلك الأمور، الغالبية العظمى تمكث عند الزاوية ، كممتلكات للفوبيا الجماعية ، كانت حركة المرور جيدة لتنظيم الحركة المكتظة في قلب المدينة . تم وضع الخطة لتشمل ، ساريةالميدان، كتل سكنية، متحف تاريخي جديد. بالوسط يوجد ميدان مربع  صغير  يحتفظ فيه بمساحة مكشوفة

من الأرض ، المرشحين لمهمة بناء المساكن التربيعية تم إستدعاؤهم.  كان هناك القليل من الطلبات،  لم تكن هناك أزمة

مساكن،  خطة البناء الهادفة  في العاصمة تجعل السكن بدرجة كبيرة ليس مرغوبا بما فيه الكفاية.  يبدو بأن المجلس قد وقع في خطأ كبير.

وجدت الخطيئة منذ خلق البشر،  تنمو   في جسد الدولة  تماما مثل نباتات متسلقة في المعدة. الأوضاع العامة  التي تحلق في أجواء الميدان السابق ، رآها الناس  تعود مجددا خارج محيط العاصمة.

 

كان الناس يريدون دائما خبث الشر. لم يكن هناك إستيراد من الخارج ، ماعدا  الأفلام.   تعتبر الأفلام  في المجتمع الرأسمالي عبارة عن وسيلة تعلم ومعرفة.  يتبادلها الناس  من خلال أفلامهم الخاصة.  يعرضها الناس بمساعدات من غوغائية  محذرة . لاوجود للملل، محلات،  أو أشياء للترفيه ، ماعدا المتحف التاريخي ، يحرس بشدة بواسطة المعاقبين. وضع السكان قيد الإشراف.  أيضا بعض الأشياء غير المحببة، النقود، المجوهرات،  الشراب ، الحلويات ، الألعاب والزنى. تبدو كنباتات غير ضارة للمعدة. جماعات الشرطة  يباغتون مرارا وتكرارا ، العقوبة كانت شديدة، الأقبية التي تستخدم لسجن المخالفين كانت تعج هي الأخرى ، غير مرغوبة.

 

المال  كان عبارة عن ذهب قادم  من دول العالم.  إن صحوة حراس

قصر الحكم لم تمنعهم  من القيام بمهمات عبر الحدود.  كان لابد

من وجود الفساد،  لكن كان من الصعوبة إستئصاله.

 

سخط المجلس على الرأسمالية الأجنبية،  التي تسكب قطرات

سم فسادها على  الشعب الذي لاحول له ولاقوة. بالإضافة إلى أن سخط المجلس كان مستترا،  كان من الخطورة تحذير سكان المدينة علىأنهم عرضة  لبراعم الخطيئة.

 

هكذا هو الحال بالنسبة لبقية وسائل التدول والتجارة الأخرى، كانت توجد تجارة واسعة للمجوهرات والعطور، حيث الطلب جاري على الأحجار الكريمة مثل الياقوت، الياقوت الأبيض، الزمرد الشرقي النادر بلون واحد، الألماس البني، الحجر

المعوي لسمكة حوت العنبر. أما إيرادات الذهب والأحجار الكريمة فقد كانت مضاعفة. بحضور رجال الشرطة كان يجري اللعب على  طاولة مبهمة من الكوارتز . يفدون إليها من كل مكان.  كان من الصعوبة العثور على الطاولة.  لكنها موجودة على أية حال. المتبارين  كانوا عبارة عن

مجوعة من المشاهير الذين يصعب العثور عليهم ، أيضا يتم التداول بالذهب  وبعض الأحجار الأخرى.  يتم صهر الذهب، أماالأحجار فتحرق، وبالتالي يتشكل ذهب وأحجار جديدة.

 

لم تشاهد أبدا حالة سكر علىالملأ ،  بالتأكيد يحتسي الناس الشراب ولكن ليس لدرجة الثمالة المضرة.  بالتأكيد يحتسي الناس الشراب ، لكن الثمالة غير موجودة، وأكتشف التقطير من الأرتيميسا، فيرماوث الثماني وهو وهو شراب يوناني حاد  تضاف إليه التوابل ، يسمى أيضا  بمنشط الخصوبة.

لاوجود لممارسة الدعارة من أجل الحصول على المال والمجوهرات ، وإزدهار تجارة  الفيرماوث يتجاوب الناس مع ممارسات الحكومة. لكن كيف كانت قيادة ذلك الشعب، حيث يتهربالناس منالخدمة العسكرية.  يسيل الشراب من جوف برميل عصير العنب المعصور القوي. تنقسم مواصلات الأشخاص في المدينة  عبر مسافة بعيدة إلى مواصلات البضائع، مواصلات تحت الأرض، أنفاق تحت الأرض ، باصات بإطارات  بسرعات مختفلة. في الماضي كان لديهم القطارات المنفردة،  أما القنوات فوسعت،  كان لاوجود لمكان  لسرعة إحدى أو إثنى عشرة  سرعة  لكل  مائة وخمسة عشر كيلومترا.  لم يكتشفها البشر بعد ، بالسرعة الخامسة  أستبدلت الإطارات بما يسمى بمنازل الرياح ، عند السرعة الثامنة  بمنازل  العاصفة.  للسرعة الحادية والثانية عشر  فكر الناس بحافظات الإعصار ، كانت في ذلك الحين غير ضرورية. إن  تنظيم قفزات الإطارات في السرعات الكبيرة  كان بحاجة لسياسة قرار حكومية ، حيث  يتم تدريب الأطفال بسن مبكرة من يترد يتعرض لخطر رميه في عاصفة هوائية.   تسير أثناء اليوم في ساعة محددة الباصات في أرجاء المدينة معبأة بالأطفال ،  بلعباتهم الخاصة.  كان لهؤلاء الأطفال ساعة محددة للعب بحرية كاملة. وعزم المجلس على إلغائها ، المواصلات تسار نهارا وليلا،  لكن يندر مايستخدمها البالغين،  في الأماسي والليالي تبدو

القنوات فارغة. تثير الغضب .  تظهر خلال اليوم ربات منازل وقورات  يبحثن  في مواقع المدينة لبعيدة  مزينات بالجواهر،  في المتنزهات ، داخل المدينة ، يتوهجن كسحب نارية طائرة،  مضاءات  مثل أطياف ظاهرة.  لا أحد يعلم أين تقع منازل تلك النسوة في تلك المدينة الممتدة. علاوة على ذلك فهن ربات منازل شريفات.  واحدة كانت مشهورة بعقيقة ضخمة بلون الأحمر الصدأي  تضعها حول رقبتها. عندما تسير  تبدو أشبه بشبح إمرأة في عنقها فتحة خنجر في عنقها معبأة  بالدم الجاف.  لم يتعرف عليها النساء جيدا،  يقولون بأنها  زوجة أحد رجال المجلس.

 

 عندما حصلت تلك المساكن الأسية المربعة على سمعة سيئة في غضون أسبوع واحد، ظهرت االإضاءة شديدة هناك. هذا كان لهأثرا سلبيا ، فقد ساعد على زيادة حدة  ظلال الخديعة . ساعد الشر على إزدهار فقدان الخجل مثل دودة بالضبط أسفل  مساحة مشحمة من الأرض. قليل من النساء يمتلكن المجوهرات  ولكن ليس الذهب،  لكنه يعتبر حلو الخطيئة الذي  يتم إقترافه،  أن تشعر بقيمتك  كفرد وإنسان. لم يكن  الشيء الوحيد  المضئ  فوق الآخرين، إذن على أي حال ضوء عميق ومزيف بالسر.

 

إستعراض الأسلحة

 

كانت الدولة آخر مؤسسة عسكرية.  في يوم الجمعة الرابع من كل شهر  ينشغل

الناس بتجارة الأسلحة، الرجال والنساء كانوا صامدين، يشكلون تجمعا خاصا بهم،   أربع مرات في العام ، مرة كل موسم،  تجري مناورات حربية سياسية في اليوم الخامس عادة . كي يكون السكان على أهبة الإستعداد للحرب.

إن زمن الدعاية الثائرة و التسلل خلسة خارج البلاد قد ولى وإنقضى. يبدو بأن الدول الأخرى  ليست ناضجة بعد لمثل تلك التجربة.  أغلقت الدولة حدودها ، أيضا  قضت في الداخل على حالة العنجهية والغطرسة. الدولة ليست بحاجة للعالم،  لكن العالم ينظر إليها بعين كبيرة  ويتوهم بأن خطط التسليح مفتعلة . إن مفكري الدولة تغلغلوا  في أحشاء الدول المجاورة. محاولين على مايبدو إصلاح أشياء تافهة.  الدولة كانت تشكل خطرا محكما  للتوازن الداخلي في العالم.  الدول الأجنبية رأت  في حالة  إرتداد فتلك الدولة تشكل بالنسبة لها خطرا محدقا والآن سيوفها تصلصل متأهبة.  في مارس  يجري إستعراض كبير  لقوتها المسلحة، كانت الدول الخارجية  تتترقب تلك الدولة وهي تنشب مخالبها، وتسمع صوت حنجرتها الذي يجلجل بالخطب الرنانة.

تهيمن خارج البلاد حالة من عدم الإستقرار، أما السفرات عديمة

الفائدة تم المباشرة فيها،  الطائرات الجوية والهيليكوبتر، كانت معبأة ، الباصات  تنقل الناس بكثرة.  عرض القوى سوف يساعد على تهدئتها. لن تستطيع الإحتمال، هذا هو التمرد الثاني في

نفس العام. إنها حالة الذروة التي وصل إليها نظام الدولة بالفعل

في هذه الأيام. يوم عقابي في مارس. الهواء معبأ بسحب ثلجية، سوداء ، صفراء  وجرعات من شمس بارد.  الرياح ، بهبات شديدة من برد رطب، قادمة من القطب الشمالي. العاصفة الجوية  ضربت في نفس الوقت التلال الكبيرة في الأفق ثم تحولت إلى أقواس قزحية.

 

إقترب اليوم الأخير  لمناورات بداية السنة.  يجري عرض ضخم للأسلحة أكبر من السنين السابقة.  تحشد فيه كل القوى العسكرية المتوفرة لديها لربط العاصمة ببعضها.  في جنوب المدينة  يتدفق أسطول حربي كبير، إن مشهد إستعراض الأسلحة ،  إنتقل عبر السراب لاإراديا خارح الحدود، تم إغلاق جميع الثغرات تقريبا.

الفوضى التي خلفتها آلة الحرب تم التخلص منها ، لكن بالنسبة للمخلوقات لم يتغير الكثير.  كان يوجد فقط متغيران:  الحرب الكيميائية والبيولوجية تتمثل بالوقت الحاضر في الخطورة القصوى ، لمستخدمي  مثل تلك الأسلحة

 هذا كان المتغير الأول ،  أما الآخر فيتمثل في نقل وسائل

الصراع. كانت لاتوجد حصون، أو معاقل  حماية منذ سقوط الغواصة

الحربية (إل.إيه.إي)  بواسطة حزام رملي قذفها عدة كيلومترات أسفل  الشاطئ الدفاعي  وفي نفس الوقت  إنفجرت.

 

عاصفة مستترة ، وقفت حائلا بين الأمواج بإنكماشات كبيرة، حيث وقعت السفن تحت رحمتها،   كأنها معبأة بتماسيح لاتعد أو تحصى. حشود السفن الرمادية،  إهتزت يمينا ثم شمالا ثم غاصت. ثم تبقت سفينتان لم تتعرضان لضرر  كبير  إصطدمت ببعضها  ثم رشت المياه إلى إرتفاعات عالية.  بعدذلك جذبت ستة سفن حربية  في  خط واحد النهر بحرك كهربائية بشدة ، ثم سقطت مرتطمة بعيدا في المياه ، إلى رشاشات هائلة من الرغوة .

 

مجموعة من طائرات الهيليكوبتر  تطير بإرتفاعات مختلفة  كسرب طيور  في كل الإتجاهات ، بينما توجهت كل واحدة من الطائرات الجوية المتبقي إلى مسارها الخاص، إنحشرت الطائرة العملاقة رقم (4)  وسط ذلك السرب في مخزن جوي،

لاحقا برزت سفينة جوية كبيرة في عارضة معدنية  تحمل الرقم 6 .

 

 ينظر الأطفال وكبار السن من السطوح المستوية بملابس ذات لون أسود وشريط أحمر إلى عاصمتهم . كان الهواء ينبعث من الموتورات، إنطلق لحاء الشجر بسرعة آلة الحرب لم تكن تعرف بعد كيفية صنع البخار. كانت الشمس تفور بشدة ببرد

قارص أعلى جوانح الطيور ، لتبتلعهم مجددا السحب الثلجية العميقة في جوفها.  الأطفال وكبار السن ضربوا بشدة بواسطة البرد والثلج، مكثوا يراقبون المشهد الآني تقلبات جوية مكانية خفيفة، يمينا في الأرض الممتدة، تطلق بشدة قوسا قزحيا ، لكن تبدو أجزائه غير مترابطة مع بعضها البعض.

 

إنطلقت  حشود الجيش في أرجاء البلاد، أزياء الحرب كانت رمادية بيضاء، بغطاء

رأس من الألمنيوم،  لم يرى الناس أحدا في السفن، لكن الأرض تشد وتجذب ، المربعات الرمادية والزوايا القائمة  تجذب بسرعة  غدوة ورواحا.  مدافع ميدانية

بمختلف الأحجام  نصبت في المقدمة.  الأكبر لايطلق قذائف لكن  فقط مدفع وهذا

يعتبر مدفعا آخر، وهذه قذيفة أخرى. كان هناك أيضا مكان لعربات حلزونية الثقب ، نصبت في الأرض ، يستحوذ عليها  قرابة عشرين رجلا. كانت تلك العربات مثقبة بالكامل لكن ليس بالقنابل.

 

إنطلقت حشود الجيش بقوة وفخر عبر الشمس ، الثلج، الرياح ،  الرياح الممطرة بشدة، أحيانا تلمع العواصف الثلجية في الشمس مثل حبوب عاصفة.

 

كانت تنتشر في البلاد حركة دؤوبة . لكن الهيجان كان  لعبة  العاصفة مع تغير وجود السفن التي تبدو مثل خيول نهرية تقفز وترقص فرحا وسعادة خارج عالمها مسبقا.

 

 راقب المجلس من الجندول قم 4 المشهد الآني . كان هذا الرقم يحلق  ببطء  في كل مكان. رقائق معدنية تقدر بعشرة كانت بعيدة عن المرأى،  رأوا مشهدا يبدو هنا وهناك كأن براعم الفوضى نشرت في تلك البقعة,  المربعات والزوايا القائمة  كانت ترى من الأعلى مختلفة وغير نقية عن السابق. أعلاهم أيضا يبدو الهواء بمستويات مختلة. لكن الأقوى من ذلك المأسوف عليها لعبة العاصفة. هناك،  من بعد تزايدت فرق الجنود في ما يشبه القوس،  وفرقةأخرى بعيدة جدا ، تحاول تشكيل دائرة. رأى العشرة ذاك المشهد. رأوه أو كأنه من إرتفاع شاهق بإتجاه

أوردة مائية من تحت الأرض 

 

راقبوا من أطراف أنوفهم الفوضى في التكون ، الإنشقاق، التقسيم، رغم إنها  ضئيلة،  لكن لايمكن الإستغناء عنها. وعندئذ من طرف أنوفهم ، رأوا سطح كتلة بناء جديدة في مركز المدينة، مطلع قبة البناء يبدو مثل إنتفاخ صدر إمرأة شابة. شارف اليوم على النهاية، الطائرات  محملة في تلك الليلة بالملايين، بحور من الناس تتدفق نحو

المطار تتوسط ستة عشر عمودا ضوئيا.  كانت الطائرات تفرغ حمولتها البشرية وتعود لتحمل أخرى، كان الإزدحام على أشده، تجمهر ، تراتيل، بداية الضحك،

قلق وإزعاج.

 

في مكان آخر توجد أنفاق ليلية فارغة بتيارات هوائية باردة، مع باصات عديمة الصوت خالية و بعض الإرتدادت الصوتية، كانت توجد فوضى مجهولة المصدر أسفل إنحناءات لاحصر لها  ، مع  أناس بالأسود والأحمر،  لكن مبتهجين، صارخين ،متجمهرين على الحدود  محاصرين مابين الرياح والصراع، وتلك الحشود، التي تفور من القلق والإضطراب، مكثوا أسفل الأرض يدورون  حولهم، ينزلقون للأمام على هيئة صف واحد والكل متشابك الأذرع بسرعات مختلفة، حتى  قدوم يوم جديد داهمهم برد قارس، صلب.   

 

 

 

 

 

فهرس الرواية

 

الليل

النهار

الندوة

قلب المدينة

الأحادي

المجموع آه

الإعدام

البهجة

الخطيئة

الإستعراض العسكري

 

 

 

 

 

 

 

  

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

بين المطرقة والسندان

رواية للكاتب الهولندي هاري موليش

ترجمة إنتصار الغريب

 

كتب المؤلف الهولندي روايته " بين المطرقة والسندان"  عندما كان في التاسعة عشر من عمره ، وبعد مرور خمسة سنين على  نشرها  ،  نقحها مرة أخرى  ،  وعلى الرغم من النجاح الهائل والجوائز التي حصدها بعد نشر الرواية  ، إكتشف بأن عنصرالفكاهة يعوزها . مما لا شك فيه بأن هذا النجاح عزز من مكانة هاري موليش في عالم الكتابة لاحقا. وتختلف  رواية بين " المطرقة والسندان" عن بقية أعمال موليش السابقة ، التي كان يعبر فيها عن أفكاره بإستخدام جمل فلسفية معقدة ، لكنه في هذا الكتاب يقدم قصة بسيطة تحمل في طياتها معاني إنسانية سامية حول

إنسان يقابل الموت بكل شجاعة وكبرياء رغم إحساسه بالبراءة  .

 

تدور الرواية حول  جندي روسي ، يدعى وارنيف فيودورفيتش ، بعد مرور فترة قصيرة من إنتهاء الحرب العالمية الثانية و بينما كان غائبا سنوات عديدة عن منزله وزوجته  وأطفاله  وكل محبيه.  وبعد أن تبقت بضعة أشهر على تسريحه من الخدمة  ، يلتقي بالصدفة إمرأة جميلة، لأنه تخيل بأنه لم يعد يحب زوجته الأولى، بين ليلة وضحاها يقع له حادث مروع لم يكن في الحسبان يغير مجرى حياته برمتها في ليلة بكى فيها القمر بينما كان وارنيف في دورية الحراسة  في الطريق الى مستودع الذخائر ، توقفت سيارة مدنية يقودها مسؤول بريطاني هام ، ثم يطلق

وارنيف إشارة تحذير ، إعتقادا منه بوجود خطر داهم  ، لكنه لسوء الحظ يصيب الرجل مقتلا  ، شعر وارنيف بالهلع والخوف ولم يدري ماذا يفعل ، لكنه تلقى الأوامر مسبقا بضرورة إطلاق النار  لكل من يحاول إختراق الطريق المؤدي لمستودع الأسلحة . إنقلبت حياته رأسا على عقب .  لأنه حاول تنفيذ الأوامر بكل دقة ولم يكن ينفذ سوى واجبه .

 

في بادئ الأمر مرت الحادثة مرور الكرام ، حتى قامت الدنيا ولم تقعد ، وتحت طائلة ضغوط الإعلام الغربي ،  صدر قرار يقضي بإحتجاز الجندي وارنيف  .  للوهلة الأولى تم إخباره بأنه سيجري إعتقاله بضعة أيام ثم يخلى سيبله بعد أن تهدأ الضجة . كان يعامل معاملة خاصة ووضع في سجن يتألف من غرفة واحدة ، تعرف على صديق جديد في الخمسين من عمره ، يدعى  كاخنوفيتش  يعمل حارسا للسجن ، تنشأ بينهما صداقة فريدة من نوع خاص  . كان يعتقد بأنه سينال الحرية عاجلا أم آجلا، لأن الزنزانة تحمل الرقم 4 الذي كان يجلب له الحظ  ، لكن الرياح تجري بما لاتشتهي السفن ويصدر قرار يقضي بإعدامه بأقصى سرعة ممكنة .  أثناء ذلك  يقرر وارنيف أن يعيش الأيام الأخيرة عن طيب خاطر  .

 

لقد علمته أيام الإحتجاز كيف يواجه قدره بصلابة شديدة، كانت الصحافة الغربية  المطرقة  التي ضربته ضربة موجعة ولم يستطع هزيمتها ، بينما وقفت الحكومة الروسية كالسندان  ، إبان الحرب الباردة ولم تود إثارة المشاكل مع الغرب وإستثمرت الموقف برمته من أجل الخلاص وكسب القضية لصالحا ، بالتالي تصفية وارنيف وهو مخلوق ضعيف لاحول له ولاقوة  . لعب وارنيف وحارس السجن كاخنوفيتش  الدوران الرئيسيان في الرواية ، حيث يروي لحارس السجن ذكرياته مع الحبيبة الجديدة وعذاباته ومغامراته إبان الشباب ، بينما لعبت كاتنيكا دور صديقته في الأيام الأخيرة، أما زوجته نتاليا فقد لعبت دورا ثاويا في حياة وارنيف . الذي يميز الرواية الأحجيات والألغاز المختلفة ، مثل رقم الحظ 4  الذي تكرر ذكره مرارا في الرواية وواكب حياة وارنيف  حتى فوجئ بالنهاية بالرقم 44 الذي قاده الى النحس وفي نهاية المطاف للموت . بينما جرى إستحضار الخواطر التي تصادف وارنيف إبان فترة السجن ، تعرض الرواية  مدى تأثير الحرب الباردة  في العلاقات بين الدول الغربية والعداوة المستمرة المعسكر الشرقي والغربي  ، وتأثيرها القوي  بإختيار تصفية وارنيف في نهاية المطاف ، كذلك دورالصحافة الغربية التي هولت الحادث حتى لحظة إعدامه، فتظهر القضية كأنها بين طرفين عدوين يريدان تصفية الحسابات بينهما ، ولم تلعب إرادة  وارنيف أي دور يذكر ، كما لو أن العنصر البشري كان غائبا. لم يحاول وارنيف  حسب الراوي البحث عن حلول بديلة للخلاص من محنته ، وإستسلم لقدره بكل طواعية .رواية مشوقة تدور حول  شخص لاحول له أو قوة ينتظر حكم الإعدام  ولاشئ آخر ، لكن القارئ المتمعن بالرواية  يدرك أنها كتبت بعناية  تامة سواء الأشخاص  والحوارات  وفريدة في إستحضار الدواعي والأفكار التي صاحبت وارنيف حتى النهاية  كذلك التفاصيل اليومية الصغيرة التي مر بها قبل وقوع الحادث ، رواية تنفرد بالحوارات القصيرة المشوقة التي تتخللها مفاجئات غير متوقعة .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الفصل الأول

 

 

من حين لآخر يتوارى الضوء للحظات ، كأن أحدا يمشي أمام المصباح. ربما تكون العربات! نظرإلى الزاوية الأخرى ، إلى الطريق  الذي يتولى حراسته  ، لكن لم يستطع أن يميزه : شعر كما لوأن الظلام يضغط على عينيه ، ولكن لليسار في الطريق الكبير المؤدي إلى فيينا ، تتأرجح  بإضطراب صفوف من المصابيح  . حيث لاح الضوء من مسافة بعيدة أشبه بسجادة تلمع  مقابل السحب المطرية العميقة المنخفضة التي كانت ماثلة للعيان  . نظر وارنيف من جديد  بحدة إلى يسار النافذة ، حيث وجد الباب ،  ثبت مسدسه في  شجرة ،  وغرز يده في بطانة  الزاوية الأخرى من معطفه الثقيل وفتش في جيوب بنطلونه .  تناول سيجارة طويلة  من العلبة، ضغطها مرتين  مع بعضها عموديا أثناء ذلك طوى المبسم الكارتوني للعلبة . بعد ذلك  فتح الزرين العلويين لمعطفه  ، عدل من ياقته  , أرخى رأسه ، في حين ذلك جذب ذراعيه ثم سقط بعمق .

 

محترسا نظر أيضا هنيهة إلى  مركز بريد الحراسة ، ثم إنتفض برجفة مفاجئة ، شعور  كئيب بأن عود الثقاب الملتهب و الأقل إنبهارا سوف يشتعل ، عبر ذلك أضيئ وجهه النامي الخشن ، بعينان زرقاوين سحب هنيهة  نفسا عميقا من سيجارته ثم نفخ مجددا الدخان من عود الثقاب ، ثم إحتوى سريعا النقطة المشتعلة ونظر للخلف ، لكن يبدو بأن أحد لم يلاحظ  شيئا . وضع وارنيف المسدس  بين قدميه  وإستند بظهره إلىالمكتب خلف الشجرة . بإستراحات متقطعة  بين الحين والآخر،  كان يضع السيجارة في فمه ، ينفث الدخان غريزيا في النقطة الضوئية الحمراء ، شعر بدون وعي بأنه إذا  لم يتأملها ، بالتالي لن يجربها .

 

من حين لآخر يتناول المزمار من سيارته ثم يبوق في الطريق، في ليلة دافئة من ليالي  حزيران القائظة الساكنة . لكن وارنيف كان سعيدا لأن لديه معطفا ومتأكدا بأنها ستمطرعاجلا أم آجلا  ، حاول أن يستوعب الموقف الآني ، بإنتفاضات غدوة ورواحا  ، كما لو أنه لن يستطيع الإستلقاء في هذا الظلام المطبق  ، باحثا أيضا عن اللمعان المفقود ,  يلتف بين لحظة وأخرى صوب نقطة الحراسة ،  ليتأكد قليلا بأنه لايوجد أحد ينظر إليه ،  لكن بشعور حالم كي يتأكد من أنه لازال يستطيع الرؤية  ولن يصبح أعمى فجأة  .

 

 مطوقا بتلك الأجواء المريبة أخذ يرنم  بدون إنقطاع  المقاطع الأولى من أغنية محببة إلى قلبه ، في تلك اللحظات كان يغني مع نفسه بتنهيدة كاملة  ذهابا وإيابا كانت أغنية تعبر عن الإشتياق والوله ، يغني  مع الشمس  الغاربة  والخطوات العريضة العميقة بأسرارها المبهمة ، و البلاد التي تربض في نهايتها ... بلاد الأحلام: الطهارة والطيبة والعشق فقط .  فكر بالمنزل ، في ينوتافيسك ، بعمق في روسيا ، عندما كان شابا يافعا  وسمع للمرة الأولى : فيودور فاسيلفيتش أباه وآنا أليكوفانا أمه ،  وجميع رفقاء القرية في الأماسي الصيفية الدافئة يغنون ، ببطء  وقوة مثلما هي الحياة .  وكيف غنى فيما بعد خلف الفريق  ، يصرخ أحيانا بفورة مشاعر مفاجئة  . وكيف  تعرف لاحقا على  نتاليا مياوفا  ، التي أصبحت زوجته فيما بعد بينما كان خارجا من مدرسته في كازان  ، لدى عودته من منزل عمه الذي كان يقطن هناك .

 

في بادئ الأمر غنى مقطعا  كاملا  وفيما بعد عند البلدة المجاورة غنى المقطع  التالي  وهكذا تواليك حتى أكمل الأغنية كلها .  سمعه شابين أحدهما في السابعة والثاني في الخامسة من عمره، فكر كيف غنى في سيارة حكومية ،  عندما إندلعت  الحرب العالمية الثانية ،  وسارع للهروب مع الآخرين ، في الليلة المظلمة رأى وارنيف مجددا زوجته ، مثلما رآها للمرة الأخيرة قبل ستة أعوام خلت ، من مسافة بعيدة حاملا ، قصيرة جدا ، تلوح بوشاحها الأحمر  وكان مرغما على عدم البكاء . لكن ظلت عيناه تتحسسان عبر الظلمة ، فجأة غادرت الإبتسامة محياه  ، ضغط على فكيه عندما فكر بصديقه الملعون زوبراو ،  الذي كان يتعقبها دوما ، بعد مرور عام ، فيما إذا إستطاع العودة إلى المنزل ، كما وعده الرجال ،  حينها عندما سيرى زوبراو في منزله ، بالتأكيد سيقتله .

- في واقع الحال ، هل سيتمكن من فعل ذلك !

تساءل في نفسه . لم يقتل أحدا من قبل . تمكن من التغلب على رفقائه عندما نشب بينهم عراك للمرة الأولى ، كانوا قناصين مهرة ويتبولون في بناطيلهم خوفا، لكنهم في العراك الثاني تغلبوا عليه ،  كذلك في المرة الثالثة، مثل كل الجنود في كافة أرجاء العالم ، ماعدا صديق القلب شوباكوف  الذي فقده في لمح البصر . كان يصوب  أمام الرجال دائما،  حيث يحدد الهدف ثم يطلق الرصاص ، حتى يهرب الثاني من الخوف . أيضا كان يوجد دوما من يعارضه ويقف ضده ، في إحدى

المرات ساندته عائلة سياسية،  لكن ياترى لماذا  قتل زوبراو!

 

كان شجاعا جدا ، يعني لكمه عدة مرات  وإبتهج طويلا لأنه ظل متماسكا بشدة . ردد وارنيف مجددا أغنية  أخرى ، لكنه يتوقف فقط عندما ينفخ دخان سيجارته .

في سنوات الحرب الأربعة كان يغني كل ليلة تقريبا .  مثارا في البداية ، عندما إهتز مسار السكينة في حياتهم  وتشوش عبر التسارع المفاجئ  للزمن الذي كان ينقضي بسبب الحرب ، مكتئبا في طريق العودة في رحلة ما  ، عندما كان وقع الحرب في الصميم ، ومكتئبا في الغالب عندما حققوا النصر وأرادوا العودة للمنزل مجددا ، حيث يصعب التمييز بين الفوز والهزيمة . بالنسبة إليه ظل  شيئ واحد : الحرب أصبحت بعيدة عن منزله .

 

 حاليا إنقضت الحرب قبل عامين ولايزال هنا مجددا في هذا المكان ، عندما كلف مهمة مراقبة الشارع المحاذي للطريق السريع للسيارات ، من فيينا إلى براتسلافا وضرورة إعتراض أي شخص يحاول إختراقه لأي سبب من الأسباب . حصل على وعود كثيرة  بمغادرته ذلك المكان وعودته إلى  المنزل بعد إنقضاء ستة أشهر ، لكن ليست هي المرة الأولى التي يعده فيها المسؤولين بذلك ، ولم يتم تنفيذ الأمر مطلفا ،يبدو بأن لامناص من بقائه في تلك البقعة ، رحل شركاء القدر والظروف تقريبا . لكن تلك المرة وعده الرجال و لن يقف حائلا في طريقه .

 

سوف نرى ، تنهد وارنيف  ثم سحب  سيجارته ، إنشغل بمضغ بقايا ورقة اللف في فمه . الأمر مفروغ منه ، فكر هو . هل يدخن سيجارة جديدة! نظر إلى  منزله الذي يسكن فيه ،  كان كل شيئ ساكنا تقريبا ،  يبدو بأنهم تركوا النافذة مفتوحة ، لأن علامة التقاطع إختفت .  فتش مسرعا في جيبه عن سيجارة جديدة كي يشعلها  من السيجارة القديمة ولايعود لإشعال عود الثقاب مجددا  بسيجارة جديدة في فمه  إستند مجددا بالشجرة . بدأ  يشعر بقدميه ، يستطيع الذهاب للإستلقاء! لكن لن يطول الأمر وسيتحرك من مكانه .

 

 عبر طنين السكينة ، لم يلحظ وجود سيارة مارة ،  ضحكات خفيفة متلاشية ثم إلتف حوله :  ظلال سريعة تومض خلف النافذة المضيئة غدوة ورواحا . ربما تكون مجموعة من النسوة ، فكر هو ،  أنا هنا في الظلمة أنتظر ، فكر مجددا بغريتلر الأسبوع الماضي ، تلك الفتاة النمساوية .... نتاليا ، زوجته ؟  لو أنه عرف؟  ربما سيقول شيئا لزوبراو !  نفخ دخان سيجارته في النقطة الحمراء المطفأة غير صبورا ، كي تلتهب . بعد مرور ثواني قليلة ، تخلص من تلك الأفكار . أصبح متيقظا من خشخشة خفيفة في أوراق الأشجار أعلاه ، ثم أخذت تمطر . اللعنة ،  لاتوجد إستراحة هنا !

 

عدل ياقته للأعلى ، بللت أولى قطرات المطر المتساقطة من الأوراق وجهه  للأسفل ، لاحقا أكثر وأكثر . هبت ريح هادئة ومن مسافة بعيدة أصبح صوت نغمة صماء مسموعا ، بينما أضيئت السماء من جميع الزوايا . فجأة مزق  البرق الملتوي الذي يسبق العاصفة الهواء من فوقه ، متباعدا عن بعضه .في نفس اللحظة ،  هبت ريح شديدة على البلاد ، مرة أخرى جلجلت أصوات طقطقات عالية وإحتكاكات متتالية ناتجة عن موجات رعدية قاسية ، كانت تسري طوليا بصفة مستمرة ، مرارا وتكرارا بإهتزازات وفرقعات سريعة.

 

في القطرات الكثيفة المنتشرة  المتساقطة ،  كان المطر يخشخش للأسفل . عبر الهواء البارد لضوء البرق رأى وارنيف في لحظة زمنية منظرا طبيعيا مميزا . بفترات زمنية متقطعة إنشطر البرق في السماء ، أضاء الأرض من جميع الزوايا كان الرعد يدمدم ، إنعدمت السكينة،  وقف وارنيف في وسط المطر  ،بقي وجهه الضاحك  مركزا للأعلى  وترك  المياه  تتدفق من حوله . كانت  سيجارته تبدو واضحة المعالم عبر قطرات المياه  ، ألقاها بعيدا وهي مبتلة بعيدا  .

 

فجأة نظر جانبا . ظن بأنه سمع صوت الموتور . إستمع بحدة ...لا ،  لقد  إبتعد ،  ماعدا مياه المطر المنسكبة وفرقعات الرعد البطيئة أصبحت مسموعة ... مجددا في تلك اللحظات كان الصوت هناك  جليا . بطبيعة الحال عادت سيارات الشحن التي مضت قبل عدة ساعات  محملة بالعتاد الحربي ... إقترب الصوت . تناول وارنيف مسدسه الذي كان لايزال  على الشجرة  ومشى بإتجاه الطريق . لم يستطع أن يميز شيئا ، تمنى أن يسعفه البرق ، لأنه في تلك اللحظات كان بحاجة ماسة له ، لكنه بقي بطبيعة الحال في الخارج ، لم يرى سوى  نافذة مكتب البريد الذي أغلقه الرجال مرة أخرى ، لليسار يظهر صف من المصابيح  وهي ترسل في تلك اللحظات  لمعانا طويلا .

 

أصبح ضجيج الموتور أكثر حدة  وبعد مرور لحظات زمنية قصيرة و بفعل  مياه المطر المتساقطة، دنت ببطء إثنان من المصابيح الرأسية ، مشى وارنيف  بحذر  وفي نفس اللحظة  توقفت سيارة إتخذت موضع الإلتفاف . قطب وارنيف حاجبيه، جهز مسدسه  ووضع إصبعه  على الزناد.  أي نوع من البشر كانوا ، هل رأوه وهل كان ضميرهم حيا ؟ فجأة ، بينما كانت العربات واقفة عرضيا في الطريق ، لاح الضوء من مركز بريد الإنتظار، عبر النوافذ الجانبية للسيارة  في لحظة زمنية رأى وارنيف بوضوح رجلا واحدا بداخلها ، جلس مثل الشبح خلف المقود .عادت جميع الشاحنات . حاول وارنيف قراءة ماهو مكتوب على اللوحة المعدنية ، أضيئ الأحمر الخاطف بفعل المصابيح الخلفية ، لكن لم يستطع أن يميز هل كان روسيا؟

 

مشى مسرعا حتى وصل إلى منتصف الطريق ، بأقصى مايستطيع  لمح وميض البرق ثم رأى بوضوح حرف 'جي' . ظل وارنيف واقفا . ظهرت السيارة  بعجلة محشورة داخل حفرة طينية، كان الموتور يطلق أصواتا حادة . تشاور وارنيف مع نفسه ، حول ماهية مايفعله في اللحظات المقبلة ، أولا قرر إطلاق رصاصة تحذيرية ، على الرغم من أنه تلقى الأوامر بإطلاق الرصاص فورا . وجه مسار مسدسه للأعلى  ثم أطلقه ، لكن الرصاصة  إرتشفت  عبر الرعد المرتخي . ذلك لم يسمعه  مطلقا ، فكر وارنيف .  جلس في السيارة  التي أخذت تتحرك ببطء . توجه  مترا واحدا لأعلى الضوء الخلفي من ناحية اليمين. إبتسم إبتسامة عريضة ، لدى تفكيرة بطبيعة وجه سائق المركبة ، إذا ما دفع فجأة أمام وخلف العمود  لليمين بفعل الرصاصة المطلقة .

-  أطلق وارنيف الرصاص .

-  ضحك ،  في واقع الحال يبدو بأن الرجل إرتعب بشدة ، لأنه  ضغط على دواسة البنزين  من شدة الرعب ، بأقصى ما يستطيع ، كي ينطلق الموتور بسرعة ، لكنه رفع قدمه فجأة مبتعدا ، ثم إنحسر الصوت سريعا . بعد أن تلاشت الزمجرات  الأخيرة للموتور ، لف السكون الأجواء، و لمعت الأضواء الخلفية بهدوء . بحاجبين مقطبين وقف وارنيف لحظات من الزمن في الظلمة محدقا بالسيارة، حيث كان بمقدوره رؤية جزء من السطح الذي كان بارزا قبالة النافذة المضيئة.

-  أصبح المطر أقل حدة .

 ليس من المستحسن معرفة ماسيفعله ، مشى وارنيف  ببطء إلى العربة ، كان من  الصعوبة المرور بفعل الأرض المنزلقة . يجب أن يقترب الآن  أكثر ، إنحنى

مجددا محاولا إقتناص  السيارة من خلال ضوء النافذة . نعم ، هناك تربض شاحنة منخفضة ، من المحتمل سيارة شخصية . تحسس مسدسه من الخارج  وبعد مرور ثواني  قليلة  لكزه بالمعدن . ومسدسه على أهبة الإستعداد  ظل وارنيف واقفا . شعر  بقلق  غير مريح . مثلما الرجل الذئب الملعون ،الذي  أطلق الرصاص للفور على رأسه ،  تمنى أن يترك مخزن الذخيرة يتطاير في الهواء ، وليس مرتكزا بإحكام  في مرصد الإنتظار . هراء طفل صغير يعلم جيدا بأن حارس الدروع  يقف في مخزن  الذخيرة .

 

حبس وارنيف أنفاسه وأنصت  بفم مفتوح  فيما إذا سمع شيئا ، كان كل شئ ساكنا ، ماعدا زخات المطر التي كانت تتساقط بخفة وهدوء .من المحتمل أن يموت في أي لحظة ، قال مع نفسه ، أطلق الرصاص تحديدا بإتجاه اليمين ! عندئذ في آن واحد ، شعر بأن الدموع تغلي في رأسه :  حرف جي  : سيارة إنجليزية ،  المقود لليمين ! لهث وارنيف .

-الرجل مات!  أصابه تحديدا في رأسه !

مرتجفا إنحنى وارنيف و تحسس الباب وهو منكفأ ، لكنه عمل مستحيل في ذلك الظلام الملعون . مشى بحذر  حول العربة غدوة ، وبقي بإتجاه المربع المتقاطع .  بكامل طوله ، سقط في بركة مياه ، وقف مباشرة مجددا وركض للأمام ملطخا ، أراد أن يندفع  إلى المنزل ، لكن الباب كان مقفلا . بمقبض مسدسه، ضرب يده بشدة . صراخ الرجال وأصوات النسوة الخائفات ، يجلجل في الداخل . بعد مرور دقيقة واحدة، أثناء ذلك لم يتوقف وارنيف عن  الإرتطام بالباب  الخشبي ، الذي فتح بواسط الرقيب كوباشيف .

-ماذا في الأمر ، اللعنة؟  سأله بغضب ، بينما  كان يزرر بدلته الرسمية .

لاهثا  وباحثا عن الكلمات  أخبره وارنيف بماحدث بالضبط . -

لحظة ، قال كوباشيف ومشى مسرعا إلى الداخل . بعد هنيهة وصل  مع أربعة جنود ، مع كل واحد مصباح جيب ثم توجهوا بأنفسهم ، تحدق خلفهم  عيون خمسة من النسوة بالمربع المضيئ في الطريق .لديك بالتأكيد مصباح ‍‍‍ ، دمدم  كوباشيف بغضب عبر الإنتقال المفاجئ إلى الهواء الخارجي الرطب . مندهشا تذكر وارنيف حزمات الضوء الحادة إنزلقت فوق العربات المبتلة .

 

إنها ليست سيارة عسكرية ، قال كوباشيف وفتح الباب الأيسر . بعينين كبيرتين نظر وارنيف حول ذراعه . عض شفته السفلى :  بدون مقود ،  من الباب الآخر سحب الجنود الجثة الهامدة للرجل المدني . أحدهم مزق قميصه فاتحا ووضع يده على قلبه .

  ميتة مورس ، قال هو.-

أوه ياإلهي ، لهث وارنيف ، ماذا عساي فاعلا ؟ نظر إلى كورباشيف بعينين كبيرتين .

سحبه كوباشيف جانبا  وتسلق السيارة . إفترض ، بأن ذلك لم يحدث ، يافتى . هل هي المرة الأولى التي تصرع فيها أحدا بالرصاص ؟

-  أراد وارنيف الأيماء ، لكنه حبس نفسه .

-  حسنا ، هل هي المرة الأولى؟ صرخ كوباشيف. ونظر إليه ، بينما جلس على المقعد الأمامي  بقدم  خارج السيارة .

-  حرك وارنيف رأسه .

لاتتبرم إذن ، قال هو وبحث  في الجيوب والأدراج  عن الأوراق . أحضر رجلك للداخل .

مشى وارنيف ببطء  حول السيارة  ووضع الرجل الإنجليزي فوق ظهره.  مضاءا من قبل أحد الجنود، حمل الميت الثقيل الوزن متوجها إلى بريد الإنتظار .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

                                       الفصل الثاني

 

 

 قتل رجل بريطاني في النمسا

بينما كان يقود سيارته في طريق محظور

 

إلى جميع القادة الوطنيين الأحرار في النمسا،  قتل السيد ديسموند ليسلي ،  مساء البارحة  في سيارته،  بينما كان متجها في الطريق من براتسلافا إلى فيينا.

 

في بيان إعلامي  صادر عن القسم النمساوي للشؤون المحلية :  من الواضح بأن السيد ليسلي قد ظل وجهته وعندما إلتف  بسيارته  محاولا العثور على الطريق ،  قتل بواسطة أحد رجال حرس الدروع . إثر  حالة التشويش والإرباك  التي نجمت عن حالة الطقس المتردية الهائجة فوق حدود النمسا،  و يبدو بأن السيد ليسلي لم يسمع إشارة الإنذار التي أطلقها أحد رجال الدروع من مسدسه .

 

وزارة الشؤون المحليةالبريطانية أوكلت لرجل إنجليزي خبير في حل القضايا المعقدة ، القيام بتحقيق في فيينا  حول  حادثة القتل .  السلطات العسكرية الروسية صرحت بدورها، بأن الطريق المقصود تم إغلاقه من قبلهم أمام حركة المرور المدنية . السيد ليسلي كان أحد قادة الحزب البريطاني المحافظ.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الفصل الثالث

 

متعثرا بين جذوع الأشجار  سلك وارنيف التلال  وهو مطاردا . متوقفا مرة تلو الأخرى ، نظر من الخلف متحديا ، وبينما  تجاوز التلال  تقريبا  ، إستدار  بانعطافة مفاجئة  خلف شجرة ضخمة . إنطلق  وارنيف خلال رحلته مثل الريح  عدة أمتار للأمام،  لكنه إستدار مباشرة  محاولا  التقاط أنفاسه ، حرص بمهارة بأن تظل الشجرة في المنتصف .

إنتظر ، سوف أنال منك ‍‍‍....... ضحك وطاردها مرة أخرى  ثم  ولت الأدبار  مجددا .  تنورتها  الملونة ترفرف  أسفل مشيتها عاليا ، تاركة خلفها سيقان جميلة قوية . حبس وارنيف أنفاسه  ولكن عبر بسطاله الأسود  لم يتبقى له  وميض أمل . في نهاية المطاف ظل مبتهجا وهو واقفا   وإتكأ قبالة  عمود  بلوحة كتب عليها  " سمولانيز" .  لاهثا ترك وارنيف  العنان لقدميه تسقطان فوق الأعشاب ، إستلقت بالقرب منه ثم وضع صدره فوق صدرها .

 -  هل تستطيعين التنفس قليلا؟ سألها ثم نظر اليها . يبدو صدرك أشبه بدنو عاصفة

-  ضحك وارنيف ، ثم وضع  إحدى يديه  أسفل رأسها  والأخرى على رقبتها .

هل  بذلت أقصى ما في وسعك ؟-  

-  هل أنت جندي ؟ يجب أن تشعر بالعار  .

إتجهت نحوه مسرعة ثم دغدغته . بصوت حنجرة خائف تأرجح جسد وارنيف ثم إرتج  أسفل أصابعها المنقبضة .إبتعدي ، كاتنيكا ، إبتعدي شهق ثم أطلق ضحكة  وهو حائر،  بانتفاضة شديدة  جيئة وذهابا .لم تتمكن من عدم رؤية  النجاح الذي يتمتع به . في نهاية المطاف  جذب وارنيف يديها ثم طوقها بشدة . أنظر الآن إلى ما فعلت ، قال ذلك  ثم أشار برأسه الى المحتوى المتناثر لجيبيه .

 نظر  من حوله ضاحكا .... .تعال ، قال لها سوف نلتقي.... لا ، دعني مرتاحة البال ، لن أفعل شيئا آخر . بينما كان يبحث عن سجائره ، مفاتيحه وأوراقه . رتب وارنيف من بدلته الرسمية ، قميصه يتدلى فوق بنطلونه بينما تتدلى ربطة عنقه فوق صدره .

-  ماهذا ؟ سألته كاتنيكا  ثم مسكت قصاصة ورقية  للأعلى .

-  أعطني تلك القصاصة ، قال وارنيف بسرعة ثم غرز يده للخارج .

-  وضعت كاتنيكا  القصاصة خلف ظهرها .

-  قولي أولا :ما تكون تلك القصاصة التي بيدك ! ‍‍‍‍

-  تعالي ، كاتنيكا ، لاشيئ ....على الأقل لاشيئ  يهمك .

-  شد يده  قبل أن يمدها.

-  سألها ضاحكا.

-  هل تريدين قول شيئ !

وقف وارنيف ، أراد أن يؤخذ منها القصاصة ، لكنها ركضت مسرعة .  لم يتبعها و ذهب  ليجلس ، أشعل سيجارة ، نظر اليها كيف تركض عدة مترات للأمام . عادت مرة أخرى وأعطته الورقة بملامح تنم عن الجدية.

 لماذا قصصت تلك الورقة ؟ هل الأمر يتعلق بك ؟   -

-  وضع وارنيف القصاصة في محفظة الجيب ثم  أغلق جيب صدره  .

-  نعم ، قال هو ، الأمر يتعلق بي .

-  جاءت لتجلس بقربه  ثم وضعت ذراعها حول  ذراعيه.

-  هيا أخبرني يا نيكولاي .

-  نظر اليها وارنيف وهو يسمع نغمة صوتها الهادئة . إستدار بانتفاضة شديدة  ثم ذهب ليستلقي على بطنه ؟

لماذا يجب علي إخبارك  ؟ قال ذلك ثم تطلع كيف يلف ورقة نجيل  حول إصبعه ، ماذا ستستفيد  إن أخبرتك ؟ جذب ورقة النجيل  من الأرض  ثم شطرها بأظافره طوليا الى نصفين . أنظري كم الجو جميل ، فجأة قال ذلك ثم إستدار نصف دورة  ، كي يستلقي على ظهره مقابل كاتينكا . الجو هنا ليس مناسب  للحديث عن الموت ، نظر بعيون متراقصة  في الأزرق القاتم . أنظري هناك ، هل يكون هذا البلشون طائر مالك الحزين . ؟

 أدرات كاتنيكا رأسها  الى الطائر المحلق البهي ،عندئذ نظرت مرة أخرى الى وجه وارنيف الجدي .  داعبت خصلات شعره الأشقر الفاتح الجاف .

-  نيكولاي؟

-  نظر اليها.

-  هل لك أن تخبرني بماحدث بالضبط ؟

سوى وارنيف أسنانه حول شفته السفلى . ثم نظر مرة أخرى الى طائر مالك الحزين ، الذي يبدو بعيدا عن المرآى الآن . أنت تتلعثم بالتأكيد ،  ثم ظل ينظر الى الطائر ،  تم نقلي قبل أسبوعين من النمسا الى هنا؟

 أومأت كاتنيكا ،  على الرغم من أنه لم ينظر اليها

 كان ذلك بعد مرور يومين من مقتل الرجل .

-  إذن.. إذن ، بدأت كاتنيكا بعينين محدقتين تتلعثم ، أنت إذن الرجل المقصود بالمقالة المنشورة ؟

-  أحنى وارنيف رأسه .

-  بشدة ؟

-  لكن ، كنت تؤدي واجبك ، أليس هذا صحيحا؟

-  هناك كنت تؤدي واجبك كي تطلق الرصاص على ذلك الشخص ؟

-  مجددا أحنى وارنيف رأسه ,

-  بالطبع ، بالطبع .

إقتربت منه كاتنيكا كي تستلقي ثم وضعت خدها على خده .  هل كنت متورطا لأبعد الحدود'؟

-  أنا جندي ، قال وارنيف ثم ضحك بأسى .

-  إستدارت كاتنيكا ، وسحبت رأسه بين يديها .

بالنسبة لي ليس ضروريا أن تلعب دورا كوميديا .  هل كنت متورطا ؟

-  جذب وارنيف رأسه نحوها ثم قبلها .

أنت لطيف ،  قالت كاتنيكا . نعم .... كنت متورطا . نظر إليها  عبر السهل الممتد ،  هناك  يبدو صغيرا جدا ، مندفعا غير مرئيا ، عبر الغلاف الضوئي ينهال  توجد هناك في المسافات المنتظمة ، ثلاثة قرى خصوصا في البداية . على الرغم من أنني شاركت في حروب كثيرة  لم أقتل أحدا قط ،بعد مرور يومين على الحادثة كنت منهارا تماما ،  توقفت عن الكلام ،  والتفكير .  في الليالي اللاحقة ، وقفت في نفس مكان الحراسة ، قطب وارنيف  حاجبيه ، مثلما  سيارة تزمر في الطريق الكبير ،أصبت بالرعب مثل..أعني ..  .

-  إتجهت كاتينكا  نحو لسانه المنسحب الحاد.

ولكن تم نقلي آنذاك الى هنا ، حمدا لله ،  والا كت لن أتحمل . فجأة نظر نحو كاتنيكا  ثم سألها :هنل تعتقدين بأنني أتصرف مثل الأطفال ؟

 بطبيعة الحال لاأقصد ذلك ، نيكولاى ، قالت كاتنيكا  وهي تتنهد وقبلته  في جبهته  ، على العكس من ذلك لاتعرف كم أنت لطيف . شخص آخر سوف يتباهى فخورا بهذا العمل  وأنت خائف لما فعلت . بينما  كانت الدموع تتدفق من عينيها ، إقتربت منه ثم إحتضنته بشدة هل زالت تلك الحادثة تشغل بالك؟

-  ترك وارنيف يده تنزلق فوق شعرها الأسود البني .

ليس أبعد من ذلك . عندما وصلت إلى هنا ، تبين لي عبر تلك المسافة ، من ذلك المكان الذي وصلت اليه ،  ثم حدثت الكثير من الأمور،  تمنيت أن تتلاشى .منذ اليوم الأول لوصولي تولعت بالمكان  ، ماحدث هناك  لم أرتكبه عن قصد ،  فعلته أثناء الواجب ، فعلته لوحدي ، ومافعلته سوى الواجب .  وهنا إختفى  تأنيب الضمير بداخلي  ، على أي حال صدقيني . ولكن عندما  رأيت تلك الورقة ، فجأة أصبحت جادا ' قالت كاتنيكا ، ' تغير وجهك كلية '  فجأة ضحكت  . '  هل تعلم ماذا فكرت في بادئ الأمر ' ؟  بأنه إعلان مطاردة أو ماشابه '  بعينيها الضاحكة نظرت إليه بشيئ من الخجل .

-  إبتسم وارنيف .

-  اعلان مطاردة . لا ، ليس اعلان مطاردة '

-  بالتأكيد لاتعرف فتاة غيري ، أليس كذلك نيكولاي ؟

-  ثم طبع قبلة  على عينيها .

لا يا عزيزتي كاتينوشكا ، ليس عندي سواك.

لكن الآن أخبرني  ، لماذا شعرت بالخوف عندما رأيت تلك الصحيفة ؟

لأنني  إذا تذكرت فجأة ، كذلك عندما يتحدث معي رفاقي ، يخامرني شعور  ، كما لو أنني فجأة سقطت في دلو.ضحك . '  الآن قلت ذلك، يجب أن أفكر  بشيئ  إرتكبته وأنا شاب صغير ، سوف أخبرك ؟

-  أومأت كاتنيكا .

' لكنها ليست قصة مبهجة ، هل سمعت ،كنت حينذاك في المرحلة الدراسية الأولى ، لاأتذكرتحديدا في السنة الأولىأو السابعة  ، وقع حادث لرفيقي بالمدرسة عند المقبرة، دهسته سيارة مارة ، كان جميع الأطفال حاضرين . بعدذلك في منزل يقع قرب مدافن الكنيسة،  كان جميع الناس المتوقع حضورهم  مشغولين بالحديث عند التابوت  ، يواسون بعضهم البعض ، لأن الصغير 'هايبوليست'  كان في الحقيقة طفلا إستثنائيا . تم حمل التابوت  ببطء الى الحفرة . كانت حفرة كبيرة، لأنه كان قبرا عائليا ، وضع حفاري القبور التابوت عرضيا بين قضيبين  ، أما الفتحات  التي تحيط بالقبر فقد تمت تغطيتها بالزهور وشجيرات خضراء، الأب المفجوع  لم يقل شيئا ، بعد ذلك بوجه مفعم بالدموع نثرت أمه الورود  على التابوت ، لاحقا  الأب ثم قدم ولده الصغير  حاملا حزمة من الورود.  ربما كان لايريد إلقائها على التابوت مثل أبويه ،  لكنه وضعها برفق ، لا أعلم شيئا ، تقدم  بعيدا للأمام  والورود على القبر سقط على العشب . فجأة توارى عن الأنظار . هرب مسرعا بحيث لم يفهم أحد ماحدث حقيقة بالضبط . لكن عندما سمع صوت طقطقة التوابيت   حيث وصل ، تبعته صرخة مكتومة ، في الخارج  إنتشر الهلع .  صرخ الجميع ، البعض من النسوة  سقطن على ركبهن وأحواضهن ، زملاء الدراسة  فقدوا الوعي ربما أخذوا يحدقون  بإستغراب في الحفرة ، البعض قهقه ضاحكا . نظرت الأم  بعينين غير مدركتين حولها ثم رددت بتواصل : العلامة ، علامة !

كان الموقف مخيفا  قدماي ترتجفان ، في نهاية المطاف  قفز الأب  تبعته طقطقة كذلك من داخل  القبر ثم وضع إبنه ، في غضون ذلك  سقط و ظهر كجثة عند الزاوية . حينئذ خرج مجددا من القبر ،  بلحظة عفا عنيها الزمن وسلف ، ألقيت بدوري نظرة عشوائية على الحفرة  ،عندذلك رأيت هايبوليت مجددا ، لأن تابوته كان  من خشب النار الرخيص الثمن .

-' بالطبع حدث ، لاأحكي لك خرافات .'

-  إرتجفت كاتنيكا .

-  في شهر يوليو في روسيا تحدث دائما أشياء غريبة .

-  ضحك وارنيف بشدة .

-  أعتقد بأنك في تشيكوسلوفاكيا ربما ستسقطين في قبر ما .

-  نعم .. بالطبع بالإمكان حدوث ذلك . ولكن ليس بواسطة الزهور ، هذا مرعب ، هذا فقط في روسيا .

-  تبدل وجه وارنيف ثم حدق متمعنا  بالأرض .

 عندنا تستطيع بواسطة الزهور أن تنهض من إحدى القبور ، بنغمة غريبة فكر مليا ، ' عندنا يحدث نفس الأمر'.

تعال ،  دعنا نتوقف عن التفكير ، قالت كاتنيكا ثم نهضت واقفة . الوقت متأخر يجب أن أعود الى المنزل .

بجدية غرز يديه  ثم جذبته . خفقت ملابسهما  ثم مشيا  بهدوء ، يتأبطان ذراعي بعضهما البعض ، بموازاة الغابة  عائدان الى المدينة . بعد مرور فترة من الزمن ماشيان بصمت ، سألها وارنيف فجأة : لماذا تعتقدين بأنني ربما أنتقل ؟

-  نظر باتجاه كاتنيكا . لاأعلم . ماذا تقصد؟  ذلك يحدث مرات عديدة ؟

-  نعم بطبيعة الحال .  ولكن كنت الشخص الوحيد كذلك رفقائي  .

متخيلا حدق نحو الأسفل ، إلى مقدمة بسطاله الجلدي الذي كان مائلا ومنزلقا  للأمام بصورة  متباينة ، فجأة  بدون أن يفهم  داهمه شعور بأنه لم يعد يمشي على الأرض  ولكن كما لو

أنها جذبته للأسفل  ،  قدميه فقط لاتتحركان .

عند الثكنة العسكرية التي تقع عند حافة المدينة ودع كلا منهما الآخر .

-  متى أراك مجددا ؟ سألها وارنيف  ثم شد يدها بقوة .

-  بثنية صغيرة  بين عينيها  نظرت الى الحفرة بين أحجار السياج ، كان يمشي مثل حيوان صغير فوق طبقة الإسمنت . نظرت مجددا ، اليوم هو الثلاثاء ، غدا هو الأربعاء  يجب أن أعود الى المدينة  لأشتري شيئا .

الخميس.. الخميس ليس لدي شيئ أفعله ...أوه نعم بالتأكيد :  يجب أن أساعد أبي بفلاحة الأرض  والجمعة هو يوم النظافة العالمي. ثم يأتي السبت ؟ نعم ،  ليس لدي شيئ أفعله ، حبيبتي . لحظة هل تعلم؟ دعنا نتمشى مبكرا صباح يوم الجمعة  ، وننظر الى غروب الشمس ثم أعود الى المنزل في الوقت المحدد من أجل القيام بمهمة التنظيف .

مسرعا ، رافضا وغير رافضا سأل وارنيف نفسه حول كم الفرص المتاحة  للخروج مبكرا . على إمتداد سلم الحريق الذي لم يغلق في غرفة العلية ، ربما يفلح .

-  حسنا ، قال هو . متى وأين ؟

-  في الساعة الرابعة سنلتقي ! سحبت يدها  ثم ركضت مسرعة .

-  ظل وارنيف  واقفاعند بوابة الدخول ثم لوح لها بالقرب .

 في الساعة الرابعة  حيث نلتقي ، ردد هو مع نفسه عاليا . إنها لطيفة ، عزيزتي كاتينكا ، فكر هو .

-  نيكولاي ! في الميدان نادى عليه شخص .

عندما إستدار وارنيف ، رآى شوباكوف صديقه المختفي الذي إنعطف باتجاهه . أشار موضحا  بأنه وصل ثم نظر مجددا  الى كاتنيكا ، التي إختفت بين الأشجار . معبرا قفزت  للأعلى ثم لوحت بيديها ، عند هبوطها إنتفخ فستانها  مثل مظلة باراشوت ، كذلك رأى من تلك المسافة   قدميها البنيتان الجميلتان . رد على تحيتها الأخيرة ثم مشى وسط الطريق .

-  هل تأتي لحظة لمقابلة  الرائد ، قال شوباكوف .

-  عند الرائد ؟ ماذا يريد مني؟

لاأعلم بالتحديد ، قال شوباكوف ,  يوجد شخص معه ، هناك تقف سيارته .  أشار شوباكوف الى عربة مصفحة مطلية باللون الأخضر . التي كانت واقفة أمام الباب بينما إستند السائق العسكري  باتجاه الباب يدخن سيجارة.

.-  هكذا إذن أنا موافق سوف أصغي اليك وأذهب  ، قال وارنيف

ذهب الى الداخل، ثم مشى على السلم باتجاه الممرات . بالتأكيد  لايحمل عصا السلطة .  بضمير نقي وشعور غير مستحب ، طرق الباب .

-  أدخل !نادى صوت الرائد الأجش .

فتح وارنيف الباب وهو في حالة وقوف، خلف طاولة الكتابة جلس الرائد البؤري البدين يمضغ سيجارة  على الكرسي، يجلس قبالته ملازم شاب بشعر أسود وقدمين طويلتان منبسطتان. نظرا اليه سويا .آه ، هذا هو إذن ، قال الرائد  ثم وقف الملازم أيضا ، كان وجهه ينم عن أمر بالغ الخطورة . رفيقي الجندي نيكولاي فيودوروفيتش وارنيف ؟ سأله.

-  نعم ، رفيقي الملازم ، قال  وارنيف بظرف .

-  تلقيت الأوامر بالقاء القبض عليك .

  

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الفصل الرابع

 

 

برفق تتهادى العربات للأعلى ولأسفل . لليسار عند الأفق  تربض ثلاثة قرى ، تبعد عن بعضها بمسافات متسقة ، الآن إنخفضت الشمس  وإختفى الظل خلف السحب الرقيقة ، التي تلونت بالأحمر الأرجواني ،  وأصبح من السهولة تمييز الأبراج والمنازل ، إنعطف وارنيف بعينيه من وإلى، ثم نظر الى رقبة السائق الغليظة بشعر قصير متنامي . أول ما فكر فيه عندما طلب منه الملازم الشاب  هو :مرافقته فورا الى فيينا  ، الآن لن يتم الموعد المتفق مع كاتينكا !

-  في تلك اللحظات ماذا ستظن فيه !

' في حقيقة الأمر يجب أن أقيدك بالأصفاد' قال الملازم ، الذي كان جالسا  على الأريكة الخلفية بالقرب منه . أومأ وارنيف إيجابا مغادرا المكان المكان . عندئذ فكر ، بأنهما وقفا في وجه بعضهما مرات عديدة  ثم قال : 'أجل ، رفيقي الملازم' .

- فتش الملازم في جيوبه .

' نعم، شكليا  ليس من الضروري أن تقف في وجهي . أنا رفيقك بورنوف . سيجارة ؟

أخذها وارنيف من حافظة السجائر  التي يمسك بها بورنوف  وأعطاها له ثم أشعلها، تلك القضية تثير في نفسي الخوف والهلع ، قال بورنوف بوجه متذمر ثم نفخ الدخان من سيجارته  بمخروط رقيق من عند العربة . ببطء إندفع للأمام ، فجأة أصبح مشدودا بفعل قوة الدفع العكسي للهواء من نافذة مفتوحة ، كأنه جذاذة صغيرة مجذوبة للخارج .

-  نظر وارنيف من حوله .

ولكن ماذا حدث بالضبط؟ سأله هو . هل القضية إنتهت ؟  لقد فعلت ما أملاه علي الواجب !

نعم بطبيعة الحال،  وهذا هو البشع في الأمر  !

-  ماذا تقصد ؟ سأله وارنيف خائفا .

-  ' سوف أخبرك  . لقد حدث ذلك بعد نقلك بيومين .

-  أومأ وارنيف .

-  ' هل تعلم لماذا حدث ذلك ؟'

-  حرك وارنيف رأسه .

لأن أصحابنا في فيينا  يعلمون بأن تلك الحادثة ، فيما إذا نقلت لن تغلق أو تمر مرور الكرام ،

يريدون زوال الخطر وإخماده .

 -  هذا لم أفهمه .  أي خطرتقصد ؟  وكيف سيتم إخماده؟.

الآن إسمع جيدا ،  سوف أخبرك بالكامل .  في تلك المقالة  المنشورة بالجريدة ،

بأن إنجليزيا خبيرا بالقضايا المعقدة تلقى الأوامر في البحث بالقضية .  ولكن في حقيقة الأمر ليس البحث بعينه ،‍  كان ذلك الطريق يقود الى مكان العتاد الحربي وممنوع المرور فيه مسبقا ،  كل شيئ يسير على مايرام . كنت تحرس الطريق  و تلقى ذلك الرجل تعليمات تقضي بإطلاق النار على كل من تطأ قدمه الأرض  ، ، كل شيئ منتظم ، خصوصا  لأن اللوحة التي نصبت  في الطريق كانت تشير الى ذلك .  كما قلت سلفا ، بأنك أطلقت اشارة تحذير فقط .

على الرغم أنه  ليس ضروريا أن تقوم بذلك .

ولكن الأسوأ من ذلك ، وقع وارتيف في مربط الفرس ،  لم أود قتله، ‍عض شفته السفلى  ، يجب أن لا يتفوه بذلك ، يجب أن لايبوح بذلك أثناء إستجوابه ، خائفا كالمعتاد،  لهذا السبب سيؤنبه ضميره . لم تكن تنوي قتله؟ سأله بورنوف!

-  تردد وارنيف .

-  تعال ، قل شيئا ، سيكون الحديث بيننا فقط .

عندما لاحظت بأنه لم يسمع إشارة التحذير ، أردت عبر تلك الطلقة إثارة الرعب في جسده ولكنها بدلا من ذلك أصابته مقتلا .

كيف يكون ذلك محتملا ‍ إستند بورنوف  على الوسائد  ثم نظر عبر الزجاج الأمامي  الى الطريق.

-   اذن أنت مذنب مرتين .

بطبيعةالحال أنا مذنب ‍!  إستند وارنيف بانتفاضة شديدة منكفأ ونظر بعينين كبيرتين  الى بورنوف . هل  فكرت بالأمرجيدا ..... ولكن ما باليد حيلة .

إنتظر لحظة ،قال بورنوف . ' إصغي .  البريطاني المتخصص بالقضايا المعقدة  أخذ بعين الإعتبار كل تلك الأمور  ، بالمعرفة والإشارات نقل كل المعلومات إلى بريطانيا ، وبأن الأوضاع مستقرة . و سوف ينهي القضية . لكن  كما قلت مسبقا  يعلم أصحابنا جيدا تلك التفاصيل  ،لذلك أرسلوك الى هنا ، اذا لم يتعرفوا عليك هناك ، سوف ينسون تلك الحادثة وكأن شيئا لم يكن . ولكن حدث العكس  بعد مرور ثلاثة أيام على الحادثة ،  عندما غادرت للتو ، قدموا  وأخذوا القضية على محمل جدية .  ومنذ تلك العشية وحتى يومنا هذا والصحف مشغولة  بالقضية ، كلما طالت المدة ..كلما أصبحت أكثر غرابة ، لأن الفرصة سنحت لهم  لنشر جميع التفاصيل ، حسب رأيهم سيعوقنا ذلك  كانت تلك مقدمة رائعة ، لقد هولوا ماحدث  في جو سياسي محتدم  ثم صوروا ماحدث كأنه شيء مرعب .  ومنذ ذلك الحين يتذمرون ، يعتقدون بأن بمقدورنا  فعل الكثير  والتعهد بإجراء  بحث وتقصي  جديد ، على الرغم من ذلك ،  أكرر ذلك  لايوجد شيئ  للبحث .  قبل  ساعات عندما تلقيت الأوامر بضرورة جلبك إلى هنا ، سألت الجنرال  : بماذا يفكر . " مرعب..مرعب" قال مرددا، من المخيف أن يعاني الناس  ، لأنهم فقط يشتهون رؤية الدماء ، كما أخبرني  بأن رجل القضايا المعقدة الإنجليزي  ثم فكر مليا ، حشر بورنوف سيجارته بلا مبالاة  في المطفأة .

-  نظر إليه وارنيف بحاجبين مقطبين .

-  ولكن وسط كل هذا الخضم لم ألحظ شيئا ، قال ذلك بعد مرور برهة من الزمن .

لا بطبيعة الحال ، إن الصحف تقع تحت طائلة مسؤوليتنا  ومن المحظورلأتفه الأسباب الإشارة

 لردود الأفعال .

-  ظل وارنيف  ينظر إليه .

-  الآن ماذا سيحدث ؟

سيتم حجزك حتى تهدأ  الصحافة و الناس ، وإذا حدث ذلك ، سيتم إطلاق سراحك مجددا .

-  لم يحرك وارنيف ساكنا .

حدث ما حدث ، وارنيف ، قال  بورنوف ثم ضربه بذراعه ، يجب أن ننجح .  هل تعتقد بأن لابد من ذلك الحرمان المؤقت للحرية ، لتجنب حدوث مزيد من المشاكل . أومأ وارنيف ببطء ، ولكن ليس تعقيبا لما قاله بورنوف .

-  إذن  أنا كبش الفداء ، قال ذلك كأنه موجها الحديث لنفسه .

كبش الفداء ، كبش الفداء .... كرر بورنوف ثم توجه وارنيف نحوه .

 بالتأكيد  لاتستطيع إنكار ذلك ، بأنني كبش الفداء ؟ سأله بصوت خافت .  لقد قال اللواء للتو : وقعت علي الضربات ، أنا حجر السن  حيث يشحذون سكاكينهم ، أنا لازلت أتمتع بصحة جيدة  ، كقربان  سيتم تفتيته في مطاحنهم السياسية !

وضع بورنوف يده مضطربا  على ذراع وارنيف.

محطما .. من تحدث عن التحطيم  ، لاوجود لذلك هناك .

إستند وارنيف مجددا للخلف .

في حقيقة الأمر عماذا تلف وتدور ؟ بالتأكيد لن يتغير شيء  بحاجبين مقطبين نحو الخارج فتح بورنوف فمه لقول المزيد،  لكنه تأمل وجه وارنيف  ثم فكر .  نظر كذلك إلى النافذة .

القرى المتلاصقة تتواصل للداخل والخارج . الطريق يتأرجح بموازاة  التفرعات الجبلية ، في الشفق الدافئ ، بالقرب يحط لمعان الشمس أفقيا.  الآن لاترى مدينة بارتسلافا من  مسافة .بعد مرور عشرة دقائق ، بينما بدأت تظلم تدريجيا ، إتجها نحو المدينة . وبعد مرور خمسة دقائق عبرا الطريق الدولي الكبير متجهان إلى فيينا . هنا أكثر إزدحاما . بموازاة طابور الشاحنات العسكرية ، كانا يقودان في كلا الإتجاهين ، الآن  وفيما بعد  كانت تمرسيارات مدنية في الطريق .

كان وارنيف ينظر الى كل هذا الخضم ، لكنه لم يفهم شيئا . دخن ثلاثة سجائر من بورنوف سرعان ماشكره . فجأة  خاف ، بعد مرورلحظات وصلا إلى الطريق الذي يؤدي إلى مركز العتاد الحربي .  إنحنى كوباشيف للأمام  ثم بحث عن الزاوية اليمنى من الطريق . نظر إليه وارنيف  ثم ترك نفسه يغوص بعمق بين الوسائد كي يرى كوباشيف جيدا . الآن  يجب أن يصلا مباشرة إلى هنا ، في الطريق البعيد رأى مزرعة ، حيث كان يحصل دوما على البيض  !  كانت المزرعة  تحف ، في تلك اللحظات على مقربة خمسة دقائق مشيا نحو الطريق . هناك  وقف كوباشيف عند نهاية مبنى  واسع منخفض ، يتحدث مع أحد الحراس ، ربما بشأنه .

ثم وصلا عنده .

 كان وارنيف في أحسن حالاته . كوباشيف ..  هل هي المرة الأولى التي تصيب بها أحدا ؟ سأله ، عندما يفكر وارنيف مرارا بكوباشيف، يسمع تلك الكلمات مجددا . نظر إلى  المصابيح التي كانت تومض ، ماعدا تلك المصيبة المتشابكة ، تشكل الأماسي الضوء الوحيد في العالم .  حاول وارنيف جاهدا أن يتذكر تفاصيل ماحدث في تلك الليلة المأساوية . رأى قدما أبراج و قبب فيينا أمام ضوء السماء المغاير ،  فكر ببريق الضوء المنعكس للمدينة مقابل السحب ، ليالي المكتب .  فيينا ..  ماذا ينتظرني هناك ؟ إنحنى بورنوف ثم مسك حقيبة المستندات التي وضعها مسبقا في قاع العربة . فتحها  ثم تناول قيد اليدين . متعاطفا نظر صوب وارنيف  ، وخزه بدون أن يتفوه بكلمة  وذراعه اليمنى  بإتجاه ذراع وارنيف اليمنى . طقطق القفل حول معصميه مغلقا ،مرة أخرى حول معصم بورونوف .عندما نكون بالداخل من المحتمل أن نتخلص من ذلك الشيئ ، قال بورنوف ، بينما  أغلق الحقيبة ،  كان وارنيف  يتعقبه بحركات الأيدي .

-  أين ، للداخل ؟ سأله وارنيف متعجبا .

 - هل سنذهب الى السجن ؟

-  إنحنى  بورنوف للأمام  ثم قال شيئا للسائق ، الذي أومأ برأسه إيجابا

لا،  إنعطف مجددا نحو وارنيف .  أولا يجب أن نذهب الى الرائد لارنسكاي ،  الذي أصدر مذكرة توقيفك . دعني أقول : هو الذي يصدر الأوامر .  من المحتمل أن لايقول لك أكثر مما قلته لك ،  لكن سوف أدعك تلاحظ ذلك ، مدى جلالة أن يستقبلك الرائد العسكري  ذلك سيكون لصالحك .

-  نظر وارنيف مندهشا الى بورنوف :  الذي لم يتحدث من قبل مع رائد عسكري. أنصت بورنوف لأفكاره : كنت مستغربا بأنني سوف أخبرك حول تلك الأمور ، بينما  ستنظر إلي بالتأكيد بعين صغيرة.   أو تعتبر كلامي كدليل على الحقيقة ، كيف أتعاطف معك  وبأنني سوف أساعدك من جميع النواحي ،  في حقيقة الأمر لست أنا الوحيد الذي ينظر إليك من هذا الجانب ولكن كبنا جميعا .

توقفت السيارة  أمام مبنى عالي  بحراسة مشددة .  بعيون كئيبة تبعه وارنيف للداخل .  شعر بالخجل من الجنود والنمساويين النحاف  الذين تدفقوا مباشرة مع بعضهم البعض .  مشوا فوق سلم حجري عريض يؤدي الى قاعة كبيرة مضيئة تعج بالأعلى والأسفل  بجنود مهرولين  ومسؤولين يحملون ملفات وأوراق . في الأعلى عند نهاية  ممر صغير ، وجد بورنوف نفسه مع وارنيف يتعرفان إلى جندي  كان مرابطا أمام الباب . بينما كان ينتظران ، رأى وارنيف  بأن الباب يحمل رقم 4 .  إعتقد بأنه فال حسن ، لأن الرقم 4 ظهر له في أغلب المواقف المحظوظة  في حياته عندما رأى الرقم 4 ، فكر مباشرة  بموعد يوم الجمعة الساعة الرابعة مع كاتينكا ، ربما يجلب له الحظ تلك المرة .

فتح الجندي  الباب وتركهما يدخلان .  إعتقد  وارنيف بأن سوف يدخل غرفة  مهيبة ،  لكنها كانت عبارة عن زاوية صغيرة محشورة بالكتب والورق ، على الكراسي ، في الخزانات  وعلى الأرض  ، خصوصا على طاولة كتابة صغيرة  التي كانت مائلة في الزاوية عند النافذة ظهر رجل للخلف  منشغلا بالكتابة . لم ينظر إليه . الضوء الأحمر القريب الخافت  من الأباجورة ، التي كانت فوق طاولة المكتب  تشكل الإضاءة الوحيدة  في الغرفة . تنعكس على الرأس الأصلع اللامع ، من ثم يتلون بلون وردي خفيف.

ظل وارنيف وبورنوف في حالة وقوف ينتظران إشارة البدء بالحديث .  في النهاية بعد مرور دقيقتين ، رفع رأسه ببطء .  بعد برهة نظر إلى بورنوف، ثم تفحص  وارنيف بدقة من رأسه حتىأخمص قدميه . خائفا  إستوعب وارنيف بأنه نسى  معطفه الرسمي ، في السيارة مفتوح الأزرار . وقف الجنرال العسكري . كان رجلا طويلا في الخمسين من عمره ، بوجه قاس وحاد الملامح ، لم يدري تحديدا كم دام القتال  ، كلما فكر بذلك الإنسجام الغريب  بطاسة الجمجمة الصلعاء ، له شارب أسود صغير  وأنف كبير منثني . كان وارنيف يفكر بالجنرالات الألمان ، الذين كان يساعدهم في الأسر . لكن كانت تعوزه تلك النظرات الباردة لعينيه ، التي  يتسم بها الجنرالات .

 - الرفيق نيكولاي فيودوروفيتش وارنيف؟  سأله بحدة خفيفة  ونبرة صوت عالية

-  تحت إمرتك ،  سيدي الجنرال .

ذهب لارنسكاي  للجلوس مجددا  ثم نظر بترو  إلى صف الكتب التي كانت على المكتب كانت مقلوبة على ظهورها في الغرفة .

حسنا ، قال لارنسكاي  بعد مرور دقائق قليلة من التفكير العميق ، تلك معضلة غيرمقبولة ،  ليس لك لوحدك  ولكن للجميع ،  ربما تعني كل شيئ .  بالفعل لاأعرف ماذا أقول ، ترك عينيه  تهيمان فوق طاولة المكتب ، كما لو أنه يبحث عن شيئ سيقوده  لملاحظة تهدي سبيله .  يجب أن تؤخذ في نظر الإعتبار جيدا يارفيقي ، قال في نهاية المطاف ،  لاتشكرنا على تلك السذاجة  التي سببتها لنا أو للإنجليز  ولكن في نهاية المطاف للصحافة الغربية . القائم بالأعمال البريطاني  فعل مايستطيع فعله لتهدئة جميع الأطراف لكنه لايستطيع أن يؤثر على صحافة بلاده كما نفعل نحن . صمت لارنسكاي .

-تنهد وارنيف برفق ،   هذا يعرفه الجميع .

أنا مكلف من السلطة العليا بتولي  قضيتك ، وهي في حقيقة الأمر ليست  قضيتك لوحدك.

أستطيع القول : ليس إستثناء ، واصل لارنسكاي . أنا مخول بفعل كل ماهو صائب وفي صالح القضية ، في النهاية  رفيقي وارنيف  ، أنا مجبر بتنفيذ التعليمات وليس الوقوف إلى جانبك . خاف وارنيف , ماذا يعني هذا ؟  كان يريد مواصلة ضرب ذراعه ، ربما  الإستعداد لفترة حبس طويلة ؟!!

يجب أن يحدث كل ذلك  ، ربما بعد مرور خمسة أشهر يستطيع الذهاب للمنزل .إنها قضية تخص الجميع  ، لذلك يجب أن يكون جبانا مع شخص واحد  . صمت لارنسكاي مجددا . كنت تعرف ، أضاف قائلا .  أخذ يقاوم ، ثم لوى قدميه فوق بعضهما ومخط أنفه ومسحه بعناية بمنديل الجيب .

 سعل وارنيف بهدوء , ربما إرتكب خطأ ،   لكن تبدو في عيني لارنسكاي ملامح الراحة النفسية ، عندما  نظر إلى وارنيف متسائلا .  هل من المحتمل ، رفيقي الجنرال ، بدا وارنيف وديعا ،  بأنه لاضرورة لتقييد السجين أكثر من ذلك؟  أنا أقف من أجله . لا ، قال لارنسكاي بسرعة بصوت مشروخ ،  هذا لايمكن .  ليس ذلك بالتحديد ، قال لارنسكاي بهدوء ، كأنه يجب أن يفكر أولا ، لماذا لايجوز ذلك،  لأن تلك القضية  أكثر أهمية منكما ، ربما سأفكر ، صمت لارنسكاي .

شعر وارنيف بقلق . أي نوع من الرجال يكون ؟  لايعرف في حقيقة الأمر ماذا يقول. تركه يتذكر أمجاد الجنرال فقط،  أو تذكر الأشياء السديدة فقط ، قبل كل شيء  ، يجب أن يفكر بترو وعمق  ، حتى لايتفوه بأشياء كثيرة  ربما يوفرها لاحقا لوارنيف .

سوف يتم إحتجازك الآن في السجن العسكري ، رفيقي : سوف أبحث عنك بعد مرور ثلاثة أيام وسوف أخبرك  ، كيف نسوي تلك القضية ،  لأنني أعرف  كيف وماذا ، ثم وقف مودعا ، إلى اللقاء ، رفيقي بورنوف أنت تعرف بقية التفاصيل . ألقى بورنوف التحية العسكرية ، لكن وارنيف لم يستطيع فعل ذلك ،  لأن يده كانت مقيدة بيد بورنوف . إنحنى بعد تردد ثم قال:  رفيقي الجنرال ،  لاأعرف كيف  أشكرك  حول كل ما فعلته من أجلي .  حرك لارنسكاي يده ثم ذهب ليجلس مجددا .  بدون أن ينظر  قال من جديد: مسبقا ، وارنيف ، اذا كنت تنوي الخروج ، إلقي  معطفك الرسمي .  بعد مرور دقائق  جلسا في السيارة مجددا  ، ثم قادا السيارة  الى ناحية أخرى في المدينة ، حيث يقع السجن .  في الطريق نظر بورنوف  بتأمل   للخارج  ، في حين كان وارنيف يفكر  بدون توقف بكاتنيكا ، التي لن يكون بمقدوره رؤيتها يوم الجمعة المقبل ، من السخرية تحت وطأة تلك الظروف التفكير بتلك الأمور التافهة . لماذا لايفكر مثلا بزوجته ؟

كانت السيارة تغص في سكون تام ، ماعدا الكشافات الضوئية التي نصبت في كل مكان ، لم يدر في خلده بأن المنزل بستائر أمام النوافذ والذي رآه للتو لم يكن سوى السجن . توقفا ثم توجها نحو  حارس الذي كان واقفا أمام عتبة باب السجن  ، الذي يتألف من ثلاثة طوابق  ذات نوافذ حديدية  يتم رؤيتها من خلف زجاج غير شفاف .

رافقهما جندي  الى الزنزانة ، التي تم تجهيزها خصيصا لوارنيف كما قال له .  دخلا الزنزانة  ثم غرز المفاتيح بالقفل . بعينين كبيرتين نظر وارنيف  الى الرقم الذي كان مرسوما  على الباب : 44  الرقم ! ولكن مكرر ! .  فك بورنوف  القيود ثم سحب يد وارنيف.

نيكولاي ،  اذا سنحت الفرصة سوف أزورك بين الحين والآخر .  هل بمقدوري   -أن أفعل لك شيئا ؟  كتابة الرسائل أو ماشابه ؟  فرك وارنيف بكاتنيكا ، لكنه حرك رأسه .  إذا خرجت سوف أتصل بك . ضغط على يد بورنوف وهو ضاحكا ثم وقف داخل الزنزانة التي فتحها الجندي ، هامسا أغلق خلفه الباب بشدة .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الفصل الخامس

 

كان لدى وارنيف حلم ، ذات يوم تسلل بهدوء الى مزرعة تربض فوق قطعة أرض كبيرة . ذهب للوقوف عند النافذة ثم نظر الى الداخل ، هناك حيث تجلس كاتنيكا  تخيط بلوزة ، تبدو تنورتها مثل باراشوت ملتف ، ،  من خلال ذلك كان بمقدوره رؤية ساقيها الجميلتنان . ناداها ، نظرت حولها ثم قفزت من النافذة  نحو الخارج ، ركضا سويا في الطريق. فجأة  سمعها تنادي إسمه ، نظر حوله هناك يقف بورنوف ، أباها ، يحمل حقيبة مستندات  بيديه . 'حظ وفير' نادى  ثم ألقى الكلابش  خلفه . لكن بمجرد أن لامس القيود ، تغيرت الى الرقم 4 في نهاية المطاف غرز جسمه بكامله بالرقم 4 . لكن لأنه  كان مع كاتنيكا يهرولان بسرعة معا ، وقعا سويا ،

 واحدا تلو الآخر ، كان يتدلى من فتحة زر معطفه الرسمي المفتوح . وصلا معا بمواجهة زوبراو بقبعة عالية كان يتأبط ذراع ناتاليا ثم مشيا سويا.

-' مرحبا زوجتي'  ثم ودعها . ' مرحبا سيد وارنيف ' ردت التحية بلطف .

ثم جاء زوبراو ، في حين ذلك غمز بعينيه كاتنيكا ، عذرا سيدي  ، قال ' هل أساعدك' . لكن إكتشف  وارنيف فجأة بأن زوبراو ماهو إلا ديسموند ليسلي ، يضع شريط أسود حول ذراعه .  وغد ! صرخ وارنيف ، '  إبتعد عني ، كان ينوي إنتزاع  الشريط الأسود من ذراع ليسلي ، لكن هذا الأخير جرى مسرعا . ركض وارنيف خلفه ، أعطني شريط الحداد ، أعطني هذا الشريط ، إنه لي ، صرخ . فجأة  تعثر بصخرة وردية . بينما كان ينظر بدقة وإحكام  ، تبين عدم وجود صخرة ، لكنه رأس لارنسكاي الأصلع . من المستحسن  بأنك سقطت ، قال لارنسكاي  ثم صمت للحظات قليلة ، إنظر ولو مرة واحدة هناك  ، أضاف قائلا  ثم أشار  بشاربه  الى الأفق . نظر وارنيف  ثم رأى بعض الناس يقبلون  من ثلاثة قرى تقع بين مسافات منتظمة، مرارا وتكرارا ، بالآلاف ، الملايين ، بأعداد كبيرة ، حشد متدفق ، يمشي في المقدمة عدد من الرجال يرتدون  قبعات كبيرة ، بأيديهم  كاميرات . مرارا وتكرارا أصبحوا أكثر إقترابا  وعندما دنوا منه ، كانوا أشبه برجل واحد . ثم نادى الرجال ذوي القبعات ، بعدذلك صاح بقية الرجال : أنظر ، لقد سقط ، لأنه وحيد ، لكننا مجتمعين سويا ! الوحيد سقط ، ها..ها..ها ! إنظر  ، هناك يقف لنا هذا الرجل ، الوحيد ... ثم إنفجر الجميع في ضحك مدوي . ضرب وارنيف  جبهة لارنسكاي  ثم إتسم الجميع بالجدية.

- رفيقي الجندي نيكولاي فيودورفيتش وارنيف؟ صفر وهو محطما . أومأ وارنيف برأسه إيجابا . ثم  مشيا باتجاه .

- إستيقظ وارنيف  ثم أصبح حلمه في خبر كان .  فتح عينيه ونظر بدون أن ينفعل الى بطانة السقف المبطنة بالحجر الرصاصي . ياترى كم الساعة الآن؟  بالتأكيد السابعة لأن الضوء كان ينتشر في الأجوار ،  لم يفتح الستائر بعد ، بعد ثلاثة أيام ستنزه مع كاتنيكا . لن يمشيان سويا ، يعرف ذلك جيدا . إستدار حوله ثم أغلق عينيه مجددا . من الأفضل أن ينام لبعض الوقت ، لايوجد بالتأكيد وقت للتفاح . غفا لبعض الوقت . هل ينام شوباكوف أيضا ، تساءل في نفسه . بعينين ناعستين   إستند بعيدا عن الفراش  لينظر  للقفص الذي كان يقع أسفله، ثم فتح عينيه .

-  أين يكون شوباكوف ، رأى من بعد  خمسة سنتميترات : الأرضية ، بنفس اللحظة تذكر المشهدا مجددا . بإنتفاضة  ذهب ليجلس الى يمين الفراش  ثم نظر من حوله . من خلال الزجاج الشفاف كان ضوء الشمس الصافي ينعكس على الزنزانة . إلى يمينه  بمواجهة الحائط ، توجد طاولة مفروشة بقطعة قماش حمراء ، رصت فوقها بعض الكتب ، قنينة ماء ، كوب  وعلبة سجائر  مع ثقاب . ليلة البارحة كان عليه  التوجه للنوم مباشرة ، عندما بلغ السطح رأى زيه الرسمي وحذاؤه ملقيان على أرضية الغرفة ، يجب أن يركلهما بقدميه .

مشى نحو الفراش  ثم تناول سيجارة ، حيث ذهب للإستلقاء مجددا. لقد إعتنيا به جيدا ، يبدو بأنه يعامل معاملة سجين غير عادي . في الزاوية  عند النافذة  ظهرت قطعة نسيج على الأرض ، إلى يساره  عند الحائط أعلى الفراش ، تتدلى روزنامة . لقد مزقت الأوراق حتى يوم السبت الموافق 28 يونيو .  توجه نحوها  ثم مزق مزيدا من الأوراق :الأحد 29 يونيو ، الإثنين 30 يونيو، الثلاثاء 1 يوليو، الأربعاء 2 يوليو . اليوم الأربعاء . بعد غد  سوف يأتي لارنسكاي  ليخبرني كيف وماذا، كما إعتاد  دوما .  تصفح بقية الروزنامة : الخميس 3 يوليو، الجمعة ....4 يوليو! الحمعة 4 يوليو ، أربعة مرة أخرى ! ضحك ثم توقف  هنا .  سحب زيه الرسمي  وقميصه ثم بدأ يغسلهما . بينما كان يضع الماء ،  ردد أغنية قديمة . في هذه اللحظة ليس حزينا لكنه مرحا ، لأنه بالإمكان غناء الأغنية الحزينة بأسلوب مرح .

 مصفرا بصوت حاد إستدار الباب ثم فتح ، توقف وارنيف عن الغناء ثم نظر خلفه :  جندي ضئيل الحجم ، كبير بالسن ومنحني  يقف بحصن بيده عند مدخل الباب .

هكذا إذن ، هل إستيقظت أخيرا ؟  ضاحكا سحب  الباب خلفه ليغلقه . بخطوات بطيئة ، حادة  مشى نحو الطاولة ، وضع الصحن للأسفل ثم  تناول ملعقة بقربه . هنا غداؤك ، قال  ثم بسط التجعيدات في مفرش الطاولة .

-  غدائي ؟

  ضحك الرجل المسن .- 

-  إنني أكره كاخنوفيتش .

-  نشف وجه وارنيف من الضحك .

-  إعذرني ، إسمي وارنيف  ربما تعرف ذلك ؟

- عادة لاأفعل ذلك، أوربما أعرفه مسبقا .

-  جذب وارنيف قميصه مرة أخرى .

- كم الساعة الآن ، لأنك قلت  بأنه موعد غدائي ؟

- الواحد والنصف.

- الواحدة والنصف؟

- لم تفارق الضحكة وجه الرجل المسن اللطيف .

- نعم ، لقد إستغرقت بالنوم ، لقد حاولت من وقت لآخر من خلال فتحة صغيرةبالباب  النظر ،  لكن لم أرى أي حركة

-  ذهب وارنيف للجلوس عند الطاولة ثم بدأ يتناول العصيدة.  هل أنت خائف ربما أضربك وأهرب ، سأله خلال ذلك بعد  قضمتين ثم أشار بالملعقة إلى حزمة المفاتيح التي يحملها كاخنوفتش بيديه .

-  قيل لي  بأنه لن يتم معاملتي كسجين لكن كضيف .

-  من قال لك ذلك؟ سأل وارنيف

-  الرائد بورنوف .

-  مسك واريف ملعقته صامتا وهي مملوءة بالعصيدة .

-  بورنوف ، كرر  بترو عميق . متى أنتظر زيارة ؟ سأله .

-  بعد الجمعة .  مشى الرجل المسن إلى وعاء الغسيل ، مسح الطاولة بمنشفة اليد  ، جففها ثم إنحنى على الأرض كي يعدل  السجادة المفروشة على الأرض .

-  أف ..أف ..أهكذا إذن .، قال وارنيف ، إذا كان يعلم : كيف ومتى .

- تحديدا ، إستد كاخنافيتش ، متعبا من الإنحناءة، إذا كانوا يعلمون متى وكيف .

-  وقف وارنيف .

-  تعال ،  دعني أقوم بذلك .

-  لكن كاخنوفيتش تملص من الإجابة .

-  لاجدال في ذلك . أنا هنا موظف فقط وأنت الضيف .

-  ضاحكا ذهب وارنيف للجلوس . بينما دفع بملعقته ببطء البقايا الأخيرة من العصيدة سويا ، أصبح وجهه جديا .

-  ماذا تفكر ،  ذلك هو ، كيف ومتى  ، أسقط ؟ سأله .

-  برأسه الأحمر  إستدار نحوه كاخنوفيتش ،  لهث قليلا  ثم مسح بكمه بقايا عرق في وجهه .

- في واقع الحال لا أعرف ، ليس لدي أدنى فكرة. مجرجرا قدميه إتجه نحو الفراش وبدأ يرتبه.

-هل تعتقد أنه من المخيف أن يحدث مثل ذلك الأمر ؟ سأله وارنيف ثم أزاح الصحن جانبا .

- إنحنى كاخنوفيتش بعيدا  فوق الفراش كي  يضع البطانيات بالناحية الأخرى .

- بطبيعة الحال أجد الأمر مرعبا ، لاجدال في ذلك .

- وهذا تحديدا ما سيحدث لي .

- إستدار كاخنوفيتش  حوله ثم ذهب  ليجلس على الفراش .

- أنت تحديدا  ؟ حاول أن تصدق بأن الفرصة ضئيلة ، بأن شخص سيتعرض لذلك؟

أومأ وارنيف برأسه إيجابا بوجه مفروغ منه .

-  وقف كاخنوفيتش ثم صفق الفراش للأعلى .

-  يجب أن تتعلم الكثير ، أبتاه ، قال  بدون أن يتطلع  إلى وارنيف .

-  نعم ،  كل شيئ على أكمل وجه . قال وارنيف  ثم وقف فجأة بدون مقدمات .إذا يمكن تجنب مثل تلك الحالات بين الحين والآخر ، هذا دليل على أن ثمة شيئ خطأ في العالم .

-  ضحك كاخنوفيتش مجددا .

-  لقد إقترحت تشخيصا ثاقبا ! لكن وارنيف لم يضحك ، مشى غاضبا في الزنزانة للأسفل والأعلى  كان يبدو في كل لحظة غاضبا بشدة . إستند كاخنوفيتش علىالفراش المصفوق ثم وجه عينيه بدون إنقطاع نحو وارنيف، كي يحرك رأسه غدوة ورواحا . فجأة  بقي وارنيف  واقفا أمامه ثم نظر إليه  بعينين كبيرتين ، عندذلك رأى لمحة عين كاخنوفيتش ، ثم تلاشت الأفكار  التي أراد أن يرمقها في رأسه . ذهب عند الطاولة ليقف عند إناء الغسيل ، ويديه بجيوبه حدق النظر نحو الأعلى ، عبر الشق الصغير الذي لم يظلل بواسطة الزجاج المطفأ .

ربما أشاطرك الرأي ، قال  ثم ترك عينيه تشردان في جذاذة الهواء الأزرق  الطولي . فجأة  ظهر  في الزاوية اليمنى العلوية  نقطة  من سحابة بيضاء حليبية ، التي جسرت ببطء السطح بكامله . بإنتفاضة إستدار حوله ، رافعا يديه  من جيوب بنطلونه، مصورا بإشارات محسوسة  في الهواء قبل أن يقول شيئا .

- أفهم ماذا تنوي قوله .  سوف  أعتبر نفسي شخصا غير موثوقا فيه ،  محاولة لفهم ما تريد قوله . تقصد بأن جميع الذين ليس لديهم حزب ينتخبونه ،  في حالتي يخطأون . كيف أختار حزبا ؟  أجلس بين أربعة جدران  حجرية ، في الخارج حيث يتم  تقرير مصيري في الخارج  ، لايهم إذا كنت مذنبا أم لا .الكثير من الناس يسجنون بين أربعة جدران لشجاعتهم المتذبذبة ، التي يتم تجنبها عن جهل وقل دراية .  أنت أيضا غير مطلع  لماحدث لي . تستطيع أن تطلق عليه القدر المحتوم .

 هل التردد وقلة المعرفة يعتبران ذنبا ، وأنا لست كذلك .   القدر المحتوم عبارة عن مفهوم رجعي من المجتمع المدني ،قال وارنيف بنغمة مشدودة . أعرف تلك الكتيبات جيدا .  لكنها بطبيعة الحال غير موجودة . القدر المحتوم مثل مشجب  لتعليق الملابس بإبتذال  ، في تهاية المطاف لتركها لفترة طويلة . التاريخ  ومكنونه لا يعتمد علينا ،  يستخدمنا  فقط لتجسيدنا . الشيئ الوحيد الذي نستطيع عمله ، مساعدته بالتطوير، لانريد أي مسوغات قانونية . نستطيع أن نطلق عليه القدر

المحتوم أو نصيب لابد مه . الحزب الملائم الذي نختاره ، الحل الوسط غير المشروع الذي نتجنبه ، هذا الشيئ الوحيد  الذي يساعدنا يا أبتاه .  من يعرف التاريخ جيدا ،  سوف يختار حزبا جيدا  على الأقل ليس لديه منافع شخصية تجاه التاريخ   في الدفاع عنا وحمايتنا .  من لديه منافع شخصية ،  ومن لايعرف التاريخ  سوف يخطأ بالإختيار  وسوف يأفل نجمه . ومن يختار حزبا معينا  بالتأكيد لديه مبرراته القانونية .

- لماذا تتحدث دائما عن ذلك الخيار؟ صرخ وارنيف .  هذا لاينطبق علي مطلقا . لايوجد أمامي أي خيار آخر ! شعر بإنفعال شديد من خلال تعقب نفسه  .  ماذا  قدمت للتاريخ ؟  أريد الذهاب صباح يوم الجمعة لزيارة اتنيكا ! أريد أن أعود للمنزل! هذا هو تاريخي !

 شخصك لايقدم أو يؤخر بخصوص هذا الموضوع ، قال كاخنوفيتش ثم نظر إليه بأسى. هكذا إذن ! لآأهمية لشخصي بذبك الشأن ! ومن يرى الشمس إذن إذا لم أرها إذن ؟ من يستمع للطيور ؟ لطم يديه فوق وجهه ثم  وقفهما . لاتصغي  إلي ، كاخنوفيتش ، قال بصوت خافت  بينما لم يزح يديه يعيدا .أتحدث مثل شخص معتوه أو حمار غبي . ترك وجهه يرىمجددا  ثم ذهب منملا للجلوس  على الكرسي . صمت . نظر كاخنوفيتش  إلى الأرضية ثم دحرج بقدميه  مغيبا صفحات الروزنامة المحشورة إلى ناحيته . إنه بطيعة الحال كريه ومقزز ، إستطرد وارنيف  هنيهة لاحقا ، كي تهرول برأسي قبالة هذا الحائط بينما أعرف جيدا  مثلك تماما ، بأنه من الحجر  بينما رأسي  من عظام جافة سهلة الكسر.

- مقزز ، مفزع . أكثر سوءا من البارحة . هل تعرف ماذا سأفعل؟ فجأة سأله كاخنوفيتش  . سوف أحضرها لك  وسوف أترجم لك المقالات .أنا أعرف بكل عندي من طافة مايعنيه الإنجليز والفرنسيين .

تحدث كاخنوفيتش بسرعة  لكن لم يصغي إليه وارنيف .إستند بكوعيه على ركبتيه ، رأسه  بيديه .  بعينين مرمشتين حدق بالبرميل الخشبي  الذي يواجههه بجسده ، بعري مخجل للإنسانية لاأفهم ، بدأ ببطء ، بأن الآخرين يستطيعون . سوف لن يعلمون بأنني كنت بشرا ؟ بطبيعة الحال يعرفون ذلك ،  لكنهم لايعترفون بهذا المفهوم .  أنا كذلك ، أثناء الإستراحة بعد هجوم عسكري جلست مع صديقي شوباكوف في قمع قنبلة يدوية . هناك  أجرينا محادثة طويلة ، ذلك أتذكره جيدا . إنتزعنا وجود بلد ما ، حيث يقطن عشرة ملايين إنسان ، ثم سألنا أنفسنا ، ماذا سنفعل فيما إذا كان لدينا خيارا معينا ، أنا سأموت أم العشرة ملايين شخص . إذن  ماذا سنفعل  إذا تحينت لدينا الفرصة لإنقاذ عشرة ملايين إنسان , سوف نسرع بما فيه الكفاية ، قال كاخنوفيتش .

- عشرة ملايين ، قال كاخنوفيتش .

تتهمنا بسوء المعاملة والتصرف وبأننا لاإنسانيين . الرقم لايعني شيئا . ربما يكونون بضعة مليارات أو ماشابه . أنا واحد ،  بينما الآخرين في الخارج ، يتحطمون بهدوء .  في ذلك القمع توصلت أنا وصديقي  إلى مفهوم " البشر" . لايعني شيئا . لكن فيما إذا كان هؤلاء العشرة ملايين حيث يتعلق بنا القدر المحتوم ،  ورأينا على سبيل المثال إمرأة ذات عيون زرقاوين إذن سوف نمنحهم الحياة على الفور  ليس لمفهوم البشر لكن من أجل هاتين العينين الزرقاوين. وقف ببطء : كان يريد أن يبدو هادئا بكن إرتجافات يديه علمت كاخنوفيتش  الأفضل . أنا لدي عينان زرقاوين ، قال وهو يقلي على نار هادئة ، بينما مشى إلى كاخنوفيتش . لكنهم لم يعرفوا ، سرعان ما تدفقت الدموع في مآقيه ، تحرك بإتجاه الرجل المسن وبصوت محطم لكنه حاد همس :  أخبر العالم  بأن لدي عينان زرقاوين ، كاخنوفيتش ! أخبر العالم بأن لدي عينان زرقاوين !

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

          

 

 

 

 

 

 

 

 

الفصل السادس

 

لماذا أنت صامت اليوم ، كاخنوفيتش ، قال له وارنيف في صباح اليوم التالي ، بينما جلس عند الطاولة وقدميه فوق الكرسي. هل حدث شيئ ما ؟

لا...لا، لاشيئ ، قال كاخنوفيتش بينما مسح البلاط .

لاأفهم ، قال وارنيف.  لم تضحك ولو مرة واحدة. بالتأكيد أنت ليس حانقا من ثورة غضبي  ظهر الأمس . حسنا ، لا ، شباب ، لماذا عساني ؟ أنا أوافقك الرأي. حاول  أن يبتسم ، لكن لم يفلح .

-  وارنيف قل لي !

 هل حدث شيئ في المنزل ؟ هل سمعت أخيارا سيئة ؟

 حرك كاخنوفيتش رأسه بدون أن يقول شيئا .

قطب وارنيف حاجبيه وقفز من الطاولة . مسك كاخنوفيتش من ذراعيه ثم أرغمه  على رؤيته .  حاول كاخنوفيتش الإبتسام مجددا  لكن لم تصدر منه سوى إبتسامة عريضة ، بالعكس

أظهرت ما كان يحاول  تجنبه .

والآن  سوف تخبرني ! قال وارنيف ، ماذا حدث معك بالضبط؟

بالتأكيد لم يحدث معي شيئ . أغلق عينيه لأسفل  ثم فتحهما .

لاأعرف ماذا أقول ، نظر  إليه وارنيف ، كيف واصل قدما مسح البلاط . يجب أن يكون شيئا إستثنائيا، لأنه يفهم في تلك اللحظات  بأن كاخنوفيتش  لن يتركه  يفلت بتلك السرعة ،  يدور ويلف في  زاوية واحدة .

-  كاخنوفيتش ، هل يتعلق الموضوع بشخصي أنا تحديدا؟

-  صمت الرجل المسن .

 شعر وارنيف  بالدم يغلي في عروقه ببطء: صمت كاخنوفيتش! لم يتسنى له رؤية وجهه، لأنه وقف وظهره إليه ، مسح الزاوية من الخارج .إلتف وارنيف حول نفسه، بشعور  غامض بأن كاخنوفيتش سوف يحكي له مسبقا ،  ونظر إلى الشريط  الذي تحول في تلك اللحظة إلى هواء أزرق كامل .

-  كاخنوفيتش؟

-  أجل ،يا شباب ؟

ظل وارنيف صامتا وإستمع  بحدة إليه،  لأسباب يصعب تفسير أسبابها،  داهمه إحساس غير واضح المعالم، يتعلق عموما بما فعله .عدل من جلسته مباشرة ثم أنصت ، سمع  أيضا المكنسة بأصوات كاشطة قصيرة تنظف الأرض بشدة ، ثم  أصبح الصوت أقل حدة وتوقف في نهاية المطاف . سمع  نقرة خفيفة: من المحتمل أن كاخنوفيتش وضع المكنسة قبالة الحائط.  ظل ساكنا .

-  لقد حكموا عليك بالموت .

ظل وارنيف ينظر للأعلى . لهنيهة قصيرة جدا ، داهمته رعشة مفاجئة .  حكموا علي بالموت، حكموا علي بالموت، كرر مع نفسه .

-  من. سأله حينئذ .

-  نيكولاي؟

إلتف سريعا حول نفسه . مرعوبا رأى دموع  في عيني كاخنوفيتش. أبتاه ، ماذا ستفعل الآن؟ مشى إليه  ثم جذب ذراعيه مجددا . لكن كاخنوفيتش أرخاهما ومشى بعيدا عنه .

نيكولاي. حاول الرجال بالتأكيد منعي اليوم من البوح بمزيد من التفاصيل ،  من أجلك وأنا أؤيد ذلك . لكن  لم أستطع ، لقد سألت كثيرا ، أنا ضعيف . إعذرني . صمت  ثم قضم شفتيه .

ماذا إذن . بطبيعةالحال أجد ما فعلته صائبا . تعال ، إجلس . أحضر الكرسي إلى كاخنوفيتش ثم ضغطه بسرعة للأسفل مرمشا بعينيه، قائلا تلك: الصحف الغربية... يريدونك أن تموت . ذكرت صحف اليوم  بأنك تعمل بالبوليس السري وإنك قتلت ليزلي تنفيذا للواجب ، بعدما أوقعته بالشرك. أحنى كاخنوفيتش ظهره وتضاءل حجمه وهو على الكرسي. وهو نملا ظل وارنيف واقفا . لكن... هذا ليس صحيح ، قال بهدوء. حاول كبت دموعه المتصاعدة ، عندئذ ظهر كاخنوفيتش  مهلهلا ، غاصا سويا ، رآه جالسا على الكرسي، ثم فكر ،  بأن تلك الدمعة المشكوك فيها التي سقطت منه دليل على مواجهته العقوبة . توترت جميع قواه ، حاول التحدث بكل بساطة وبدون أي تعقيدات .

تعال...شحط حنجرته . تعال كاخنوفيتش ، وماذا بعد؟ ماطالبت به تلك الصحف بطبيعة الحال  غير مفهوم تماما ؟

-  نظر إليه كاخنوفيتش بلمحة ذكية .  فهم وارنيف بشعورمؤلم غلطته .

-  أعني بطبيعة الحال : أعني  ماذا أجابك لارنسكاي؟

-  شعر بأن كاخنوفيتش  ، حاول مرات عديدة تفادي الإجابة.

قال لارنسكاي  بأنه لاجدال في ذلك الأمر ، وسوف يجري تحقيقا جديدا عاجلا و يعلن التتيجة  بأقصى سرعة ممكنة .

إستند وارنيف بالطاولة .... ماذا تقصد: تحقيقا جديدا . في حين ذلك قال بورنوف : لايوجد  شيئ جديد نحقق فيه .

وهو متعب  وقف كاخنوفيتش  ومشى إلى الباب  وفتحه . ثم إتجه نحوه .أنت تعلم ... إذا كان ذلك ضروريا ... نظر  هنيهة إلى وارنيف الذي كان يحدق بالأرض . ثم  ترك الزنزانة  وأغلق الباب المصفوق خلفه . مشى وارنيف ببطء نحو السرير الخشبي البسيط الذي لم يغلق وترك نفسه منكفأ يسقط فوقه ، بقي راقدا  مثلما وصل إلى هنا ، ذراعه اليسرى تتدلى  فاقدة الحس للأسفل .من دهشته كان ينتقد مشاعره ، عندما أخبره كاخنوفيتش بأنهم حكموا عليه بالموت ،  تناهى إلى مسامعه ، كأنه أشار لوثيقة مكتوبة. صحيح كانت كلمة صائبة : أشار لوثيقة مكتوبة .  حينئذ رآه كاخنوفيتش  واقفا بمنتهى الأسى ، في واقع الحال نسي تماما . هل كان شخصا غير مهم ؟ ليس مهما ..... فهم كم هو مهم .

 إذن هل ستنهى حياته؟  لعله لن يرى أحدا مجددا؟ ليس كاتنيكا، زوجته وأطفاله ، بورنوف وكوباشيف وكوباكوف وزوبراو.. لاأحد . كان يخمن بنفسه ، لكنه لم يتوصل إلى  تفسير ما يشعر به، يعلم بأنه سيقضي نحبه. في نهاية المطاف لم يقرر !  من المحتمل بأن لارنسكاي يجلس الآن في الغرفة المحشورة بالأوراق والكتب يتشاور ، بينما ترك  عينيه تتحركان على طاولة الكتابة، إلى أي مدى يخدم موته المنفعة العامة أم لا ، بينما بالنسبة إليه  تتزاحم الصحف مطالبة بموته . الصحف ، الصحف ، جميع من في العالم المدني  ينادي بموته ،  بلمحات غاضبة لرجال بقبعات  وكاميرات تصوير ، تقع في مكان ما . الناس مزمجرين  بأنه فعل فعلته  تنفيذا لواجب " الغيبو" ، الناس يولولون بأنها جريمة سياسية ، يهددون بالحرب  ، وهو يجلس هنا ، بالزنزانة 44  ولايفقه شيئا .

على الأقل ، ذلك هو المغزى . لكن شكرا لله  بأن كاخنوفيتش أخبره وفوجئ بأسوأ الظروف  بأنه غير مستعد على الإطلاق لسماع مثل تلك الأخبار السيئة . إذن الإحتمال وارد  في كافة الظروف  بأنه سيقضي نحبه في زمن قصير؟ فكر بنتاليا، زوجته .

فكر مليا بزوجته. توصل إلى إستنتاج لأنه لم يعد يحبها ،لم يستطع أن يحبها أكثر من ذلك منذ فترة قصيرة ، كان يعتقد  بأنه ربما يحبها ، لكن  في الوقت الحالي  ، بعد كل تلك الأحداث ، أصبح الأمر واضحا أمامه بأنه لم يعد بوسعه مواصلة حبها .قبل ستة أعوام خلت عندما رآها للمرة الأخيرة . كانت في التاسعة عشر من عمرها ، في تلك اللحظة أدرك بأنه يحبها، كانت فتاة نضرة  وليسن تلك المرأة التي تبلغ الخامسة والعشرين .

 الآن .لا،  إنه لايزال يحب كاتنيكا .

-  ماذا أقول ، إنني أتفوه بكلام ليس له معنى ! صاح فجأة بصوت حاد ثم إتجه نحو الفراش .  فعل كما لو أنهم  أخطروه بأنه سيتم تصفيته مباشرة ويجب أن يبحث  الآن عن التوازن المطلوب في حياته . بالتأكيد كان بإستطاعته إعادة الأشياء إلى مسارها الطبيعي . بالتأكيد  لارنسكاي  ليس أفضل الموجودين. ربما يجلس بعد مرور خمسة أشهر مع ناتاليا وأطفاله  حول المدفأة ، يخبرهم عن قصة شيقة حول معايشاته ،  تصفح بعض قصاصات الصحف الغربية التي جلبها له كاخنوفيتش وقام بجمعها ولن يتمكن أحد من قراءتها . مشى إلى حوض الغسيل  ثم نثر بعض المياه على وجهه. فكر بالأمس ، عندما كان واقفا هنا يغني :  كان يخيل لع ذلك قبل أسابيع خلت .لما لاغني هنا مجددا؟ تذكر أغنية ما لكنه سمع صوتا غير مبهجا. حاول إطلاق الأسى خارجا، بالأمس إكتشف بالفعل بأنه ردد الأغنية الشجية بسرور ! كان يصرخ مرارا وتكرارا ويحصل على نفس اللحن. وهو مزمجرا مشى إلى الزنزانة، غلى الدم في رأسه وتدفقت الدموع في مآقيه . توقف فجأة وأنصت  بفم مفتوح إلى السكينة، التي عاودته مجددا . بدأ يضحك ،  مع الدموع المتدفقة خارج عينيه .ضحك ولم يستطع التوقف عن الضحك. كان شيئا ليس نابعا منه، يضحك في أعماقه غدوة . وقع على الأرض وظل ساكنا بدون حراك . نظر كاخنوفيتش إلى الممر بدون نهاية .  في الظروف الإعتيادية كان يفعل ذلك كل ربع ساعة لكن في الوقت الحالي  يبدو له بأنه يجب أن يصل موسكو مسبقا قبل أن يصل إلى نهاية الممر. أبقى عينيه متسمرتان على البلاط بصفة متواصلة  بينما كان يمشي ، إلى جانبه ، شيئا للخلف سمع  صوت بسطال ثقيل  لجندي ، رافقه وهو صامت . كانت طرقات شديدة بطيئة ، أصبحت خطواته خفيفة وثقيلة الحركة . أنا كبير بالسن ،فكر هو،  بالنسبة لأشياء كثيرة أنا عجوز . كانت قدمه اليسرى تصطدم مرارا  بحجر بلاط  وتنقسم اليمنى إلى إثنين . رأى  إنشقاقات خفيفة  وبقع رمادية بالقرب أسفل السطح العلوي للحجر بأكمله . حتما ستتدحرج  المربعات عليه  وتنزلق من أسفله . ضحك وارنيف : في نهاية الممر سمع ، لساعات خلت ، أشياء . أخرى  لازال يسمعها. كما لو أنه صوت كئيب في جراب ثقيل يشحذ خلفه

بدأت المربعات تسير على هدى مع بعضها البعض برفق  وتميل  فوق بعضها ، تساءل أي نوع من الممرات تلك؟ في أي نوع من الممرات يمشي؟ إنه مسن لكثير من الأشياء ، إنه كبير بالسن . فكر: يقوده هذا الممر للعالم . المربعات المتدحرجة تحولت إلى بلاط طريق ، طين علاق، ممر إسفلتي ممتد، رمال ،  أرض غابة ...  جذب كاخنوفيتش إلى العالم . مشى عبر  ممر جبلي حبيبي ، على إمتداده يزحف طائر الغراب  ببطء ، برأس منحني . من الزاوية الأخرى إقترب متشرد ،  ظل واقفا . جذبه من ذراعه ، وضعه بالعمق بروحه وقال له بترو: وارنيف لديه عينان زرقاوين.  متعبا ومتوازنا وصل إلى قرية تقع بين وادي بين الجبل. سحب جرس الدمية ، المتينة  ثم فتح بابها بحيوية. 'وارنيف لديه عينان زرقاوين' بالإضافة لذلك يجب أن يواصل المشي عبر العالم . رحل  عبر البلدان  وعبر المحيطات  ، زار  الزهاد والمدن. ' وارنيف له عينان زرقاوين'  قال هو لرجل مصرفي يجلس خلف طاولة مكتب من خشب بندقي ، قال ذلك لفتاة صغيرة ، بأنه في محل العطارة ، يمسكه من ذراعيه . قال في القاعات الكريستالية والثريات المضاءة وفي المصانع ، في المنازل الثلجية بالإسكيمو،  في الأكواخ الصغيرة السوداء قال هو: هل سمعت ، وارنيف لديه عينان زرقاوين .

أنا بالنسبة لأشياء كثيرة عجوز، فكر هو  وظل صامتا .  بحر من الدموع يتحرك بداخله . أظلمت أغلق الباب  وظل  الجندي الشاب المسلح  يحرسه من الخارج .  ذلك الأخير أومأ  وأغلق الباب خلفه . إنبطح وارنيف على الأرض.  بينما وضع كاخنوفيتش قارورة الحبر  بقلم على الطاولة : رزم من الأوراق  إلى جانبة  .  ببعض القطرات من قنينة المياه رطب وارنيف جبهته.

صحا وارنيف . عندئذ رأى كاخنوفيتش ، واقفا مباشرة .  لقد تركتك تنام بعض الشئ ، قال كاخنوفيتش ضاحكا، إنها تقريبا الساعة التاسعة . هل من أخبار جديدة ؟ سأله

وارنيف بحدة .

أومأ كاخنوفيتش برأسه إيجابا.

-  هل تشعر بجوع ؟

-  قام وارنيف بحركة قلقة .

-  جوع ... هل صرح لارنسكاي بشيئ ؟

- تظاهر كاخنوفيتش بأنه لم يسمع السؤال ثم قال : عبر فتحة الباب ، حاولت هذا اليوم ......هل صرح لارنسكاي بشيئ ، تحطم ، إنهال عليه وارنيف مهددا  بكلماته. لكن ، قل شيئا يا رجل ‍صرخ وارنيف بينما تناول كاخنوفيتش معطفه .

-سعل  كاخنوفيتش هنيهة ، أجابه بوقار : يجب أن لاأخبرك .

-أعلن لارنسكاي ، نتائج التحقيق أشارت إلى أنك كنت تعمل في خدمة منظمة ألمانية سرية ، وتنفيذا للواجب قمت بقتل ليسلي . سوف تنال عقوبة الموت . أغلق وارنيف عينيه شعر بأنه يميل بجسمه للخلف ، بقي لعدة ثواني  واقفا  ثم سقط فجأة على الأرض ، حاول كاخنوفيتش في تلك اللحظات أن يلتقطه ، بإزاحته معه .

نيكولاي ، نيكولاي ، قال كاخنوفيش  بصوت محطم ، بينما تماسك . بوجه مستهجن  نادى على الجندي  الذي كان ينتظر بالخارج : وضعا وارنيف سويا على السرير الخشبي . ثم ذهب الجندي مجددا . دفع كاخنوفيتش الكرسي عند السرير ثم وضع يده على جبهة وارنيف . بقي جالسا ونظر إلى التيار الهوائي الذي قطع إلى أربع مرات عبر القضبان  ، الذي ظل أزرق اللون طيلة اليوم بصورة منتظمة  ، لكنه بدأ في تلك اللحظات يعتم . بقي كاخنوفيتش أكثر من نصف ساعة على تلك الحالة .

-  فجأة إشتعل الضوء.

-  فتح وارنيف عينيه.  نظر إلى كاخنوفيتش  الذي لم يلاحظ ذلك ،  ثم إيتسم .

-  ظهر كاخنوفيتش  وهو يتحسس جبهته ثم إنتحى جانبا .

-  منذ متى وأنت جالس هنا؟ سأله وارنيف .

-  أوه ، ليس طويلا . هل تشعر بتحسن؟

-  أومأ وارنيف ونظر إلى المصباح حيث كان الضوء مبهرا البارحة  ، كان محتفظا بمصباح الجيب .

-  إذن إنقضى الأمر ، قال هو.

-  أزاح كاخنوفيتش يديه  ثم وقف.

-  هل تريد سيجارة .

-  أومأ وارنيف . بعينيه لاحق كاخنوفيتش ، الذي مشى أربع خطوات نحو الطاولة ببطء شديد.

-  متى سيحدث ذلك ؟ سأله .

-  أعطاه كاخنوفيتش سيجارة وأعواد ثقاب . ذهب ليجلس أولا ، قبل أن يجيبه.

-  من المحتمل اليوم ، وإلا يوم آخر .

-  متعمدا طوى وارنيف السيجارة بفمه مرتين. لذلك لم ينتظمان مطلقا بإستقامة مع بعضهما، هذا  أفضل حالا . وضع رأسه  على الوسائد ونظر إلى الدخان المتصاعد من سيجارته . أولا كان شريطا رقيقا مستقيما ،  إتشق إلى  جزء أسود وأزرق فاتح ، ثم بدأ تدريجيا يكون دائرة أو حلقات من الدخان ، في تحليق واسع متحركا ببطء  للأعلى، كلما كان أطول،  كلما تلاشى الدخان أكثر في الهواء .

نظر حوله  وفكر بأنه يجب أن يموت ؟ حاول  التفكير بأنه ربما في الغد سيكون ميتا لامحالة ، حاول أن يفترض  لنفسه بأنه  سوف يرقد في الغد في مكان ما ، بدون حراك ، بدون نفس ، أو حياة .

-  حاول أن يفهم بوضوح ماسيحدث له :  بأنه لن يرى أحدا فيما بعد، كاتنيكا ، بورنوف ونتاليا وزوبراو. حاول  ، مرار لكنه لم يستوعب الموقف برمته بعد . كلما حاول التفكير أكثر  ، كلما كان هادئا . تبدو كأن شبكة  لفت حوله، غسيل ، غسيل من الراحة، الإطمئنان ، حدث يومي رتيب ، يلفه، غاص بعيدا ، تركه يغرق  بعيدا ثم شعر  بأنه أصبح أكثر هدوءا . صامتا خامره شعور ، كما لو أنه يتهادى بخفة للأعلى والأسفل ، عند الطوف ،  بحر ساكن ، حيث  يظهر وهو محدقا  بالأزرق ...نعم .كان الطوف بإنتظاره. ببطء ، للأعلى والأسفل وبرفق ، للأعلى والأسفل.. لاحت ضحكة على وجهه . كان شعورا رائعا. أمواج على الطوف ، رائعا ، هل يختلف العالم بالنسبة إليه؟ ولارنسكاي ، الصحف ، والموت . ماذا يشعر به بالضبط؟ إذن الضوء ، هل هجرت الروح بدنه ؟  هل يصعد للأعلى ثم يضيع في الأبدية؟ مثل دخان  سيجارته الذي تلاشى في الهواء ؟  هل يستطيع البقاء راقدا ، دائما ،  أو يقضي نحبه ، يغادر جسده بوضوح ... جسده . هل لايزال لديه جسد.

فتح عينيه . شاحبا لمع الضوء  من مصباح الجيب في الزنزانة .  جلس بقربه كاخنوفيتش وسحب قطعة صغيرة من بنطلونه . نظر وارنيف جانبا . إلى الحائط المعلقة عليه الروزنامة . الخميس 3 يوليو . كاتنيكا . اليوم سوف يساعد أباها بالأرض ربما هي نائمة اليوم . كي يستيقظ في الساعة الرابعة صباحا معافى وبصحة جيدة .

مجنون ، كاخنوفيتش ، قال  ثم إرتعب هنيهة  من حدة صوته . تبعه -بهدوء : أفكر فقط بمختلف الأمور التافهة ، الآن على سبيل  المثال  أفكر بصديقتي  التي قابلتها في سمولانيز  ، بدلا من أفكر بحياتي ، وتحديد أهمية ما فعلته . هل لأني خائف؟

-  نظر إليه كاخنوفيتش ثم صمت .

-  تخيل وارنيف  شيئا . ثم لفت أنظاره مظهره الخارجي . فوق رأسه شعر  رقيق أبيض مثل سحابة ضبابية رقيقة تتأرجح حول رأسه، بدون أن تلامسه، عبر ذلك بدت جبهته  عالية وسقط  وجهه، عيونه الصغيرة ، أنفه وفمه ، بالقرب في العدم ، بدا محطما ،  إستولى عليه شحوب السن بدرجة كبيرة .

-  كم هو عمرك ، كاخنوفيتش ؟ سأله وارنيف .

-  واحد وسبعين عاما ،  بدا صوتا متعبا  أكثر من مختلفا . لقد أحضرت قلما وبعض الأوراق  ، كي تكتب لزوجتك ، ربما لن تسنح لك الفرصة فيما بعد .

-  فكر وارنيف مليا .

لا ،  قال ، لا أعرف  ماذا سأكتب .هل تستطيع القيام بتلك المهمة بدلا مني  ؟

- وقف كاخنوفيتش ساخطا .

  لاتريد أن ترسل لزوجتك وأطفالك التحية الأخيرة ؟

-  لا ، كاخنوفيتش ، أنا .. أنت لاتفهم ، سوف  أكتب مجموعة من الأكاذيب .

-  أكاذيب؟

-  نعم ،  سأحاول كتابة جميع الأشياء  التي لم أفعلها .. لاأستطيع... كاخنوفيتش ،  إكتب بدلا عني . نظر  إليه متوسلا .

-  حسنا ، قال بهدوء . أين تسكن ؟

-  في ينوتافيسك .

-  أومأ كاخنوفيتش برأسه إيجابا ؟

-  أغلق وارنيف عينيه مجددا .

لأن جفونه أصبحت ورديه ، فإن مفعول الضوء أصبح خفيفا ، إستعاد سكينته مجددا  - هل من المحتمل  أن نشعر بالهدوء .نعم قال وهو قانع بنصيبه؟

بدا ذلك عملا بطوليا ، ربما كان أقل من بطولي ! في غضون أسبوع تقريبا  سوف تتلقى كاتنيكا رسالة. ماذا ستشعر؟ هل ستبكي؟ وأولادك؟ لهنيهة شعر بالذنب لأنه  لم يمنح لولديه وقتا كافيا  ، ثم قال في نفسه ، بأنه لم يتعرف عليهم جيدا ، ربما أقل من نتاليا . الإبن الأكبر  كان عمره أربعة عشر شهرا عندما غادر المنزل ، الأصغر  ولد بعد مغادرته بثلاثة أشهر . ربما لن يتعرفان عليه  وكذلك هو . ربما لن يستطيع رؤيتهم مرة أخرى . في واقع الحال لا؟ لاأحد؟

كاخنوفيتش،  هل تعتقد بأنني سأتلقى زيارة من أحد؟

-  من تريد أن يزورك؟

-  الرائد بورنوف يريد أن يراني مجددا . أومأ كاخنوفيتش ، بحركات رأسية تغيرت تلك الإشارة بعد مرور لحظات  قليلة .

- أعتقد بأنه لايلائم  القضية .

نظر إليه وارنيف  هنيهة بإحتراس وحذر ، لكنه لم يسأله المزيد . أغلق عينيه ثم فكر مليا . بكاتنيكا والأيام التي قضياها معا . وصديق القلب شوباكوف ،  الذي خدم إبان الحرب في كتيبته والذي لم يعد يراه مجددا بعد هزيمة الألمان ، ثم رآه  صدفة  في سمولانيز  وصديقه كوبراو، الذي كان يزور نتاليا بإستمرار ، ربما  يكون  الآن قد تزوجها ، أوربما حدث ئلك مسبقا  وكوباشيف الذي سأله فيما إذا كان ليسلي كان أول شخص في حياته أطلق عليه الرصاص .  معلم الرياضيات سخارميك في كازان  ، الذي يلوي مخارج الحروف المتحركة بأسلوب غريب ، ذات مرة  دخل إلى الصف بغتة ، بينما سأل وارنيف  من تسبب بمثل تلك الحروف الغبية ، لأنه لم يفقه  بأنه كان يقلده . ببطء أغفل الطريق . الخيالات تتدفق أمام روحه، حركاتهم  تتملص عن إرادته ويعيش كلا منهم حياته على شاكلته ، غير معتمدين عليه . كان  المشاهد المتفرج الوحيد. كيف جلس مع شخارميك في بقايا جوف قذيفة  وأشعل سيجارته من ولاعة شوباكوف وكان يهمهم بمخارج حروف غير مفهومة . ثم رأى رقمين : 44  . الرقم أربعة يعني حياة محظوظة ومكرر أربعة   يعني الموت التعس ، صاح  الجندي الذي أحضره للزنزانة والذي جلس في الحفرة .

إستيقظ وارنيف خائفا .

هل تعتقد بأنه سيأتون اليوم ، كاخنوفيتش ؟ سأله ؟

 كان كاخنوفيتش يرتيدي  ساعة فضية ثقيلة في صدره . لاأعتقد ذلك ، قال بصوت أجش من الصوت الطويل ، إنها تناهز العاشرة . وقف . يجب أن تنام الآن .

-  نعم ، قال وارنيف ومشى ببطء ، أنا متعب . ثم فتح أزرار قميصه

-  تناول كاخنوفيتش أدوات الكتابة .

لاتريد الكتابة إذن.

حرك وارنيف رأسه .

لا ، ذلك أفضل .

طرق الرجل السن الباب ، الذي إنفتح مباشرة. كان وارنيف يستطيع رؤيته من الفراش ، مجددا أومأ له مترددا  . إبتسم وارنيف هنيهة  وقال: إلى صباح الغد...عند الإفكار .

أغلق كاخنوفيتش عينيه  للأسفل  ولم يجب . ظل هنيهة واقفا ثم مشى نحو وارنيف  وعانقه . إستدار يسرعة حوله ثم غادر الزنزانة . مطقطقا أغلق الباب خلفه . تأهب وارنيف ليستلقي على الفراش ، سحب البطانيات فوقه ثم نام على الفور .

 

 

 

 

 

 الفصل السابع

 

حلم وارنيف كأنه واقف على  الحافة بمجموعة من الزهور ونبتة التنوب الأخضر، يطوق حفرة القبر ، نظر إلى كاخنوفيتش ، الذي جلس للأسفل عند الصندوق المحطم  يغني ، كانت الأرض تتهادى للأعلى والأسفل ، المهم في الأمر أنه ترك نفسه يتأرجح وأنصت إليه. حيث جلس كاخنوفيتش في الصندوق ، رأى خيوط وألياف تغطي طاسة الجمجمة أو الجزء المستدير من رأسه كما هو متعارف عليه. كان كاخنوفيتش يردد أغنية تدور حول الشمس الغاربة والسهل الواسع العميق القاحل الخالي من الشجر ، إنتهى  من الغناء ، ثم قال مشيرا إلى طاسة الجمجمة:هذا أنت ، وهذا هو قبرك!

 يجب أن يضحك وارنيف  عاليا من أجل بث روح الفكاهة والدعابة في نفس  كاخنوفيتش. لن أموت  أبدا . قال هو .

-   ثم ضحك كاخنوفيتش . في الواقع كم تبلغ من العمر ، نيكولاي؟

-   لماذا تسأل ؟  قال وارنيف .  لأنك جعلتني أتفوه بشيئ لا أنوي البوح به ، قال وارنيف : واحد وخمسين عاما ، لكنه لم يصدر صوتا ، تحركت شفتيه فقط . حاول التحدث ، بكل ما إستطاع من قوة ، أدخل نفسه في مطبات هو في غنى عنها، ثم مسك حنجرته ،  تفجر العرق منه ، لاصوت يصدر من شفاهه . بعينين حزينتين إنتظر كاخنوفيتش إجابته بفارق الصبر : فجأة إنطلق بسرعة غبار متطاير من الصندوق ، ألقاه للأعلى . ثم وصل  تحديدا إلى نقطة بجبهة وارنيف مباشرة ، ظل محشورا وهو يرتجف . بلا جدوى إبتلع جرادة مسحوقة ، إستند لارنسكاي  بأذرع متقاطعة  في الزاوية  عند حوض الغسيل  ثم نظر إلى وارنيف . الذي بدوره أغلق عينيه  ونظر هنيهة  إلى لارنسكاي ،ثم  أغلقهما مجددا ثم سأله بفترات متقطعة ، بينما وضع رأسه على المخدات  يتعاقب غدوة ورواحا .

-  لماذا ألقيت بي ، كاخنوفيتش؟

-  رفيقي وارنيف ! صاح لارنسكاي  بصوت عال .

لم يفتح وارنيف عينيه وسحب البطانيات فوق رأسه . كان يتأمل جسده من كل تلك التموجات وهو يتحرك بالكامل . وارنيف؟ كرر لارنسكاي  ثم باعد ذراعيه عن بعضهما البعض. أصبحت أكثر هدوءا وسكينة أسفل البطانيات ، أزاحهما وارنيف بعينين خائفتين ببطء بعيدا  . ثم قفز خارجا من الفراش وذهب للوقوف وهو يتأرجح . أومأ  لارنسكاي .

-  هل حلمت؟

-   شحط وارنيف حنجرته .

-  إجلس ، أخبرني بماذا حلمت ؟

-   جلس وارنيف على حافة الفراش وأغلق عينيه ، في لحظة غير قابلة للتجزئة حاول أن يتذكر ، مجددا رأى ما حدث له ،أصبح ماثلا أمام عينيه و عندما فتح فمه كي يخبره  ، تبخر الكلام  مجددا .

-  لاأتذكر شيئا .

-  هكذا إذن ، حشر لارنسكاي يديه في جيبه  ونظر إلى نقطة  في حذائه . حاول وارنيف جاهدا الإستيقاظ كلية . كان صوته عاليا ومشروخا ، فكر هو . فجأة رأى لارنسكاي . أوه... بالضبط ، إنه لارنسكاي ، قال  في نفسه ثم نظر بإتجاه الأرض

- سوف يعدم ...يعدم.... نظر مجددا إلى لارنسكاي وحرك رأسه .  ماهو خطبه ؟  حلم مجددا؟  لماذا هو غير خائف . لماذا  لايشعر بخفقان قلبه ؟  حول مصدر ذلك الهدوء الذي ينعم به ؟  بطبيعة الحال كل تلك الأمور حدثت بسرعة ؟  قتل ليسلي  ،عندئذ  تم إحتجازه  هنا ،  أوه... نعم : تعرف على كاتنيكا  وطالبت الصحف بموته .كان هو .. كا...كو....ماهو إسمه مجددا.  نسى ذلك الشخص  ! نعم : كاخنوفيتش . كان هو كاخنوفيتش  الذي أخبره ليلة البارحة !

أبلغه لارنسكاي بأن الصحف طالبت بموته ... في حقيقة الأمر ،  كان هو لارنسكاي : هناك كان يجلس مسبقا .  الله عظيم ،  ماذا حدث معه؟ روحه ليست قطرات عسل أسود. الأفضل أن يذهب للفراش ويستغرق في النوم .نظر إليه لارنسكاي ضاحكا .

-  تعال، وارنيف، إرتدي  ملابسك وإذهب معي .

-   نظر إليه مندهشا . تعال معي ؟ إلى أين؟  سوف يبلغه بقرار تنفيذ الحكم ؟ وقف  ببطء ونظر إلى لارنسكاي  بعينين غامضتين تبحثان عن إجابة سريعة . في نفس الوقت شرد وإختنق.

- ياترى  ماهو خطب لارنسكاي ؟ 

مرارا وتكرارا أصبحت الرؤيا غير واضحة  ومظلمة هنا رأى لارنسكاي  لمحة عينيه ثم قال: مع كل الرضا والإمتنان أغلقت القضية ..... أنت حر .  مباشرة نظر إليه مجددا  إلى نقطة في حذائه .

 قطب وارنيف حاجبيه ، حر؟  أف . ماذا..لن تتم تصفيتي؟ سوف لن يتم تمثيل الكوميديا حتى النهاية ؟ كوميديا ؟  غرق رأسه ببطء  وهو منكفأ وأغمض عينيه . بطبيعة الحال: كوميديا . كان كل ذلك لعبة مسرحية ... لعب دورالذي يحكم عليه بالموت . أو ... لعله

إستغرق بالنوم ؟ اللعنة،  ماذا  حدث له؟ هل هو مجنون؟ هل سيقتل ! سيموت ! يتعفن بعيدا !  عبس وجهه كما لو أنه يريد تخليص نفسه بعنف من شيئ ما . مندهشا نظر إليه لارنسكاي . يجب أن يستيقظ! مباشرة ! هناك  حيث يقف لارنسكاي  ينظر إليه .

إنتظر حتى يذهب معه . لكن  لارنسكاي قال له مؤكدا بأنه حر الآن ؟ فجأة فكر  بما قاله لارنسكاي  حول القضية، وكرر ماقاله بأنه لا يريد أن يتركه يعاني الأمرين ، لكن  بإستغراب ،  ليفاجئه بغتة بلكمة على الرقبة  ثم لاحقا كي يعرضه أمام الصحفيين، ويذهب إلى منزله مستريح النفس ، راضيا يكتب مقالة خاتمة حول تلك المهزلة كي يحاول تهدئة تلك المشاعر المتضاربة . - نظر إلى لارنسكاي ضاحكا.

-  حسنا  وماذا بعد؟ هكذا إذن سيموت .

-  تأمل لارنسكاي ضحكته وقال:  أرى بأنك سعيد . حسنا و بدون إستغراب ، بعد توتر مثل هذا . بدون حراك ظل وارنيف ينظر إليه ،  تجمدت الضحكة في وجهه.

في بادئ الأمر ضحك لارنسكاي مجددا ، ثم بدأ  وجهه  المخطوف يتصلب  وتلاشت ضحكته . نظر إلى وارنيف  الذي لازال يقف ساكنا ، عموديا  في البيجاما . تلك الضكة . هل هي ساخرة ؟

تساءل لارنسكاي في نفسه . عندئذ فهم على الفور . ببطء قال:  لم أكن  أدري بأنك على علم بالأمر؟ هكذا إذا توقف الفيلم ،  تحرك وارنيف مجددا ،  تناول ملابسه من الكرسي  وبدأ بإرتدائها ، نسى  أن يغتسل . بينما جذب قميصه ،  نظر خلال الفتحة للخارج  ورأى بأن الهواء  أصبح أزرق كلية .  لكن كيف أصبح داكنا؟ فكر بأنها غيمت  ، لكن الشمس  لم تشرق بعد .

مشى لارنسكاي  إلى الباب ونقره نقرة خفيفة  بحلقة معدنية . فتحه وقال شيئا لأحد الأشخاص الذين لم يتمكن ورانيف رؤيته . قم بتشيكل فصيلة من الجنود ، إعتقد بأنه سمع ذلك . إتصل

بي لاحقا، لم يستطع سماع ما قاله . فصيلة إطلاق النار ! يجب أن يحدث الآن بصفة رسمية ! -  ها.ها

-  سيقتل بصورة رسمية ! هذا جائز حتما. تصفح  قبضتيه ، كي لايعير إهتماما للموت .

بنصف إغفاءة ، ذهب لارنسكاي ليجلس على الكرسي .

 -  هكذا إذا فهمت طبيعة الموقف ، قال بعد مرور لحظات قليلة .

-   من أخبرك ؟

 إرتعب وارنيف ، هل يجب عليه  ذكر إسم كاخنوفيتش ؟  سبق أن  أخبره كاخنوفيتش ، بأن الرجال منعوه من ذكر شيئ أمامه . سوف يعاقب !  إتجه نحوه ثم وقف . رفيقي الجنرال ، آخر أمنياتي  أن تعفيني من الإجابة عن هذا السؤال .

 نظر إليه لارنسكاي هنيهة مندهشا ، ثم أشار إلى ملابسه وقال:

  واصل الحديث . -

 وضع وارنيف الحزام حول قميصه ، تساءل في نفسه ، بماذا يفكر ،  ثم إستنتج ، بأنه لم يفكر ، أو الأفضل : بأنه كان يفكر بلا إنقطاع بما كان يفكر فيه .

كم الساعة الآن؟ سأله فجأة ، بدون نية واضحة لطرح مثل هذا السؤال ، بينما جذب حذاءه الجلدي .

- نظر لارنسكاي إلى ساعته .

- أربعة إلا عشرة دقائق .

توقد وارنيف حركاته . أربعة إلا عشرة دقائق ، سيقتل في الساعة الرابعة !  لو يمشي معه الجميع ؟ لكن ليس هذا هو واقع الحال ؟ هذا هو ،  بالضبط لأن ذلك سيحدث في الساعة الرابعة، هل كان حظا تعسا أم لا؟ كان لايؤمن  بتلك الدلالات  المستهلكة وبالتالي لايؤمن بمعتقدات أخرى غير الدين . فجأة سأل نفسه أين يكون بعد ربع ساعة من الآن، وبماذا سيشعر .

على الفور طرد تلك الأفكار من رأسه  وفكر بكاتنيكا. في الساعة الرابعة حيث نتواجد ، سمع نفسه تردد الوداع الأخير . من المحتمل إنها بإنتظاره الآن ،قرب سلة فواكه كي يتذوقاها معا في الغابة . ربما ستنتظره حتى الساعة الرابعة ...... عند الساعة الرابعة  سيموت رجل بعينين زرقاوين .أصبحت حساسا للغاية، فكر ثم قطب حاجبيه سويا .  لكن ربما يصحو فجأة عندما يتذكرها ، كان غارقا بالنوم بعد ذلك الصخب والإستيقاظ المبكر . إرتدى ملابسه بالكامل  ونظرإلى لارنسكاي بترقب . أومأ ذلك الأخير ، وقف وطقطق على الباب . فتحه أحد الجنود.إنعطف لارنسكاي برأسه  نحو وارنيف  وغادر الزنزانة . نظر وارنيف  هنيهة  حوله ثم توقف في الممر . الجندي أغلق الباب المطقطق رقم 44 . صامتا مشى بقرب الجندي خلف لارنسكاي . الممر كان فارغا و طويلا ، لم يلاحظ ذلك مطلقا عندما قدم هنا للمرة الأولى.  هنا .. هنا يمشي الآن : ثلاثةرجال : جنرال، جندي ، و رجل محكوم عليه بالموت . كل هؤلاء الثلاثة يمشون بنفس خطوات الأقدام على البلاط. لليسار،لليمين ، لليسار ، لليمين . تمتزج خطواتهم بضربات القلوب . تسرب أزيز إلى أذنيه. مجددا أصبح أكثر حدة ، على السجادة ، لليسار ، لليمين ، لليسار ، لليمين ، إهتز.. أغلق عينيه وتأرجح ، تلقفه الجندي . لم يفتح عينيه . جذبه الجندي من ذراعه وشده بإحكام . كم يبلغ طول الممر ؟ عشرة أمتار؟ لانهائي ؟ الآن يمشي بيسر ، مستندا بالجندي ، إلى مالانهاية ، الموت......شعر بغشاوة تغلف عينيه ثم أصبح أكثر هدوءا . بالتأكيد كان كل شيء جميلا ، وسهلا ...

-  ياترى أي نوع من الضجيج هذا ! كان كل شيء يهتز.

ذلك المبنى لن ينهار على بعضه ! إنعطف برأسه بجدية لدى سماعه  الصوت المطقطق ، عند نهاية الممر الجانبي وقف كاخنوفيتش مع جندي ، الذي فتح باب الزنزانة .

-   أنظر ،  ماذا يفعل كاخنوفيتش الآن؟ بسط ذراعيه للخارج .

-   لماذا؟ أف..نعم، سيموت . مرحبا ، كاخنوفيتش .

-   الوضع مزري، الأمنيات الأخيرة. يستطيع أن يرددها هو فقط . ماجرى اليوم مثير للشجن ، ميلودرامي ومثير للعواطف كوميدي وزائف  ،سيكتب رسالة إلى ناتاليا. ناتاليا.. أنظر، الآن  سيصلان للميدان .لليسار ينتصب القفص حيث يتنفس الصعداء كل صباح .  إتجه لارنسكاي لليمين .

-  هل كل شيء هنا ضبابي  ومظلم ، بالتأكيد لم تشرق الشمس بعد. الساعةالرابعة. كاتنيكا .. هناك لليمين، مقابل الحائط ، يقف جنديا يتحدثان هناك  ، أي نوع من الناس كانوا ؟

بتلك الخوذات ، من الطبيعي كانوا بإنتظاره ، قدموا للمشاهدة ، مثل  أي مسرحية متقنة . المسرحيات المتقنة تشهد  إقبالا واسعا من النظارة . كانت تلك مسرحية أخرى . حصل على دور رائع .أنظر ، مسدسات الجنود مقابل الحائط ، سيقتل بها حتما .لهث وارنيف. يجب أن يصحو الآن ! يجب! يجب! يجب! نظر إلى المسدسات وإرتعش . إرتعش !إستيقظ .

-إرتجف إذن ، إرتجف! قال أحدهم . هناك توجد المسدسات حيث سيقتلونه !  بالتأكيد خائف     إبكي ، أصرخ ! توسل من أجل الرحمة . شتموه .

-  بينما واصل المشي ، أشار لارنسكاي إلى الجندي وظل واقفا . أين يتجه؟

-  أف ، إلى الضابط  الذي يجلس هناك على الأرض واضعا رأسه بين يديه ، سوف يترأس بطبيعة الحال عملية تنفيذ الإعدام .

-  أف، أف ، كم هو حزين .

إنقضى الأمر ، تردد الصوت مجددا . هل تسمعني ، نيكولاي ، لقد إنقضى الأمر !

لن تغرق مرة أخرى بعيدا ، سوف تموت !  بعد مرورو خمسة دقائق سوف ترقد هناك ، بخمسة فتحات في جسدك ! وسوف يحملونك ويضعونك في صندوق وتدفن في مكان ما !  ثم يعودون إلى مجددا إلى عملهم كالمعتاد ! لاحقا إلى المنزل ، إلى موسكو ويونوتافاسك! إلى باريس ولندن ونيويورك! ولكن أنت بعينين زرقاوين سترقد هنا بالظلمة وتتعفن .برئ ! ولكن كيف ماذا جنيت حتى تكون بريئا . لاأحد برئ . سوف تموت . تموت ، نائما !

إرتخي ، إستيقظ !

إلتوى وارنيف لكنه لم يتمكن من الإسترخاء . ولم يبذل أي جهد ،  بالتأكيد لم يود ذلك . يريد بالتأكيد أن يموت ! سوف يموت ، بين المطرقة والسندان ، نائما ، غير حرا ، مضغوطا .

أين سيولد؟ لكن في مكان ما عاشت إمرأة في الثلاثين مع ولدين .

-  هل كان ذلك مغزى حياته ؟

عبر سحابة رقيقة رأى الجنود يؤخذون مسدساتهم ، مصطفين ، ينظمون مواضعهم حسب إرشادات الضابط الحزين ، الذي وقف بظهره بإتجاههم .  هكذا إذن ، هناك  ستتم العملية ، الفصل المسرحي الأخير ، الذي ينتظره العالم ، هناك ،  مقابل الحائط . فجأة  سحبه الجندي من ذراعه . إلتف الضابط  حوله . بورنوف !

ثنى بورنوف يديه بإيماءة ، توسل وحرك رأسه ، كأن شفتيه تريدان قول شيئا .  لم يستطع وارنيف أن يفهم مايقصد .  أومأ ضاحكا .  قاد بورنوف فريق الإعدام . بورنوف  الذي أراد أن يساعده كثيرا، بمجرد أن يطلق سراحه ، سوف يتلفن له ، هناك يقف إلى جانبه هؤلاء الجنود الفضوليين، يتطلعون  ويجب أن يطلقون إشارة إعدامه:  آخر مشهد سوف يراه حتما . ولكن لماذا ليس بورنوف ؟ أفضل من أحد غريب! ماذا يعني بتلك الإشارة؟ بأن كل شيء سيتم  خارج مسؤوليته  لأنه وصل فجأة؟ الآن  سوف يساعده بورنوف على الموت. وفيما بعد سوف يتلفن له ويشكره ،   عندما يصبح حرا  ، من السماء، هاها ها ! تأوه. لماذا لايستطيع ذلك ، لماذا ؟ سيموت بالتأكيد!

-  هل تريد أن تكون معصوب العينين ؟ سمع أسئلة حادة ومتضاربة .

-  حرك رأسه سحبه الجندي بإتجاه الحائط . هناك ،  سوف تتم العملية ، شتم النازي

-  نادى أحدا من العالم .

إشتعل لارنسكاي غضبا ، غضب هيستيري مريع . زمجر  حتى إعتقد  بأنه سيطلق الرصاص على ذاك الساخر بدلا من وارنيف ، فيما إذا فتح فمه مرة أخرى مجددا تدلى رأس وارنيف  بعمق على صدره ، لم يسمع شيئا .

-  هل تريد أن تقول شيئا ؟ إندفع صوت لارنسكاي خافتا ومن مسافة بعيدة  حتى سمعه ثم حرك رأسه .

 - تراجع كلا من الجندي ولارنسكاي من موضعه خطوات للخلف . إنعطف لارنسكاي  صوب  بورنوف ، الذي إعتاد على وجه وارنيف

هكذا إذن في تلك اللحظات سوف لن تنطلق ولو كلمة واحدة من شفتاي ، فكر وارنيف ببطء لوحدة ، يتنفس بصعوبة . حاول  أن يترك العنان لأفكاره ، لكنه لم يفلح ، جلسا بإحكام ، كما لو أن عائقا  كاملا في طريقهم لايمكن تجاوزه.

- أوه ،  يا إلهي ،  بسرعة ،  عدة ثواني . فكر ، فكر.

- هذا يعتمد على !

 أغمض وارنيف عينيه .إنطلق صوت كاميرة التصوير . سمعها .  لم ينبس مرة أخرى بكلمة واحدة ، تستلقي كاتينكا الآن،  مشى عنكبوت فوق قدميه . يالها من شتلات طويلة ..... شتلات طويلة  كريهة .  إنتفض من الإنفعال  الشديد ثم نظر حوله ،أطلقوا النار،  صوت بورنوف صائحا ، وذراعه للأسفل .  بعد تلك الكلمة كأن حملا ثقيلا أزيج من كاهله ، أو كأن العالم قد إنتزع منه . 

إنتهت                          

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

من حياة الروائي الهولندي هاري موليش

  

بقلم : إنتصار الغريب

  


( كان تفتحا مبكرا نحو الكتابة ، قرأت أثناء الحرب العالمية الثانية كثيرا من الكتب النفيسة والمهمة وعندما كنت أتجول بين الخرائب وأطلال الحرب ابان الحرب العالمية الثانية اكتشفت الكثير من التفاصيل التي شكلت مادة مثيرة لكثير من الاعمال التي كتبتها لاحقا ، من المؤكد ان كل كاتب يعمل وفقا للمادة المتوفرة بين يديه ربما تكون حياته التي دمرت وليس لديه من مناص آخر سواها ، أو خبراته ، تجاربه الشخصية ، خيالاته ، كل تلك المكونات تقود الى عمل روائي متكامل الاجزاء .. استطيع وصف سيرتي الذاتية على أنها مصدر للادراك والفهم ومنبع للالهام، سيرة ذاتية متكاملة تجمع الماضي ، الحاضر والمستقبل .. عندما تتحول الوقائع الى ماضي ، فانها تصبح شيئا سرمديا غير قابل للتدمير أو النسيان )- هاري موليش Harry Mulisch من كتاب سيرته الذاتية : مستقبل الماضي .


كانت ولادته في 29 يوليو عام 1927 في مدينة "هارلم" التي تقع على مقربة من العاصمة امستردام ، وتتميز بكثرة الكرنفالات والاحتفالات التي تقام على أرضها سنويا و كذلك الترع والقنوات المائية التي تشق المدينة وتزيدها جمالا ومتاحفها التاريخية .. ولد كابن وحيد للسيد "كارل فيكتور كورت موليش" المولود سنة 1892 في مدينة "جابلونز" التي تقع على الحدود النمساوية-الهنغارية" وينحدر والده من أصول يهودية أما والدته فتدعى "اليس شواز" ولدت سنة 1908 في مدينة انتفيربن البلجيكية .

عانى هاري الصغير مرارة الفراق ولوعته منذ نعومة أظفاره ، ومن المعروف أن أجداده لوالدته وماترتب من آثار تدميرية جراء الحرب العالمية الاولى من تدمير للمدن والبنية التحتية ونزوح جماعي الى البلاد المجاورة هربا من جحيم الحرب التي أكلت الاخضر واليابس ولم ينجو منها الا نفر قليل من الناس بينما خلفت عشرات الملايين من الضحايا ، اجبروا على مغادرة الاراضي الهولندية. أما جده لوالده فقد كان يعمل مديرا لاحد المصارف الكبري في امستردام تمكن السيد كارل فيكتور والد هاري وكان يحمل رتبة قائد عسكري ابان الحرب العالمية الاولى من العودة الى هولندا .. في ذلك الحين وصلت السيدة "فريدا فولك" من أصول بولندية للعمل في منزل الاسرة الكبير حيث تولت ادارة شؤون المنزل ويعود لها الفضل الاول في تنشئة هاري في منزل يتحدث معظم افراده اللغة الالمانية وبواسطة السيدة فريدا تمكن من تعلم اصول اللغة الهولندية وسنحت له الفرصة اكتشاف عوالم سحرية جديدة كان يجهلها .

تدرج هاري في التعليم مثل بقية أقرانه بدءا من المرحلة الابتدائية من عام 1933 الى 1939 ثم التحق بمدرسة الليسيه يمدينة هارلم وهي مدرسة فرنسية يتوفر فيها قسمين هما العلمي والهولندي في هولندا وكانت سابقا مدرسة مخصصة للبنات فقط في بلجيكا ، عام 1936 انفصل والديه عن بعضهما وكان في التاسعة من عمره ثم قررت والدته الاقامة في امستردام بينما تولت المربية فريدا رعايته ابان سنوات الحرب العالمية الثانية اشتغل والده مديرا تجاريا لدى مؤسسسة "ليبمان-روزنتال" الشهيرة على مدى سنين طويلة وهي احدى المؤسسات المصرفية الكبري التي تولى رئاسة مجلس ادارتها أفراد يتحدرو من جذور وعائلات يهودية . وأثناء الحرب القي القبض على والده ثم تم ترحيله مع العشرات الى احد معسكرات الاعتقال النازية وقتل فيها . هاجرت والدته سنة 1951 الى مدينة "سان فرانسيسكو" حيث حصلت هناك على الجنسية الاميركية ، ثم قضى هاري سنوات طفولته مع مربيته فريدا .


وقد كتب هاري في يومياته التي صدرت في قسمين ، حملت عنوان "ايام من شبابي " الجزء الاول يؤرخ من عام 1927 –1951 بينما يؤرخ الجزء الثاني من 1952 –2002 ويصف في تلك اليوميات الاهوال التي صادفت الاسرة ابان الحرب العالمية الثانية وعلاقة والديه التي انتهت بالانفصال ، و علاقته الخاصة مع والدته ، ويسجل في الجزء الاول من تلك اليوميات حلم الصبا الذي تجسد في امنيته في أن يصبح عالما أو مخترعا بامكانه ان يقدم للبشرية خدمات جليلة بواسطة سلسلة من الاختراعات يقوم بها عندما كان صغيرا تمكن من جمع مبلغ صغير من المال ليفتتح محتبرا صغيرا في منزل العائلة الكبير الذي يقع في هارلم ثم اشترى بعض المعدات والاجهزة حيث كان يمكث ساعات طويلة منهمكا في اجراء بعض التجارب الكيميائية وقد علق فوق الباب لوحة معدنية صغيرة كتب عليها "السيد ها.كا.في .. موليش ايسك" ..الصمت .. اغلق الباب من فضلك وهو بذلك يعمل بحكمة العلماء والتي تتلخص في العزلة عن العالم الخارجي ، والغوص في أعماق النفس البشرية واكتشاف النفائس العلمية التي ستقدم خدمات جليلة للبشر فيما بعد ، أما عن امنيته فقد تجسدت في كونه حلم ذات يوم بأنه سيصبح أول مكتشف شاب يكتشف مايسمى "حجر العقلاء" الذي عجز الكثير من العلماء عن اكتشافه في القرون الوسطى، مثل الكثير من أحلام الطفولة والشباب كان يبدو حلما مثاليا لايشوبه عيب أو خطأ حتى انه شعر بالاضطراب لمجرد انه سيفشل ذات يوم في تحقيق حلمه لدرجة انه تغيب اياما طويلة عن محبيه وأهله لايرى أحدا ، كان اكتشافه المبكر مثار اعجاب شديد في نفسه واعتقد انه اقترب من النجاح ولكن الرياح جاءت بما لاتشتهي السفن ، ولم يصبح موليش مخترعا وانما كاتبا روائيا مرموقا وعبقريا في نفس الوقت شكل ظاهرة جديدة في الأدب الهولندي بموهبته الفذة واعتماده على عنصر التخييل كعنصر جذب هام للقارئ مختلفا عن بقية الروائيين الهولنديين الذي اعتمدوا على الواقعية في بناء في صناعة روايات متميزة ، نستطيع القول بأن ذلك التحول الجذري والهام في حياة موليش بدءا من الاختراعات الى عالم الكتابة شكل منعطفا هاما في أعماله الروائية المختلفة وأصبح مولعا بذلك النوع من التأليف والكتابة ، هذا ماقرأه الناس قي رواياته ومجموعاته القصصية والشعرية ومسرحياته ، منذ صدور كتابه الاول الذي حمل عنوان "آرخيبلاد ستروهالم" عام 1952 و يدور حول رجل غريب الأطوار يقرر القيام بمغامرة تؤول به الى الموت .

ان لموليش وجهة نظر خاصة تتمثل في بناء ترابط قوي ومتين في المواضيع الروائية وطغيان عنصر الماضي على البشر كجزء من المستقبل وهو بذلك يكثف من عنصر الغموض في الشخصيات التي تنتابها مشاعر الذنب وهي نوع من الارهاصات أو الاعراض الاجتماعية التي يستثمرها لاضفاء مزيد من الجذب والتشويق في موضوعات رواياته على سبيل المثال رواية "الضوء الأسود" 1956 ورواية فراش العروس الحجري 1959 ، الراوي 1970 ، امرأتان 1975 ، الهجوم 1982 ، وزمن الذروة 1985 .

وهناك عنصر "العنف" الذي يدفع موليش نحو التفلسف، حسب وجهة نظره، فهو نتاج الظروف الحياتية السيئة والموحشة التي تداهم الانسان في فترة من حياته ، على سبيل المثال آثار الحرب وماتخلفه من دمار في نفسية وسلوك الفرد العادي ، وموليش ليس ببعيد عن هذا الواقع المرير الذي عاشه ابان الحرب العالمية الثانية من تهجير وفراق قسري جعلت حياته تبدو أكثر تعقيدا ، عندما بلغ التاسعة انفصل والديه عن بعضهما وفي زمن الاحتلال النازي اشتغل والده مع الألمان في معسكرات موحشة ، مظلمة ، هذا الصراع المحتدم في نفسه تمخض عن رغبة في كشف الظروف العنيفة القاسية التي تركت آثار واضحة في شخصيته ولازمته الى أرذل العمر مثل الفزع الذي ينتاب الانسان بين الحين والآخر أو انسان يعتصره الالم بين الحين والآخر من مشاهد الفراق أو يداهمه الحنين الى المدينة التي هجرها مكرها أنه اشبه بكابوس لايمحى من الذاكرة على الرغم من مرور عشرات السنين والتجارب ، على سبيل المثال روايته " "فراش العروس الحجري" يتعرف القارئ للوهلة الاولى على شخصية طبيب الاسنان الاميركي "نورمان كورنيث" الذي يتورط غير قاصد مع مجموعة سرية في قصف مدينة درسدن الالمانية في شهر فبراير سنة 1945 وبعد مرور ثلاثة عشر عاما على انقضاء الحرب يتلقى دعوة للمشاركة في مؤتمر طبي في المانيا الشرقية يحضره عدد كبير من اطباء الاسنان ، مع بدء الافتتاح يتصادف وجود الطبيب "الكسندر سخيف درهان " وهو من المانيا الغربية وتدور بينهما نقاشات حادة حول تفاصيل وفظائع جرت ابان الحرب العالمية الثانية ومن هو المسؤول عما جرى ، ثم يلتقي "هيلا فيبهات" وهي احدى ضحايا الحرب ، قضت سنوات طويلة من حياتها في معسكرات الاعتقال يعشقها للوهلة الاولى ثم يلتقي في اليوم التالي مساعدتها الشقراء "كارين" التي بدورها تحاول غوايته وتضليله قدر الامكان كي لايلتقي بهيلا التي يعشقها وينتظر رؤيتها على أحر من الجمر .

ثم نتطرق الى البدايات الاولى لهاري في عالم الكتابة من خلال حكاية قصيرة باسم "الغرفة" نشرت في مجلة "السفير" الاسبوعية التي لازالت تصدر في هولندا ، ثم تدرج في عدد من الوظائف والمهن البسيطة قبل ان يقرر ان احتراف الكتابة سنة 1949 و نتناول بالذكر أهم المحطات الادبية في حياته مع تفاصيل كثيرة حول الروايات التي كتبها مع كاتب اتخذ من التخييل وسيلة للتعبير عما تجود به نفسه من مكنونات ولايبدو عليه الندم لانه عاش تلك الحياة التي وصفها يوما بالمجنونة .

في عام 1951 انجز كتابة روايته الشهيرة "ستروهالم آرخيبلاد" التي توجها بحصوله على جائزة "رينا برنينسن خيلاليخس" بعد مرور عام هجر منزل العائلة ومنذ ذلك الحين وهو يعيش في امستردام . تزوج من امرأة تدعى "سوردي فاودنبيرخ" سنة 1971 انجب منها ابنتين هما "آنا" و "فريدا"، سنة 1993 وعندما كان منشغلا بالاحتفال بعيد ميلاده الخامس والستين توج أبا للمرة الاولى في حياته عندما انجبت له صديقته الجديدة ولدا أسماه "ميترو" .

من (1958-1962 ) ترأس موليش تحرير صحيفة "المنبر" ومن عام 1961-1969 اشتغل محررا في صحيفة راندستاد الشهيرة وفي اعوام 1965 –1990 كان محررا في صحيفة "ديخيدز" ، ولازالت تصدر في هولندا ، حصل على جوائز أدبية وتقديرية لاتحص طيلة حياته تعتبر من أهم الجوائز في الادب الهولندي من أهمها جائزة "رينا برينسن" الشهيرة . ثم حصل على جائزة "باينكورف" للادب سنة 1957 عن روايته الضوء الاسود وعلى جائزة آنافرانك" سنة 1957 ثن على جائزة "فيسر"" الهولندية 1960 عن مسرحيته الشهيرة "تاتخيرين" ثم جائزة "تاوس" 1961 عن مجموعاته القصصية وعلى جائزة "فايفربيرخ" 1963 عن روايته "القضية" 40-61 ثم جائزى قسطنطين ثم جائزة "هوخينس" 1977 عن مجموعة قصصية ثم حصل على جائزة الدولة الهولندية عن الادب ثم على جائزة هوفت سنة 1977 ثم حصل على جائزة ديبزي سنة 1986 عن روايته الاكثر مبيعا "الهجوم" التي كتبها سنة 1982 ثم على جائزة "مواتا تولي" سنة 1993 من بلدية امستردام عن روايته الضخمة "اكتشاف الفردوس" ثم جائزة "ميكا " سنة 1993 من مجموعة النقاد الادباء في هولندا واقليم فلاندرز، في عيد ميلاده الخمسين الذي تصادف عام 1977 حصل على لقب الفارس بجدارة واستحاق وفي عيد ميلاده الخامس والستين اقيم عرض مسرحي خاص تحت رعابة "متحف الادب ومركز التوثيق " في مدينة خرافنهاخ" تضمن روائعه الادبية والمسرحية وحصل على لقب الضابط من بلدية امستردام عن روايته اكتشاف الفردوس .

قدمت بعض أعماله في السينما ونالت بعض الافلام جوائز عالمية سنة 1977 أخرج بوبي ايرهارت قصة هاري موليش القصيرة "الحدود" للسينما ثم تحولت روايته الشهيرة :امرأتين" الى السينما عام 1975 بفيلم حمل نفس الاسم وحصل على روايته "القضية" سنة 1986 على جائزة غولدن جلوب وعلى جائزة اوسكار عن فيلم حمل نفس الاسم عام 1994 قدمت روايته "زمن الذروة" للسينما في فيلم أخرجه فرانز ويسز.




عالم موليش السحري

 



تتميز المجموعات القصصية التي كتبها هاري بالشمولية واحتوائها على مشاهد كثيرة تختلف من موقف الى آخر ، وهو بذلك يعرض وحدة متكاملة ومترابطة وفي نفس الوقت تسلب القارئ منذ الوهلة الاولى ولاتجعله يشعر بالسأم في مقالة كتبها خصيصا لصحيفة دي خيدز سنة 1960 قائلا : ان المجموعة الكاملة لأعمال الكاتب تشكل بمثابة عضو كبير متكامل الاجزاء يحتوي على تفاصيل كثيرة ، حيث يتألف كل جزء بالاتحاد مع الوحدات الاخرى على عدد من العقد ، الاعصاب ، القنوات والعضلات ومن وسط ذلك الخضم الهائل يشعر كل عضو بالترابط والتناغم مع الجزء الاخر حيث يتم ارسال الاشارات في سرية تامة وهنا تتجسد مهارة المؤلف في ربط تلك الاجزاء ببعضها في عملية تشبع عملية التمثيل الغذائي التي يقوم بها النبات في نهاية المطاف بمثل المجموعة الكاملة سواء تلك المتمثلة بالرواية أو القصة بمثابة عضو جسد جديد للكاتب ، جسد مترابط الاجزاء .

كما ان بعض الاعمال القصصية التي كتبها موليش تقع تحت تأثير فلسفة الحياة الاسطورية . حيث كتب مرارا حول الواقعية المتواصلة وحاول تفسير ما يقف وراء ممارسات الانسان العادي والاشياء المجهولة التي تقع في الحياة ويصعب تفسيرها أحيانا ، بذلك تصبح الواقعية في أعمال موليش شيئا ثابتا وليس مستنسخا ، كما يذهب الى تفسير اللحظة الاسطورية في حياة الانسان ، لكنه يخشاها في نفس الوقت أو ربما يكشف النقاب عن حدث ما ، الحركة في مواجهة الصمت ، الحياة ازاء التعصب والجمود وهناك معضلة هامة لايمكن اغفالها في غالبية الاعمال التي كتبها تتجلى في "اسطورة العودة " دائما كعنصر هام كما في اسطورة أوبيدوس . وهناك السؤال الابدي الذي يلح في نفسه عن ماهية الموت هنا يصوره موليش كعنصر متفوق ينتصر في نهاية المطاف مهما بلغت قوة الانسان وجبروته . في الاسطورة الاغريقية القديمة لم يجد أوبيدوس اجابة شافية للغموض الذي يكتنف الكائن الخرافي أو لغز مراحل التطور البشري والانتقال الزمني ،أو سر تحول الكائن الخرافي "العنقاء" أو الفينيق من مرحلة الى اخرى حتى يفنى ذلك الكائن أو الطائر الذي يولد من النار والرماد وفي نفس اللحظة التي يشعر فيها باقتراب أجله اما بسبب المرض أو الشيخوخة يرعد بصوت باك اشبه بهزيم الرعد ثم يتقدم نحو النار وبعد برهة يتحول الى رماد والرماد يقاوم السنين محتضنا بقايا الطائر المخترق، في مسرحيته الشهيرة "أوبيدوس..أوبيدوس" يقدمه على انه مكتشف للساعة أو العداد الزمني يتمثل العنصر السحري لدى موليش في تفسير ماوراء الواقع أو الحقيقة حيث يمثل شخصية الكاهن الذي يلعب دور الوسيط بين البشر والجانب الخفي ، كما في الالهة القمر "اوزوريس لدى الفراعنة شافي العيون ومكتشف الكتابة الهيروغليفية الذي يصوره على انه القائم على حقوق المتوفين وهو بذلك يمنح الاسطورة قوة سحرية وكذلك معلم الكيمياء القديمة في الزمن الاغريقي "هيرمز تريسميخستيس". لقد أنتج موليش روائع ادبية ترتبط بعالم الاسطورة مثل اسطورة اودنيس واوزيريس وآتيس ، قدم موليش في اعماله تلك الامثلة التاريخية محاولا تفسيرها باسلوب روائي لايفصل الكتابة عن الاسطورة ولكن تبقى المشكلة الابدية والتي تتمثل في ماهية الكتابة ،كيف وعن ماذا نكتب؟ مستقبل الامس أو مستقبل الحاضر اوما أطلق عليه موليش بالعلم السفلي أو الغير حقيقي ، حيث أن ذلك النموذج من الكتابة هو الذي ينتصر في نهاية المطاف . لكن من خلال لغة مكتوبة برصانة تتصيد الحقائق بدقة مثلما وقعت ، الكتابة بمعناها المفهوم والواضح ليس حول شئ حدث فعلا ولكن حول أمر سيحدث لاحقا أي التنبؤ بما سيحدث لاحقا يؤكد موليش بان الكتابة الخيالية لاتتعلق بالمؤلف فقط ولكن بالقارئ الذي سيقرأ العمل فيما بعد وتشكل الاسطورة السحرية أرضا خصبة لعالم الكتابة الخاص بموليش ، تنقسم المراحل الادبية الكاملة للكاتب الى ثلاث فترات بدأت المرحلة الاولى في عام1952 برواية "ستروهالم ارخيبلاد" ثم نشر سلسة من الروايات الخيالية والرومانسية والقصص القصيرة والمسرحيات .

في روايته "المعجزة" التي كتبها عام 1953 ونشر مقاطع منها في جريدة "هارلم" الشهيرة صور الجوانب غير المنطقية والمثيرة للسخرية والتهكم الذي تتميز به بعض الشخصيات والتي تزخر بها الحياة على سبيل المثال موضوع فقدان الهوية ، تفشي العنف والشرور ، العلاقات الجنسية ، تمجيد الام والاب كل تلك العناصر ومايشابهها اضاف اليها موليش جانبا كبيرا من الاهمية وكأنها جزء رئيسي من الحياة اليومية في عالم اليوم ، في رواية صغيرة كتبها عام 1956 تحت اسم "الضوء الاسود" صور الشخصية الرئيسية في الرواية "مورتيس كيلي " ويعمل قارعا للاجراس ، عالقا بين منطقة حدودية ما بين حياة الجنون والحياة العادية ، في ظل انهيار المثل الاخلاقية وندرج هنا مقطعا من الرواية" العالم بأكمله يقف شاهدا ، يعود ظلها مجددا والازرق لايزال مثلما هو متفردا وأما الابيض فينبعث من بين سحابتين واللون الاحمر يتمركز في منطقة الافق ، حيث الانسان مستلقيا وهو ينزف في استاد رياضي عملاق حيث تجري مسابقات لم يسبق لها مثيل . ثم يظهر عالم جديد والقمر يصبح مثل الدم و تبدو الارض سوداء وتعاني انفجارا بشريا هائلا .. يشكل هذا المقطع من الرواية نهاية لكل العصور ، أما بالنسبة لبطل الرواية فيبقى ذلك نفس العالم الذي اعتاد العيش فيه من قبل .

في المجموعة القصصية التي حملت اسم " رجال الزينة" 1957 والتي تحتوي على سبعة قصص كتبها ما بين أعوام 1953 – 1955 تتمركز القصص حول الشخصية الرئيسية وهو البطل قصة " التقييم" تدور حول مجند عسكري يذهب لاداء الواجب وهناك يتواجه مع كل نماذج البشر من الشرير الى المتمرد واليائس ومعنى تعرض الانسان للتدمير بجميع أشكاله و لايتوانى عن اظهار بعض الجوانب الخفية في الانسان والتي لاتظهر الا في حالة تعرضه للهلاك . أما قصة "العودة " فهي تدور حول رجل عجوز يبدأ رحلة البحث عن والده الذي كان في الماضي مدمنا على الكحول ويعثر عليه بالصدفة ،وهو عائد من رحلة البحث عنه ، هنا يصور البلاد عندما تقع تحت نير الاحتلال وضياع الانسان الذي خسر ماضيه ومستقبله . اما المثير للقارئ في تلك المجموعة القصصية ماحدث للرقيب المجند "ماسارو" من أهوال .. أما في قصة "قفزة الخيول والبحر الحلو" فهي تشير الى مرض التعصب الاعمى الي يداهم البشر الذين عاشوا في ظل ظروف معيشية صعبة ومعقدة للغاية ابان الحرب الاهلية وماحدث لهم على أرض الواقع بعد ذلك مايحدث لبطل القصة ماساروا اشبه بتفاعل كيميائي بين الجسد والروح . قصة "قفزة الخيول" يغلب عليها عنصر الاسطورة وتتمثل حول قصة فتىحالم في الثالثة عشر من عمره يتخيل نفسه انه سيعود الى زمن الاساطير في جزيرة تسمى "ارض الهزات" ولكن البحر يهزمه في نهاية المطاف، قصة تعبر عن معاني كثيرة أراد موليش توصيلها الى ذهن القارئ . من خلال لغة تأليف ذكية وقوية في نفس الوقت .

في نفس الفترة كتب موليش مسرحية "الزر" تحديدا عام 1958 وتم عرضها للمرة الاولى عام 1960 في العاصمة البلجيكية "بروكسل" وتقدم حكمة خيالية حيث العالم ينهار اثر الدمار الذي ينجم عن انفجار القنيلة النووية وتطور العلوم الى درجة يصعب للانسان السيطره عليه وتبعث التطورات العلمية الاخيرة الخوف في نفس الانسان في آن واحد ، " قصة تخيلاين" كتبها سنة 1960 تصور الفرق بين الخير والشر حول رجل شرير يدعى "تخيلاين" يدعي انه صانع معجزات وقادر على الاتيان بأفعال يعجز عنها البشر العاديين ولكنه في حقيقة الامر لايتقن سوى لغة القتل والجريمة بجميع أشكالها.استقى موليش فكرة تلك القصة من مصادر تاريخية حول رجل يدعى "تانخيلم" عاش في القرن الثاني عشر، ارتدى ثوب الهرطقة وانشق عن دين المسيحية وفي أيامه الاخيرة يصاب بالجنون ويتخيل نفسه أعجوبة العالم و زعيم العلم ثم يعيش في مخبأ بعيد عن البشر .

عام 1959 كتب موليش روايته الثانية الضخمة "فراش العروس الحجري" وتتميز بالطابع الشعري و تعتبر من روائع الاعمال الادبية التي كتبها طيلة حياته، تدور حول موضوع العشق والحرب وماينتج عنها من أثر تدميري للحلم والامنيات تتألف الرواية من عنصرين عما " عنصر الواقعية وعنصر الاسطورة" ، العنصر الاول الواقعي يدور حول طبيب الاسنان الاميركي نورمان كورنيث " الذي حضر مؤتمرا طبيا في مدينة درسدن الالمانية التي تتعرض لتدمير هائل ابان الحرب العالمية الثانية وكان يعمل طيارا في جيش الحلفاء الذي قصف المدينة سنة 1945 بلا معنى أو هدف وكان هتلر على وشك ان يتعرض للهزيمة بالاضافة الى تعرض العديد من الناس للهلاك بلا هدف أو معنى ومحاولة الكثير منهم عبور النهر هربا من جحيم المدينة التي كانت تحترق بضراوة مما نتج عنه غرق الكثير منهم في مياه النهر .

حاول موليش في تلك الرواية تصوير طبيعة العلاقة بين عنصر الحرب وعنصر الانتصار من خلال شخصية المغنية "هير فيبان" التي تصدح باناشيد النصر رغم الموت والدمار الذي لحق بالمدينة ، أسماء مثل الطبيب كورنيث والمغنية هيلا يرمزان الى الميوثولوجيا الكلاسيكية القديمة ، هنا يربط بين دمار درسدن والدمار الذي تعرضت له المدينة القديمة "تروي" وحريق روما الشهير ، لايبدو كورنيث شخصا مختلفا عن بقية الشخصيات الرئيسية في أعمال موليش ، لكنه يشعر بالحنين الى موضوع الابطال وهو هنا يشعر بأنه شهيد في معركة اغريقة أو كما في طائر العنقاء يبعث من الرماد ، طائر لامثيل له يموت ويحيا في آن واحد ، يوجد وراء الشمس ، ويستمد من الشروق الانبعاث ومن الغروب الموت في انتظار ضوء الشمس في الغد ، طائر يولد من النار والرماد . تبدو مهمة موليش واضحة حيث يقوم بدمج الاحداث التاريخية مع الاسطورة الاغريقة ويبقى محافظا في نفس الوقت على عنصر الخيال وبطبيعة لحال يقترب عنصر الاسطورة من الواقعية وهو بذلك لايبتعد عن الاحداث التي عاشها هاري في الماضي ثم نسج حولها تفاصيل جديدة في طابع يغلب عليه الخيال والواقعية .

سنة 1961 " نشر روايته الشهيرة "غذاء النفسيين" عبارة عن سيرة ذاتية للحياة التي عاشها ابان شبابه وما نشر وترجم له من اعمال ويجيب على تساؤلات كثيرة مهمة لدى القارئ حول عالم الكتابة ، حتى انه انشأ مختبرا صغيرا في منزله القديم بهارلم كانت مهمته القيام بسلسلة اكشتافات علمية لكنه توصل الى نتائج جديدة في الكتابة و ان العلم مبنى على الملاحظة والتجربة وليس النظرية فقط ثم يقوم الكاتب بعملية الملاحظة ثم الوصف وتدوين النتائج ، تلك المنظومة العجيبة تعني بان المؤلف هو المبتكر والمنتج والمصنع في آن واحد أما العمل الفني أو الادبي فهو النموذج الواضح النقي الذي يعبر عن افكار البشر أو تخيل للقدرات التي لايستطيعون الاتيان بها . وهنا يعترف موليش بان الاسطورة تتعارض مع الواقعية قائلا" من يكتب ، يفعل شيئا مع البشر ، التغيرات التي يحدثها من خلال كتاباته وكذلك في المجتمع والادب ، هو المسؤول عنها في الدرجة الاولى هنا يتقدم هو للامام . ان حالة عدم السخط والرضا مع تأثير تلك المحاولات هي في الاصل تعتمد على مسار حياة الشخص أو حياته العملية بدءا من نيرو الذي قال ذات يوم" أي فنان يصاحبني سوف يضيع الى هتلر الذي دمر العالم .

انشغل في تلك الفترة في كتابة المقالات والتحقيقات الصحفية لعدد من المجلات والصحف على سبيل المثال كتابه الذي حمل عنوان "القضية 61-.4 " وهو سلسلة مقالات صحفية تدور حول معسكرات الاعتقال ابان الحرب العالمية الثانية ومدى الواقعية التي تقف وراء تلك الاحداث والوقائع في مقطع من الكتاب يقول " ان الخطر لايتمثل في ان تتمكن الالات ذات يوم من السيطرة على البشر ولكن الخطر الاكبر يتمثل في عندما تتمكن الالة من تغيير الانسان ويظهر عالم جديد يقع فيه البشر تحت سيطرة الآلات .

بعد ذلك نشر موليش سلسلة من التحقيقات حول سياسات حكومة الاستيطان في تحقيق بعنوان "رسالة الى ملكة الفئران" 1966 والآخر يدور حول الثورة الكوبية ومارافقها من ملابسات في تحقيق بعنوان "كلمة أبي" 1986 يتضمن تفاصيل شاملة لما جرى من أحداث دامية وصدامات ، عصيان مسلح ، مظاهرات في ذلك البلد المضطرب وظهور الثائر الكوبي "غيفارا" وقتاله مع الثوار في غابات بوليفيا حتى مقتله ، والثورة على السلطات الحاكمة في تحقيق بعنوان "ولادة عصر جديد" يصور اعترافا شفهيا لانسان حالم رومانسي يتوق لتحقيق امنية طالما انتظرها طويلا ولكن الدهشة تصيبه من الواقع المر . استخدم موليش عنصر التخييل في الاوبرا التي كتبها وفاء لذكرى البطل الثائر وحملت عنوان "اعادة البناء.. في ذكرى تشي غيفارا" 1969 نموذج من يوتوبيا خيالية حيث يتحول البطل الى اسطورة لاتموت ولكن موليش يقدم هنا تساؤلات كثيرة حول مصير الثورة الكوبية ومن هم الابطال الحقيقيين في تلك الفترة ، في رواية حملت عنوان "مستقبل الماضي 1972 فانه يصور الحياة في اوربا ابن الحقبة النازية حيث انتصارات هتلر الوهمية متناسيا الخراب والدمار الذي أحدثته الحرب بفعل جنون العظمة انه يحاول كشف الاقنعة وانهيار الانسان ، تنتهي الرواية في ظهور عصر جديد حيث ترميم ماجرى تدميره واعادة البناء والرومانطيقية الجديدة وظهور الحركة اليسار ية التي تنادي بأن الافواه يجب ان لاتغلق بالشمع الاحمر . في كتابه " الراوي" 1971 يعود الى مهمة التصوير كما في روايته" فراش العروس الحجري" لاتعتبر رواية تتميز بالطابع التقليدي لكن يطلق موليش عليها مصطلح الايقونة حيث بوجد رابط بين اللهجة والقاموس أو مرجع علمي للاستخدام اللغوي عبارة عن عملية ربط بين أسالبيب الكتابة ، الامثلة الشعبية ، ذكريات الطفولة والشباب يقوم موليش بعملية مونتاج روائي متقن يتحول الى مانسميه النص الروائي وهو اسلوب يشبه في طرائقه اسلوب الفن التجريدي أو الطبيعي ، السوريالي حيث يتم توزيع الادوار على الشخصيات حسب الاحداث وعلى الرغم من البناء المعقد للرواية لاجدال ان موليش قام بتصوير احداث الحرب العالمية الثانية حيث الحياة يشوبها الاضطراب والفوضى ، ويعيش البشر في ظل الفقر والمرض وأمراض اجتماعية لاتنتهي .

مثلما أبدع موليش في كتابة الرواية الطويلة والقصيرة ، أبدع في كتابة عدد من المجموعات الشعرية ، في مجموعته الاولى "كلمات ، كلمات" 1973 لم يغب عنه الاستعانة بالتاريخ واستخدام المقولة الشهيرة لهاملت " أكون …. أو لا أكون" ، كما أن مجموعته الشعرية الثانية "الطيور" 1974 تحتوي على عدد من الاناشيد الشعرية التي تتحدث عن الفرح والصياد ، اناشيد ترصد الكلمة المؤثرة والحقيقة المرة ، أما كتابه "الضوء المنعكس" 1975 يعتبر أهم كتاب شعري ثري بالثقافات المتنوعة و يتضمن شخصيات تاريخية واسطورية مختلفة مثل أوبيدوس ، نيوتن ، بيكاسو، آختربيرخ ، آلهة الفراعنة رع وغيره .

روايته "الهواء العتيق" 1977 تمثل نقطة بداية مرحلة جديدة في عالم الرواية حيث يبدع في كتابة التحليل النفسي للشخصيات ، كما انه يعرض مجموعة من الاحداث الزمنية حيث يصاب رجل في الخمسين من عمره وهو خبير في الكيمياء بمرض الشك حول زوجته وحادث الطائرة الذي يتعرض له اثناء عودته من الاجازة في طريقه الى منزله ، شخصية الرواية الرئيسية "آرنولد" يتعرض لعدد من المفاجآت غير المتوقعة كموت زوجته ثم يقرر الرحيل الى الماضي مستوحيا اسطورة أوبيدوس ، أما رحلة العودة الى المنزل فتتحول الى رحلة عودة الى البداية ، ويصور الموت على انه اعادة ولادة ، ثم الحادث الذي يمثل الحاضر-الماضي-المستقبل ، يعرض موليش العلاقة المتينة بين العناصر الثلاثة وهي ظاهرة معروفة منذ القدم وتشمل ثقافات مختلفة وأزمنة مختلفة ثم يتعرف القارئ على الدوافع والمؤثرات المحيطة بالشخصيات وينجح موليش في الربط بين عنصري الواقعية والاسطورة ، استعراض مشحون بالعناصر المعرفة والرمزية تجعل القارئ يصاب بدوار أو دوخة .


تعتبر رواية "الهجوم" 1982 من أجمل ماكتب موليش في حياته رغم مسحة الكآبة والسوداوية ، صنع رواية محبوكة بمهارة شديدة ، مترابطة البناء حول تاريخ محدد لحادثة زمنية تدور حول مفتش البوليس "فاك بلوخ" وهو عاش في مدينة هارلم سنة 1945 نفس المدينة التي ترعرع فيها موليش ، عرض موليش لاربعة فترات زمنية في التاريخ الحديث اوربا 1952 ، هنغاريا 1956 ، فيتنام 1966 ، وثورة الشبيبة الذين تمردوا على النظم السياسية القائمة والسلطة ، ثم المظاهرات التي عمت امستردام 1981 والمناهضة لاستخدام اسلحة الدمار الشامل ، يتحول بطل الرواية " أنتون ستينفاك" وهو يقف ضد ارادته ويتواجه مع التاريخ والاحاسيس والحقائق والاحداث لطفل في الثانية عشرة من عمره فقد والديه وشقيقه ، عاش حياته يتيما محروما من الحنان .

رواية تتسم بالتشويق والاثارة تخلب لب القارئ العادي وتثير تساؤلات كثيرة حول موضوع الجماعات المناهضة للحروب ويتجلى منطق الحكمة في شخصية الراوي الذي يتولى التعليق على الاحداث التي وقعت في الماضي القرب ، خيالات ساكنة غير متحركة ، مشكلة الزمن الفاني ، الادراك وغير الادراك ، كل تلك العناصر وظفها موليش من أجل الوصول الى الهدف الرئيسي من الرواية وهو التنديد بموضوع الحرب . وعلى الرغم من استخدامه لمهارات الكتابة لكنه وجد صعوبة في استخدام جميع الاساليب الكتابية والفنون في عمل واحد وخصوصا السير الذاتية والاعمال الخيالية . وتبقى الاثارة والتخييل محوران رئيسيان في أعمال موليش الروائية ولم ينسى الابحار في الكلاسيكيات الادبية القدمية خصوصا مسرح شكسبير وهاملت كما أنه يركز دائما على البطل .

وكما في الدراما والشعر والصحافة والخيال أبدع موليش في كتابة الرواية الطويلة "اكتشاف الفردوس" من أهم ما كتب موليش في حياته منذ سنة 1950 وتشمل مقاطع طويلة من سيرته الذاتية ، كما تقدم للقارئ صورة محددة المعالم عن حياة المفكر والسياسي والاديب الهولندي منذ سنة 1960 و حتى أواخر 1980 تتألف الرواية من خمسة وستين فصلا تنقسم الى أربعة اجزاء مرتبة ترتيبا زمنيا حسب الاحداث بداية البداية ، نهاية البداية ، بداية النهاية ونهاية النهاية . اكتشاف الفردوس عنوان جذاب لرواية تجعل من الفردوس ملاذا للمعذبين ومرادا صعب الوصول اليه ، الفردوس عندما يتحول الى هدف للاكتشاف كما تتألف من مقاطع وحوارات كثيرة في صفحاتها التسعمائة وخصوصا النقاشات التي تدور بين الاصدقاء ، تدور الرواية حول طفل موهوب يدعى "كوانتين كويست" ينتمي الى عائلة ارستقراطية هولندية والده رجل فلكي ولامع لكنه يهوى النساء وهو نفسه ابن لمجرم حرب أما والدة كوينتين وتدعى "آدا؟ تتعرض لحادث مؤلم يجعلها تصاب بغيبوبة عميقة ثم
يرحل الطفل اليتيم للعيش مع جدته لوالده التي تعيش في الريف . ويجري حاليا تصوير فيلم سينمائي منقول عن نفس الرواية في هولندا .

في عام 1989 نشر رواية "التمثال والساعة" تصور نموذجا خاصا من البشر ومعركته مع الزمن ، وتسليط الضوء على شخصية مكتشف طباعة الكتب "لورنس كوستر" الذي أطلق عليه موليش لقب المعلم الكبير وقد قام بتطوير ساعة اشتراها من أحد الاسواق التجارية ليجعلها تعرض مواقيت مختلفة لاجزاء من العالم ، التمثال والساعة عبارة عن رواية رياضية تقدم مفهوما جديدا للزمن من خلال علم الهندسة وقبل عام واحد من انجازه الرواية أي تحديدا في عام 1988 مشلا رواية "العناصر" 1988 حيث يقدم موليش تجربة أدبية جديدة تتمثل في أربعة عناصر هي الارض ، الماء، الهواء والنار وتدور حول زوجين يقرران القيام برحلة الى جزيرة كريت حيث يعيشان لحظات من العشق والهيام الزوجي حتى يصلان الى الذروة في علاقتهما الزوجية ، تبدأ تلك الرواية بواقعية الاحداث ثم تنتثل الى التخييل وتنتهي من ثم نهاية ميتافيزيقية .

يحتل موليش مكانة رفيعة وهامة في الادب الهولندي الى جانب ادباء آخرين أمثال هيرمانس، ريفي، وفولكرز ساهموا في ارساء دعائم أدب الرواية الهولندية بعد الحرب الثانية ويظل موليش من أكثر الكتاب الهولنديين من حيث غزارة الانتاج وخصوضا ادب الحرب واظهار الجوانب التدميرية التي خلفتها وهزيمة جميع الاطراف اما الخاسر الوحيد فهو الانسان ، في علم الفلسفة أجاد موليش استخدام التراكيب اللغوية الفلسفية في رواياته الطويلة والمعقدة البناء مثل اكتشاف الفردوس ورواية "تكوين العالم".

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

رواية الهجوم

 

تأليف : الكاتب الهولندي هاري موليش

 

ترجمة : إنتصار الغريب

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الفهرس

 

ملخص الكتاب

 

مقدمة

 

الواقعة الأولى  1954

 

الواقعة الثانية   1952

 

الواقعة الثالثة   1956

 

الواقعة الرابعة  1966

 

الواقعة الأخيرة 1981

   

   

 

 

 

 

ملخص الكتاب :

 

تسكن عائلة ستينفايك في فيلا "باوتنروست" . تتألف الأسرة من الأم والأب ستينفايك وولديهما بيتر وأنطون .  بجانبهم من الناحية الأخرى يعيش آل بومر ومن الناحية الأخرى السيد كورتفخ وإبنته كارين . في إحدى الليالي الباردة تروع  عائلة ستينفايك لدى سماعها أصوات طلقات الرصاص تدوي في الخارج . أمام منزل  جارهم كورتفخ  يرقد جسد فيك بلوخ ، كبير مفتشي الشرطة صريعا .  يقوم الجيران بسحب الجثة  ووضعها أمام منزل عائلة ستينفايك . يركض بيتر للخارج محاولا سحب الجثة بعيدا عن منزل عائلته  . لكن لسوء الحظ  يكون الجنود الألمان بإنتظاره عند موقع الهجوم . يهرب بيتر . أما أنطون وأبويه فيتم إخراجهم من المنزل  وتضرم النيران بالفيلا . يوضع أنطون  في سيارة خاصة لاحقا ينقل بعيدا . في مركز الشرطة يوضع مع إمرأة غريبة في زنزانة منفردة . تقوم تلك المرأة بمواساته ، لينقل في اليوم التالي إلى أمستردام ثم يأتي خاله لإستلامه .

 

تولى خاله وخالته تربيته ، بعد نهاية المدرسة الثانوية يذهب لدراسة الطب .  ثم يدعى لحضور حفل يقام في مدينة هارلم .  يعود مجددا للمدينة  التي هجرها في شهر يناير من عام 1945 . يشعر أنطون بغصة تعتصره ويقرر فجأة مغادرة الحفل . في طريق عودته يصادف الجادة  التي كان يوجد فيها منزله قبل أن تحل الكارثة .  تناديه السيدة بومر  وتخبره بإقامة نصب  لضحايا  الحرب العالمية الثانية. يغادر أنطون  صامتا ويمشي بإتجاه النصب . يقرأ أسماء الأشخاص الذين تم تصفيتهم من قبل الألمان من

ضمنهم أبويه . أما إسم بيتر  فكان غائبا . يذهب أنطون للعيش في أمستردام. في عام 1956 يهاجم الروس هنغاريا ، ثم تحل الفوضى والصخب على مدى أيام طويلة في أمستردام ، أثناء إندلاع إحدى أعمال الشغب يلتقي أنطون الإبن الصغير لفيك بلوخ ، ثم تدور في غرفة أنطون محادثة عنيفة ، يسترجعان فيهما ذكرى الحادث الأليم ويتبادلان الإتهامات . يلومه أنطون  وبأن أصدقاء أبيه هم من تولوا تصفية عائلته  . يشعر فيك بغضب شديد ، مذهولا يضرب المرآة بحجر . تنفجر المدفأة النفطية  وينتشر الصخام الأسود في أرجاء الغرفة . ينهي أنطون  دراسته ويحصل على وظيفة معيد في علم التخدير . يلتقي ساسكيا دي خراف  ثم يتزوجان لاحقا . يلعب أباها دورا  هاما في المقاومة إبان الحرب . مطلع يونيو عام 1966 يموت صحفي مشهور وأحد رجال المقاومة ثم  يدعى آل خراف لحضور جنازته  يصاحبه أنطون وزوجته  وإبنتهما ساندرا ، بعد إنتهاء مراسيم الجنازة يلتقي أنطون  أحد المناضلين ويدعى كور تيكس الذي قتل فيك بلوخ بنفسه .  لايود أنطون سمع أحاديث الحرب مرة أخرى  لكن أمام إلحاح تيكس يحاول البوح عما يعتلج في داخله ، يحاول إيجاد المسوغات لما فعله بلوخ في الماضي من جرائم شنيعة  ويخبره عن صديقته تروس كوستر ليكتشف بأنها نفس الفتاة التي قضى معها تلك الليلة في الزنزانة  ويعلم أنطون بأنها أعدمت قبل مرور ثلاثة أيام على التحرير  .  في اليوم التالي يذهب لزيارة تيكس ورؤية صور توروس ثم يخبره تيكس عن طبيعة علاقته بتوروس وهي من قامت بإطلاق الرصاصتين الأخيرتين على بلوخ .  

ينفصل أنطون وساسكيا  ويتزوج من ليسبيث وينجب منها ولدا . أطلق عليه إسم بيتر تيمنا بشقيقه الراحل  . يظل أنطون مطاردا دوما بشبح الماضي  ويداهمه اليأس , يذهب مع إبنته ساندرا لزيارة هارلم في نفس البقعة التي كان يسكن فيها بني منزل مستقل من طابق واحد . يزور ضريح  تروس كوستر  ،  ثم يتذكر تلك الليلة معها ، في إحدى المظاهرات السلمية في أمستردام يلتقي أنطون مجددا  كارين كورتفخ ويعلم منها بأن شقيقه هرب في يناير 1945 إلى منزلهما  ثم أطلق عليه الألمان الرصاص ومات على الفور . ثم علم لماذا قام كورتفخ بسحب جثة بلوخ ووضعها أمام منزله . كان في حقيقة الأمر خائفا من السحالي التي كان يربيها في داخل منزله وعندما علم بقدوم الألمان قام بالتخلص منها بركلها بقدميه  لم يود وضع الجثة أمام منزل آرتس لأنه حينذاك كان يقيم معه ثلاثة من اليهود. الآن علم أنطون الحقيقة كاملة ، ترك كارين مهيضة الجناح بائسة  ثم رحل بعيدا .

 

يعد الكاتب الهولندي موليش من أشهر كتاب مرحلة مابعد الحرب العالمية الثانية وهو جيل نضج فنيا وفكريا ورسخ لأدب جديد ،أطلق عليه أدب مابعد الحرب وقد عاش رموز هذا الجيل في ظل مناخ الحرب المضطرب والمتصارع مما إنعكس لاحقا على طبيعة أعماله . تعتبر رواية الهجوم من أهم الأعمال التي كتبها موليش في حياته وقد حققت الرواية نجاحا منقطع النظير وطبعت منها عشرات النسخ وتدور حول مأساة الحرب العالمية الثانية بكل تفاصيلها الموحشة . يتألف الكتاب من غلاف رصاصي مع أحرف حمراء من إسم هاري موليش وكتب العنوان بأحرف سوداء  وحرف كبير آ . أما الجهة الخلفية بلون رمادي  يتألف الكتاب من مقدمة وخمسة وقائع ، بين كل واقعة وأخرى توجد صفحة فارغة تماما، بينما كتب في الصفحة الأخرى رقم الواقعة والعام الذي جرت فيه . قسمت الوقائع إلى فصول ، يبدأ كل فصل بصفحة جديدة ورقم تسلسلي .  أما العنوان الإضافي يتمثل بأنه يوجد نهار في كل مكان إلا في تلك البقعة فلا يوجد سوى الليل  وقد إستوحى الكاتب شعار الموضوع من تقرير كتبه سيناتور روماني  حول كارثة إنفجار "فيسفس" سنة 79 وسحابة الظلام التي داهمت العاصمة بومباي إثر الحادث الأليم . مثل تلك الحادثة كانت بمثابة " الهجوم" لأنطون  ليغرق في ظلام عميق لانهاية له ، عدم الإطمئنان ، الجهل ببواطن الأمور ، خصوصا ماحدث لأبويه وشقيقه هذا الباعث تكرر وروده في الرواية بأساليب مختلفة مثل : السكينة- الضجيج ، الذنب- البراءة ، الخير-الشر ، المحبة- كراهية الحرب ، الموت ، القتل ، الدمار ، الحريق ، مشكلة الزمن وخلافه .رواية حرب لأنها تسببت في دمار كبير لحق بأسرته فيما بعد ولم ينتج عنها سوى الدمار والإبادة . رواية نفسية حيث تدور حول آثار الهجوم على أنطون الذي يفقد أبويه في سن مبكرة للغاية . ولم تكن لأنطون لا من قريب أو بعيد  علاقة بالحرب ، ولم يحمل في داخله ضغينة ضد الألمان ، أو فيك بلوخ ،  وربطت وقائع القصة بأحداث تاريخية هامة جرت في العالم وكيف تتغير مسيرة حياة البطل في كل فترة زمنية  ولكن ظلت ذكرى الهجوم تطارده في كل حياته .

 

يرتكز موضوع الرواية على الماضي الذي يتعقب الحاضر دائما ويسيطر عيه  ويبدو بأن بطل الرواية أنطون كان حاضرا في جميع الوقائع  على سبيل المثال الحرب الكورية ، الهجوم الروسي على هنغاريا ، حركة المستفزين شباب الستينات الذين ثاروا على السلطة والنظام والمظاهرات ضد خطر التسليح النووي في أمستردام ،يعتقد موليش بأن أصل التراجيديا يعود للحرب والمآسي التي لحقت بالبشرية  تجربة يتجسد فيها إبداع موليش في متانة البناء اللغوي ، بينما تؤكد جماعة الأنقياء بأن موليش نجح في تصوير العالم المضطرب عبر تصوير علاقة الأنسان بالحرب ، تجربة يتجسد فيها مفهومه عند الشعور بالذنب ويخير بين المضي قدما قي طريق آمن مخاطبا لغة العقل ، نلاحظ بأن الأنسان يقدم تأويلا مناسبا لمشاكله وهو النصيب  أوربما يحمل الإنسان في ثناياه ذنبا يصعب البوح فيه ، يقول الكاتب "هينك نوفلاند" بأنه لم ينجح كاتب في تصوير الحرب كما برع موليش في رواية الهجوم خصوصا البناء الجراماتيكي للأحداث التي تثير الدهشة في كل التفاصيل ، كما حاول نقل الأحداث والأمكنة من مكان لآخر ، وتعتبر مهمة توثيق الأم مهمة شاقة بالنسبة للإنسان العادي ، أما بعض النقاد الآخرين فقد وصفها بالرواية البوليسية النفسية في نهاية المطاف تبقى وثيقة زمنية تصور الحرب وكأنها موضوع أزلي على مر العصور والأومان .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

مقدمة

 

هارلم ، يناير عام 1945 هدوء الحرب المؤقت جعل عائلة ستينفايك تنشغل بلعبة الطاولة يتوسطهم لوح كارتوني صغير مقسم إلى عدة إتجاهات ، بينما كان أنطون الصغير ذو الثانية عشر ربيعا منهمكا في إلقاء حجر النردة ، سمع صوت ستة طلقات تدوي في الخارج ، تمدد عنقه بكل الإتجاهات  ، قلبه الصغير يرتعش خوفا ، لقد تبين لاحقا بأن القتيل ماهو سوى الخائن "فيك بلوخ" كبير المفتشين  الذي يعمل لدى الشرطة وجماعة "إن.إس.بي" . لقد تم تصفيته من قبل إحدى حركات المعارضة الشيوعية ، لسوء الحظ سقط صريعا قرب منزل عائلة ستينفايك . قمت الدنيا ولم تقعد ، عندما فتح أنطون الباب كانت هناك خلفه وجوه تطارده ، تخترقه . في ذلك الوقت كان الشارع موحشا ، يشعر في أعماق قلبه بكارثة ستحل بأفراد المنزل الوادع ، لم يمضي وثت طويل إلا وداهم الجنود الألمان المنزل ثم أشعلوا النيران فيه ، شاهد أنطون منزله ينهار تدريجيا أمام عينيه ، بالمقابل تم إعدام أبويه رميا بالرصاص ، بينما قتل شقيقه الوحيد الأكبر لدى محاولته الهروب ، تمضي السنون   لكن تظل ذكرى الهجوم ماثلة أمام عينيه ، لتتحول فيما بعد إلى مايشبه العقدة الحمراء في حياته . ثمة أحاسيس جديدة تنهش فكره تنسجه بوجع مبهم ، يستعيد ذكرى الحادث الأليم وتتناثر الصور أمام عينيه وهو عاجز تماما عن طردها ، آهات عميقة تخرج من أعماق صدره ، يحس بذروة ذلك التمزق المجنون .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الواقعة الأولى  1945

 

 

سيرة بعيدة ، إبان الحرب العالمية الثانية ، عاش أنطون ستينفايك مع أبويه وأخيه الأكبر عند حافة مدينة هارلم ، قرب الرصيف الذي يمتد طوله لمائة متر بمحاذاة المياه، مع إنحناءة صغيرة رجوعا ، يوجد شارع مألوف تصطف إلى جانبه أربعة منازل لاتبتعد عن بعضها كثيرا ، يحيط بكل منزل حديقة جميلة ، شرفة صغيرة وغرف بارزة من الخارج ، ذات أسطح مسدلة تشبه الفلل الأنيقة، على الرغم من أنها تبدو سلفا صغيرة ، لكنها نوعا ما تبدو كبيرة ، أما في الطابق العلوي فتمتاز جميع الغرف بأنها ذات جدران مائلة نسبيا، إلى حد ما تنتصب قائمة وكأنها آيلة للسقوط ، لأنه لم يتم ترميمها بما فيه الكفاية في سنوات الثلاثينيات ، يحمل كل منزل إسما مدنيا بهيا يشير للأيام الخوالي كالتالي: فيلخيليخن...باوتنروست...نويتخداخت... روستنبرخ .

عاش أنطون الصغير في المنزل الثاني لليسار ، ويتميز بسطح زجاجي ، عندما إستأجر أبويه المنزل قبل الحرب بمدة قصيرة ، كان الجو قائظا شديد الحرارة ، أطلق عليه أبيه إسم "أليوثيرا" أو ماشابه ذلك ثم كتبه بأحرف إغريقية ، وقبل أن تحل كارثة الحرب ، أطلق عليه أنطون إسم "باوتنروست"  من الخارج لايشير إلى الراحة ، لكنه شيئ خارج الراحة ، لكن من الخارج لايبدو عاديا من الخارج ، على وجه العموم أقل من العادي للسكن فيه ، لكن في ظروف الحرب إطلاقا لايبدو عاديا ، يعيش في منزل "فيلخيليحن" آل بومر وهو رجل مفوض متقاعد ومريض ، مشى للداخل ، تناول كوبا من الشاي وقطعة من البسكويت الجاف  يطلق عليه في هولندا إسم قراقيش ، على كل حال كان هناك المزيد من الشاي والبسكويت ، هنا كانت بداية التاريخ أي ما نقصد به التاريخ الحالي . يقرأ السيد بين الحين والآخر فصلا من كتاب "المحاربين الثلاثة" ، أما جاره من الزاوية الأخرى  السيد "كورتفخ" فيسكن في منزل "نويتخداخت" في السابق كان يعمل كابتن توجيه للسفن ، أجبرته ظروف الحرب الشاقة للمكوث في المنزل ، بعد وفاة زوجته عادت إبنته كارين وتعمل ممرضة للعيش معه مجددا . كان أنطون يأتي إليهم عبر فتحة في سياج الحديقة الخلفية ، كانت كارين فتاة لطيفة دوما ولكن السيد كورتفخ لم يوليها إهتماما كافيا ، يذهب كلا منهما مرات عديدة إلى الرصيف لوحده ، الخاتمة هما الزوجان "آرتس" اللذان كانا يعيشان في منزل "روستنبرخ" منذ إندلاع الحرب ، للوهلة الأولى كان يبدو مجتمعا آمنا  ولكن ليس بصورة مؤكدة .

 

ظاهريا كانت المنازل الأربعة تبدو كأنها حي جديد ، لكن بعد ذلك لم يأتي أناس جدد للعيش في ذلك الحي . من الزاوية الخلفية جانبا يوجد حقل رطب مرشوش بالمياه تنتشر فيه شجيرات عشبية ونباتات ورقية خضراء ، وبعض الأشجار المعمرة التي لم تعد يافعة .. هناك عند المساحات الخضراء الشاسعة ، كان شغف أنطون بتلك الحدود الخضراء لاحدود له ، كذلك أطفال الحي الذين يسكنون  الأحياء المجاورة ، يلعبون هنا وهناك ، عند حلول الظلام أحيانا تنسى أمه مناداته ، بعيدا هناك حيث يحلو له المكوث هنيهات في ذلك المكان ابمضمخ بالروائح العطرية والسكون الصامت المعبأ بالتوقعات التي يجهل مصدرها .

 

شيئ ربما سيحدث لاحقا ، عندما يتقدم فيه السن ، ربما أشياء ، الأرض الساكنة عديمة الحركة ، ثم يقلب صفحات أخرى من حياته ، فجأة ظهر عصقورين جميلين يزقزقان ، فرحان بأنشودة الطبيعة كأنهما عاشقان للتو ،  في تلك الأماشي تبدو الحياة رائعة  ، حيث يحلو السهر والكلام المباح ، وسط ذلك الغموض والإبهام إلى ما لانهاية ....

 

من الزاوية الأمامية للطريق رصت مجموعة من الأحجار على شكل عظام سمكة ، بعيدا عن الرصيف يمتد الشارع فوق جادة مزروعة بمختلف الشجيرات ، ثم ينخفض قليلا حتى ينتهي عند ممر الصيد ، حيث يحلو لأهل الحي التريض هناك بكل حرية ، من الناحية القناة الواسعة ، حيث تتهادى الياه بهدوء ، بنغمة واحدة ، لم يكن أبدا نهرا  ،تنتصب بعض منازل عمال الزراع ، كذلك بعض الحظائر المتشابكة ،  هنالك في الخلف تمتد مراعي الماشية خارج الأفق ، أبعد من ذلك توجد مدينة أمستردام .كما أخبره والده في السنوات الأخيرة قبل الحرب ، عند الأماسي يلمح بريق إنعكاس الضوء جليا فوق سطح المياه في مقابل السحب . ذات مرة ذهب لزيارة "آرتيس"  

حديقة الحيوان الشهيرة في أمستردام ، كذلك متحف رايكس ، حيث مكث هناك ليلة واحدة بالتمال والكمال في منزل خاله .

 

إنحناءة واحدة لليمين بإتجاه المياه توجد طاحونة هوائية لم يرها تدور أبدا ، في تلك البقعة عندما يسترخي يجول بنظره هنا وهناك ، أحيانا يمضي  بعض الوقت جالسا على الأرض المزروعة بالعشب ،  عبر ممر الصيد المنبسط ، إقترب منه رجل يبدو وجهه مألوفا من القرون الغابرة ،  علق في منتصف جسده خطافات سنارة الصيد حول عود من الخشب طوله مترا واحدا ، ثم تسلق بإحكام  الطرف الآخر ، ظهرت مقدمة سفينة نقل نهرية سحبها بخطوات بطيئة عبر المياه ، عند الدفة في الغالب وقفت إمرأة ترتدي مريلة المطبخ ، شعرها معقود للخلف على شكل ضفيرة ، بينما يلعب طفلها على سطح المركب ، بطريقة أو بأخرى إستخدم عود الخشب ، ثم مشى الرجل للجانب الآخر من السفينة للأمام ، بينما ظل عود الخشب يتراقص حتى إقترب إلى السطح العلوي للمركب مخصص للبحارة ، ثم غرزه مائلا في القاع ، شده بإحكام ومشى عائدا ، كي يسحب المركب للأسفل من مكانه للأمام ، يعتبر أنطون تلك المشاهد رائعة ، رجل يمشي للخلف كي يسحب شيئا للأمام ، وفي نفس الوقت يظل في نفس مكانه ، هناك أشياء غريبة الأطوار ، لكنه لم يتحدث لأحد حول تلك الأمور ، كان يعتبرها من أسراره الخاصة ، عندما أخبر رفقائه لاحقا ، أدرك بطبيعة الحال في أي زمن يعيش ، لكن في أفلام تدور حول إفريقيا وآسيا فقط تشاهد مثل تلك الأشياء ، حيث  تقبل عدد من المراكب الشراعية مراة عديدة في اليوم ، مراكب من نوع هولندي تتميز بأشرعتها البنية القاتمة ، تبدو للوهلة الأولى ساكنة حتى تتلاشى تدريجيا الإنحناءة والطوفان المهيب بإتجاه الرياح غير المرئية القادمة ، مع السفن البخارية يظل الأمر مختلفا ، بدفعة قوية تنقسم بمقدمتها في عرض المياه على شكل حرف "فيه" ثم تمتد  حتى تصل لجدار الرصيف من كلا الزاويتين .

 

هناك بدأت المياه بالإرتطام فجأة للأعلى والأسفل ، في حين تقدمت السفينة للهاية ، بالتالي إندفعت راجعة وتشكلت بالمقلوب على شكل حرف فيه  الذي إنغلق بدوره في مكان أبعد ، ثم يتداخل مع حرف فيه الأصلي عند جدار يقع في الجهة الأخرى من الممكن الوصول إليه ، ثم ترتطم مرة أخرى ، حتى تظهر في عرض المياه مثل ظفيرة متشابكة ، على مدى دقائق طويلة تجري متغيرات كثيرة ، قبل أن تحصل السفينة في نهاية المطاف على التوازن المطلوب ، يحاول أنطون في كل مرة أن يبرهن لنفسه بدقة متناهية كيف تجري تلك العملية ، لكن في كل مرة تنمو فيها العناصر إلى نموذج معين ، يعجز فيها عن تصويره .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

(1)

 

كان الوقت مساءا يشير إلى الساعة الثامنة والنصف ، ظلت المدفأة القديمة المستديرة التي تعمل بالزيت خافتة لمدة ساعة تقريبا وهي تحرق كومة من الكتل الخشبية ، لكن الطقس عاود البرودة مجددا ، بحضور أبويه وشقيقه الأكبر بيتر جلس أنطون في الغرفة الخلفية مسترخيا ، حيث وضعت على أحد الألواح إسطوانة مصنوعة من الزنك كبيرة جدا ، تقريبا بحجم وعاء الزهور ، في الجانب العلوي غرست ماسورة رقيقة ، إنشطرت على شكل حرف "آي" خارج الفتحات ، تحديدا قرب النهايات ، ينفث الدخان بواسطة مورين ، ثم تشتعل ألسنة بيضاء مائلة من اللهب تتعاكس مع بعضها البعض ، تلك الآلة العجيبة تقذف الضوء المنعدم في أرجاء الغرفة ، كي يتسنى للمرء من خلال تلك الظلال الحادة رؤية الغسيل الجاف من الخارج ، كل تلك الأشياء واحدا تلو الآخر ، تثير لديه الذهول والدهشة مرارا وتكرارا ، مجموعة أشياء متراكمة آنية المطبخ ، ركام غير محدود من الفانيلات المكوية ، حزمة من أعواد القش يتم إستخدامها بين الحين والآخر ، كي يظل الطعام دافئا لأطول فترة ممكنة ، من وسط كل تلك الأشياء يوجد في غرفة المكتب الخاصة بأبيه نوعان من الكتب ، في الصف المجاور للبوفيه وهو دولاب صغير يستخدم لحفظ بعض أدوات المنزل ، رصت عليه مجموعة من الكتب المخصصة للقراءة، أيضا مجموعة من  الروايات وضعت على الأرضية يمكن إستخدامها كوقود لمدفأة الزيت في أيام الطوارئ ، إذ لم تعد صالحة للقراءة ، أو يتم حرقها مثل بقية الأشياء الأخرى المخصصة للحرق ، أما الصحف فقد توقفت عن الصدور منذ أشهر قليلة بإستثناء النوم ، يقضي أفراد المنزل معظم الوقت في غرفة الطعام السابقة ، أما الباب بزلاجة فقد ظل مغلقا طيلة أيام البرد هناك في الخلف ، بإتجاه زاوية الشارع ، حيث تقع غرفة الجلوس التي يحلو فيها السمر والسهر طيلة أيام الشتاء وقد تركت الستائر مغلقه للتخلص من البرد لأطول فترة ممكنة ، أحيانا يبدو المنزل من الخارج كأنه مهجور وغير مسكون .

 

الزمن يشير إلى شهر يناير عام 1945 ، في ذلك الحين تم تحرير أوربا بكاملها وأطلق على يوم التحرير "العيد الرابع" ، تبادل الجميع نخب الإنتصار وعم الفرح النفوس ، لكن سرعان ما تناسى الجميع سكرات الحرب وويلاتها ، أما مدينة هارلم فقد تغيرت  كثيرا ، إلى مايشبه خبث كئيب موحش ، مثل مايخرج من المدفأة أثناء إحتراق الفحم في فصل الشتاء البارد.

 

كانت توجد لدى أمي بلوزة بلون أزرق غامق وضعتها على الطاولة ، لسوء الحظ تلاشى نصفها ، بينما أمسكت بيدها اليسرى عقدة صغيرة من الصوف ، في نفس الوقت كانت تستخدم يدها اليمنى لإخراج الخيوط بسرعة من البلوزة التي إلتفت حول عنقها ، في ذلك الحين كان أنطون ينظر مذهولا لحركة الخيط المغزول غدوة ورواحا . بعد تلك العملية اليدوية إختفت البلوزة من

الوجود ، كان شكل الأكمام المفرودة في تلك اللحظة ، أشبه بشخص  لاينكسر ثم سرعان ما يتحول في نهاية المطاف إلى مايشبه الكرة . حاولت أمه بث روح  من الفرح والتفاؤل ثم إبتسمت في وجهه ، بينما عاود  بدوره النظر مجددا  إلى كتابه ، كانت تعقد شعرها الأشقر على شكل جديلتين ملتفتين حول إذنيها ، فيما يشبه قرون حيوان الآمون وهو حيوان ديناصوري منقرض . توقفت فجأة عن الحياكة ثم إحتست جرعة من الشاي البارد الممزوج بقطع الثلج الذي ججلبته من الحديقة الخلفية ، لاتزال توصيلات المياه مقطوع ومتجمدة بفعل الصقيع ، لسوء

الحظ كانت أمه تعاني من ثقب في ضرسها ، يؤلمها بين الحين والآخر ، لكنها  في الوقت الحالي عاجزة  عن علاجه ، لم يبقى لها خيار سوى إستخدام بضع حبات من القرنفل ، مثلما كانت تفعل جدتها في الماضي ، لحسن الحظ عثرت عليها لتخفيف الألم مؤقتا. كانت تجلس مباشرة وهي منحنية ، بينما جلس زوجها قبالتها منهمكا بقراءة كتاب ، بشعره الأسود الرمادي ، يبدو أشبه بحدوة الفرس حول صلعته الناعمة ، من حين لآخر ينفخ في يديه اللتان تضخمتان وبدا شكلهما قبيحا ،على الرغم من أنه ليس عاملا يدويا ، حيث يعمل كرئيس سكرتارية في قسم الدائرة القضائية للمحكمة الإبتدائية في مدينة هارلم .

 

 

إعتاد أنطون إرتداء ملابس شقيقه الأكبر الذي كان حينذاك في طور النمو ، من جانب آخر

حصل شقيقه الأكبر على بدلة سوداء من أبيه لم يعد يرتديها ، كان في السابعة عشر تقريبا ولأنه آخذ بالنمو تدريجيا ويتناول قدرا ضئيلا من الطعام ، لذا بدا جسمه من الخارج كأنه رتب بنسق منظم من شرائح الخشب ، وكان حريصا على إتمام واجباته المدرسية بإنتظام ، إنقطع منذ أشهر عن الذهاب للشارع حيث يتعرض الفتية بنفس عمره إلى حملات دورية منظم مرارا وتكرارا

بواسطة رجال الشرطة الذين ينتهزون الفرصة لإرسالهم للعمل في ألمانيا لاحقا وهو يداوم حاليا في الصف الرابع من المدرسة الثانوية ولأنه بقي في نفس الصف عامين متتالين ، لذا فهو يحصل باستمرار على درس إضافي من أباه بالإضافة للواجبات المنزلية الأخرى  كي لايتخلف عن دراسته ويعيد الكرة مرة أخرى ، يبدو الشبه بين الشقيقان ضئيلا ، مثلما هو الحال مع والديهما ، من المحتمل بأن هذا يعني بأن الزوجة تشبه أم الزوج ، بينما الأب يشبه أب الزوجة وأعقد من ذلك ، من الأرجح بأن عائلة ستينفايك تتألف من فرعين ، في حين يتمتع بيتر بشعر أشقر وعينان زرقاوين  من جانب والدته ، يتمته أنطون بشعر أسود وعينان بنيتان من أبيه

وبشرة بلون الجوز، بينما ظهرت الهالات السوداء حول عينيه ، توقف حاليا عن الذهاب

للمدرسة حيث كان يداوم في الصف الأول في مدرسة الليسية ولكن لنقص الفحم تم تمديد إجازة عيد الميلاد حتى نهاية فترة الصقيع ،كان أنطون يعاني من الجوع لكنه كان على يقين تام بأنه في صباح اليوم التالي سيحصل على شريحة من الخبز الرمادي اللزج بعسل البنجر ، عند الظهيرة عليه الإنتظار ساعة كاملة وقوفا  عند باب المطبخ المركزي ، الذي يقع في مدرسة حضانة الأطفال ، عندما تحل الظلمة تأتي العربات اليدوية محملة بالطعام  في عرض الشارع

تحت حماية رجال الشرطة مع مسدس يستخدم في حالة الطوارئ ، بعد أن يتم ثقب التذاكر ، يحصل أنطون على أربعة معالق خشبية من حساء مائي خفيف يتم جلبه في وعاء خاص ، وبعد أن يحصل على حصته اليومية يمشي عبر الممرات الطينية الت تؤدي للمنزل  وعندما يداهمه الجوع يتناوله سرا .

 

لحسن الحظ  أزف موعد النوم ، كان يحلم دوما بالسرم ، لم يتمكن أحد في تلك الأيام حول تلك

الفترة الصعبة ، كذلك لاتسمع أصوات في الخارج ، هكذا كان هو حال العباد أيام الحرب ،

لامذياع ، أو تلفون لاشيئ مطلقا ، مجرد ألسنه تتصاعد مع أصوات إنفجارات القنابل التي تسمع وهي تدوي في الخارج بين الحين والآخر . كان أنطون يلف شالا صوفيا حول رقبته إحتماءا من البرد القارس ، بينما يخفي قدميه بجوارب دافئة ، حاكتها والدته خصيصا من قماش حقائب

التسوق ، إنشغل بقراءة مقالة حول الطبيعة والتقنيات نشرت في مجلة قديمة صادرة عام 1938 حصل عليها كهدية في عيد ميلاده الرابع ، بينما كان يتصفح المجلة عثر فجأة على رسالة تحمل عنوان "إلى ذريتي "  مع صورة جماعية لعدد من الشبيبة الأميركيين وقد رفعوا أكمام بلوفراتهم       للأعلى ، يحيطون بطوربيد كبير لامع كان يستخدم بكثرة إبان الحرب العالمية الثانية ، يصل طوله عموديا إلى مستوىالرأس ، بينما يبلغ عمقه حوالي خمسة عشر مترا ترك مغروسا في الأرض ، من يدري ربما بعد مرور خمسة آلاف سنة على وجود ذلك الطوربيد مدفونا في الأرض سيعثر عليه أبناء ذلك الجندي أو أحفاده مثلا ، ومن ثم سيكتشفون  سر طبيعة تلك الحضارة الإنسانية .ربما في معرض الحرب الذي سوف يفتتح في مدينة نيويورك لاحقا ، داخل ذلك النموذج الذي صنع من مادة متينة جدا توجد إسطوانة مصنوعة من الزجاج المقاوم للنار ، معبأة بمئات الأشياء التذكارية ، أرشيف صغير جدا بداخله منضدة عرض وضعت عليها عشرات الألوف من الرسوم والصور للعلوم ، التقنيات ، الفنون كتبت بعشرات الملايين من الكلمات ، كذلك بعض الصحف والكتالوجات ، روايات شهيرة ، كتاب الإنجيل " الأب الكبير" كتب بثلاثمائة لغة  مختلفة، خطابات ورسائل من الرجال الكبار ، مقتطفات لأفلام حول القصف الياباني  الفظيع على مدينة كانتون عام 1937 وموصل كهربائي ، مسطرة حسابية  وجميع الأشياء التي تخطر على الذاكرة الأخرى ، قبعة نسائية ، تعود لموضة شتاء 1938 ، شهادات تقدير وبراءات إختراع وإبتكار لمختلف المكتبات الهامة والمتاحف في العالم ، وضعت في بقعة مصنوعة من الخرسانة المسلحة ، أو بالمعنى الأصح الكنز الأبدي ، ربما سيتم إكتشافها في القرن السبعين ، سأل أنطون نفسه ربما في عام 6938 وربما قبل ذلك التاريخ ، سيكون الأمر بالتأكيد ممتعا ومشوقا ، قال أنطون :

-  أبي ماهي طبيعة الحياة قبل خمسة آلاف عام ؟

-  قال السيد ستينفايك " بدون أن ينظر إلى كتابه ، تعني تحديدا قبل خمسة آلاف سنة ، تمتم

    قائلا: عندما كانت .. أعني ... ثم تبعثرت الكلمات في فمه .

-  قال أنطون بمزيد من اللهفة : قل ماذا تعني .. بإختصار واضح !

-  حسنا ياولدي  لقد كان البشر مختلفين عنهم اليوم ، ثم بدأت الحضارة الإنسانية بالتطور 

    تدريجيا.

-  سأل أنطون أبيه مجددا ، بشغف واضح : تعني الحضارة الإنسانية !!

-  نعم ... نعم بالتأكيد .

-  توجه السيد ستينفايك إلى لسؤال زوجته قائلا: لماذا لاتتركي هؤلاء الشباب الصغار يبحثون

   عن الأجابة بأنفسهم ؟

-  سأله أنكون : أعني تلك الرسومات المنقوشة على أحذية الأطفال وتعود إلى الحضارة الفرعونية في مصر القديمة ، بلاد مابين النهيرين سابقا، ماالذي تنوي معرفته بالضبط ؟ قال ستينفايك .

-  لأنني أبحث عن إجابة واضحة حول تلك الأمور !

-  قال بيتر:  يكفي هذا ، ثم تصفح معجم الكلمات والقواعد ، بعد ذلك ناول بيتر الكتاب لأبيه وإقترب من شقيقه الصغير قائلا:  ماذا تقرأ !

-  لاشيئ .. قال أنطون ثم غطى النصف العلوي من جسده الصغير ببطانية صوفية معانقا الكتاب بكلتا ذراعيه ، قالت أمه : دع عنك تلك الترهات يا أنطون ، ثم سحبت قميصها للأسفل .

-  قال بيتر :  مجرد أكاذيب وأشياء كريهة ، بينما إنشغل أنطون بقرص أصابعه ثم بدأ يغني .. ولدت في يوم منحوس ...وسأموت كذلك في يوم منحوس .

- سكوت...سكوت طالب السيد ستينفايك الجميع بإلتزام الهدوء ثم ضرب كلتا يديه على الطاولة ، لأن إسمه أنطون فلم يسلم من الإهانات والمضايقات من الناس في الشارع ، في زمن الحرب كان الفاشيين يطلقون على أبنائهم الحديثي الولادة عادة ، إسم أنطون أو أدولف هتلر ، وكان ذلك يظهر من خلال إعلانات الولادة الفاخرة وهي مزودة بنقوش ورسوم مثل مخالب الذئل أو قرون الرنة أو ماشباه ذلك . عندما يلتقي أحدا يدعى أنطون أو أودلف فإنه سيخمن بسرعة فيما إذا كان ذلك الشخص قد ولد في زمن الحرب أم لا، وإذا كانت الإجابة نعم ، بالتأكيد وقع الأبوين بخطأ حسابي لايغتفر ، ربما بعد مرور الحرب بعشرة أو خمسة عشرة عاما سيطلق النا على مواليدهم مجددا إسم أنطون أو أودلف وحتى العدميين لم يحسبوها جيدا أو يضعوا الأمور في نصابها جيدا

إذا ظهر  إسم أودلف مجددا، سوف تكون أحداث الحرب العالمية الثانية في طي النيان ، لكن يبقى الإسم الثالث في غاية الأهمية وماسيعتاد عليه الناس فيما بعد سيظل ملازما للأبد لإسم أودلف ، هناك الأغنية التي يرددها أنطون كردة فعل على الأحداث الجارية بدون إيضاحات أو تأويلات وهو مقطع من أغنية كوميدية يرددها الناس تذاع من محطة الراديو بعنوان " بيتر

المنوس" عندما كان يسمح للناس بطبيعة الحال إقتناء جهاز راديو، لكن لاتزال هناك العديد من الأمور غير المفهومة خصوصا بالنسبة لولد بعمر أنطون .

 

-  قال السيد ستينفايك لإبنه الكبير :  تعال ياولدي إجلس بقربي ، في ذلك الحين كان بيتر

منشغلا بالكتابة ، ثم بدأ قراءة مقطع من نص ترجمه بنفسه كالتالي: بسبب المطر والثلج المنصهر فقد تضخمت مياه الأنهر ، التي تتدفق من أعالي الوديان العميقة ، في جميع الأنحاء ، على هيئة شلالات آية بالروعة والجمال في نهاية المطاف تتوحد تلك المنابع في مصب واحد ، بعيدا جدا إلى حيث الجبال العالية ، حيث ينصت الراعي إلى أصوات المياه وهي ترغو وتزبد

مدوية مثلما تسمع أصوات الصراخ والصراع العسير بين الجنود المتشابكين بالأيدي والملامسين لبعضهم البعض في جبهة القتال .

-  قال ستيننفايك بينما أسند ظظهره للخلف ، تدحرجت نظارته أسفل عينيه ، كم رائعة تلك

الكلمات .

-  قال بيتر ، أجل .. رائع جدا خصوصا عندما تكون منشغلا على مدى نصف ساعة بتلك الفوضى، لكنها تستغرق يوما كاملا ، أنظر مثلا كيف تهلل الطبيعة وتحدث الضوضاء في بعض المناطق من العالم لكن مع  توفر التوازن المطلوب ، هل لاحظت ذلك حقيقة ؟ ماتتذكره ليس الجنود المتحاربين لكن صورة الطبيعة المطبوعة في الذاكرة ، وهذا شيئ مؤثر بطبيعة الحال ، ربما ستختفي ساحة المعركة لكن الأنهار ستظل قائمة إلى أبد الآبدين، بمقدورك أن تسمع خرير المياه حتى يومنا هذا ، وسوف تكون ذلك الراعي الذي يشعر بنفس المتعة، كما لو أن بيتر يقصد الوجود بأكمله مع حصر التشابهات والمتناقضات حكاية أبدية تتضمن تفاصيل كثيرة ثم تأتي

قصة أخرى بمزيد من التفاصيل والأحداث .

 

-  أكمل بيتر حديثة قائلا:  هذا يعني الحرب ، تظاهر ستينفايك كما لو أنه لم يسمع شيئا، رائع

        افعلتموه أيها الشباب حتى الآن، لكن توجد هفوة واحدة فقط، إنها  ليست مجموعة من    الأنهار التي تلتقي مع بعضها البعض لكن نهرين فقط...نهرين فقط .

-  إذن أين توجد ؟!

-  أنظر هنا إلى تلك الرموز ، هذا ما يطلق عليه الإزواج أو الثنائية، تأتي من شيئين مجتمعين

    مع بعضهما البعض ، بالضبط مثلما يحدث مع جيشين، نموذج مشابه لذلك ماحدث في زمن

    الشاعر الإغريقي هوميروس، هناك الرمز الذي يشتق من الرمزية أو بمعنى آخر إستخدام

    الرموز في التعبير ، هل تعرف ماهي الرموز؟

-  لا..لا..قال بيتر بنغمة مشوبة بعدم الرضا كأنه لايود سماع الإجابة .

-  ماهي الرموز ياأبي؟ قال أنطون.

-  تنفس السيد ستينفايك الصعداء آخيرا ، هو الآن على أتم الآستعداد للإجابة على أسئلة

    ولديه ، كان ذلك حجرا يصطدم ببعضه من المنتصف، على سبيل المثال إذا قضيت بضعة

    أيام  في مدينة أخرى وطلبت من مضيفي إذا كان مستعدا لإستقبال ضيفا آخر ، كيف يعرف

    بأن المقصود بالضيف الآخر هو ولدي، لتوضيح الأمر قمت بكتابة بعض الرموز ، بينما

    إحتفظت بنصف الرمز معي ، أرسلت النصف الآخر إلى بيتي ، عندما يأتي ولدي سوف

    نقوم بمطابقة الرموز ببعضها البعض .

 

-  قال أنطون معقبا : هذا أمر جيد ..سوف أكتب مثله .

-  بينما إنعطف بيتر للخلف متأها من الألم مرددا بالله ، هل من اللازم معرفة تلك الأمور؟

-  قال ستينفايك وهو يتطلع من عويناته : بإسم الإنسانية ياولدي ، هل رأيت كمية السعادة التي

    تنتظرك هناك ، إذا عشت حياة أبعد .. أغلق بيتر الكتاب بعد أن رصها فوق بعضها البعض

    إلى مايشبه الكومة قائلا بصوت تشوبه الغرابة : من لايسخر من الأشياء التي يمتلكها البشر

   

-  سأل بيتر أمه: أين توجد تلك الأشياء حقيقة؟ قالت وهي تخرج لسانها نحو الخارج، واضعة

                بعض حبات القرنفل فوق الضرس الذي يؤلمها ، توجد في العدم ، حيث

   لامكان .

-  هناك بعيدا جدا ، أنا خائف أيضا ، قال ستينفايك .

-  الآن يا أمي إلى الفراش ؟ قال بيتر .

-  يجب أن نقتصد بإستخدام المحروقات ، ماتبقى يكفينا لعدة أيام فقط، أخرجت السيدة ستينفايك علبة من الكومودينو وهو دولاب صغير بأدراج بداخلها صحيفة ألعاب قديمة بعنوان " البشر ليسوا أشرارا" ، حركت المصباح ببطء جانبا ثم طوت الصحيفة .

-  أريد تلك الخضراء ، قال أنطون مشيرا لزهر الطاولة .

-  تظر لبيتر وهو يشير إلى جبهته .

-  فكر إذن ربما ستفوز باكرا؟

-  نعم .

-  سوف نرى ولو مرة واحدة فقط؟

ترك ستينفايك كتابه مفتوحا جانبا ، في تلك اللحظات لايود سماع صوت إرتطام حجر النرد

وخطوات البيادق وهم العساكر في لعب الشطرنج فوق اللوح الكارتوني ، كانت الساعة تشير

إلى الثامنة ، السكون يلف الأمكنة بالخارج ، حيث بدأ منع التجوال في مثل تلك الساعة كما لو

أن الجميع فوق سطح القمر .

 

 

 

 

 

 

 

 

(2)

 

عبر ذلك السكون يبدو بأن ذيول الحرب قد لاحقت هولندا أخيرا، فجأة بدون موعد مسبق سمع دوي ستة طلقات حادة ، الأولى ثم طلقتين بالتتالي ، بعد مرور ثواني قليلة سمع دوي الطلقة الرابعة ثم الطلقة الخامسة ، بعد هنيهة إنطلق نوع من الصراخ ثم تلته الطلقة السادسة

إنشغل أنطون في تلك اللحظة برمي زهر الطاولة، يتحدث وينظر لأمه ثم تنظر أمه لأبيه وينظر أبيه هو الآخر بين الأبواب ، أما بيترفقد رفع الغطاء الواقي لمصباح الكاربيد ثم وضعه على اللوح

على ذلك الحال جلس الجميع في الظلمة ، بينما وقف بيتر ثم مشى متثاقلا نحو الأمام ، فاتحا الأبواب

بالزلاقة ، بواسطة فتحة في غرفة خارج المنزل تلصص النظر ، على الفور ولج هواء مكتوم ذو رائحة عفنة وقارس البرودة من الغرفة إلى داخل الصالون .

-  يبدو بأنهم قتلوا أحد الأشخاص ، توجد جثة رجل مسجى في الشارع العام ، ثم إنطلق بيتر

    مسرعا إلى الممر .

-  بيتر ..صاحت أمه .

سمع أنطون بأن أمه ذهبت خلف شقيقه بيتر ، بينما قفز هو الآخر من غرفة خارج ،حيث  أفلت بلا عثرات من بين قطع الأثاث التي لم يرها من شهور طويلة ، كرسي

الفوتيه وهو مقعد كبير ومريح ، طاولة مستديرة منخفضة ، مزينة بمفرش من جميع الزوايا ، أسفل لوح زجاجي غير مثبت يوجد دولاب البوفيه ، يستخدم لحفظ الزجاج بداخله صحون من الفخار ولوحات تعود لأجداده، الستائر ، مقعد النافذة ، كان كل شيء باردا في الداخل لأنه لم يسكنها أحد أو يتغير فيها الهواء منذ زمن بعيد ، إختفت الزهور الثلجية التي كانت توضع على الألواح الزجاجية عند النافذة ،كانت أمسية غاب فيها القمر ، لكن الثلج المتجمد حجب الضوء بشدة عن نجوم السماء ، فكر بأن بيتر ربما يشاكس ويقوم ببعض المناورات الظريفة لكن عبر النافذة الجانبية اليسرى للغرفة التي تطل نحو الخارج لمح هو أيضا المشهد الدرامي ، في وسط

الشارع الفارغ أمام منزل كورتفخ حيث تتمدد دراجة لاتزال عجلتها الأمامية تلتف بشدة ، مؤثرات دراماتيكية ، ستعرض في كل فيلم يحكي عن المقاومة ، ركض بيتر وهو يعرج فوق ممر الحديقة الأمامية ، لازال يعاني منذ عدة أسابيع من إلتهاب في قدم ساقه اليسرى لم يندمل بعد، بينما قامت أمه بقص قطعة من جلد حذاءه محاولة لتخفيف الألم ، ركع للأسفل قرب رجل فاقد الحركة ، ملقى بنفس إرتفاع دراجته عند مجرى لتصريف مياه الأمطار ، كانت ذراعه

اليمنى تستند على حافة دواسة الدراجة ، كما لو أنه صوبها بسهولة ، رأى أنطون زوج حذاءين

طويلية سوداوين لامعين ، بطلاء فولاذي عند الكعبين للوقاية من البرد القارس ، بصوت حاد

وشوشت ثم نادت على بيتر ، كانت واقفة أمام عتبة البيت الأمامية ، تطلب منه المجئ للداخل في الحال ، قام بيتر ثم نظر إلى يسار ويمين الرصيف ، ثم عرج عائدا أدراجه .

 

-  إنه بلوخ  ، سمعه أنطون عند الممر يقول بصوت مبتهج ، إذا سألتني فأنها ميتة رائعة

كان أنطون في الثانية عشر من عمره ، لكنه يفهم مثل تلك الأشياء جيدا ، فيك بلوخ كبير مفتشي الشرطة والمجرم الأكبر الخائن في مدية هارلم وضواحيها . يمر أحيانا بالقرب من هنا متوجها إلى عمله أو منزله في جادة هيمستيدة ، رجل مفتول العضلات ذو وجه خشن الملامح ، أحيانا يرتدي معطفا رياضيا ذو لون بني غامق مع قميص بربطة عنق مع بنطلون مقلم وحذاء عالي ،

تحيط به هالة من العنف ، الكراهية والغضب ، يجلس مع إبنه فيك في نفس الصف المدرسي ، حدق أنطون بالحذاء الطويل وتعرف عليه بالحال ، حضر فيك مرات عديدة بصحبة أبيه للمدرسة ، عندما يقف الجميع عند مدخل المدرسة ، كان بلوخ يرمقهم بنظرات ساخرة وهو داخلا وعندما يغادر يمشي ولده الصغير فيك بعينين مغلقتين يتهامسون خلفه بصوت خافت مفتش الشرطة ، لدى دخوله ينظر بسخرية  نحو الجميع لكن أثناء المغادرة يمشي فيك بعنين فرحتين داخل فناء المدرسة وكأن الشر طار ويلاحظ الجميع كم هو مرتب الهندام .

- توني ، صوت أمه ينادي تعال فورا من تلك النافذة .

في اليوم الأول من العام الداسي الجديد، عندما كان لايعرف أحدا ، يظهر فيك مرتديا بدلة رسمية زرقاء من موضة الشباب في ذلك الوقت ، بينما يضع على رأسه قبعة سوداء بقاعدة برتقالية

مع مستلزماتها ، كان ذلك تحديدا في شهر سبتمبر بإختصار بعد ثلاثاء " دولي" الشهير ، عندما توهم الجميع بأن المحررين قادمين لتخليص البلاد من نير الإحتلال الألماني وفر معظم أعضاء حركة "إن.إس.بي" والخونة المتعاونين مع العدو نحو الحدود الألمانية وربما أبعد من ذلك . جلس لوحده تحديدا في مكانه المخصص

بالصف، فجأة وصل معلم الحساب بوس ثم سحب كتبه حتى ظهرت للخارج ،أمسكه    من ذراعه بإتجاه العضادة أو الإطار الخشبي الذي يوضع فيه الباب ، كي يمنع دخول التلاميذ الآخرين من الدخول إلى الصف .

  نادى  مجددا على التلاميذ محذرا فيك بأنه لن يعطي الدرس للتلاميذ الذين يأتون للمدرسة غير مرتدين الزي الرسمي ، يجب عليه العودة لمنزله لتغيير ملابسه وإرتداء زي آخر مناسب ، لم يتفوه فيك بشيء ولم ينظر نحوه بل ظل جالسا وهو ساكنا ، بعد لحظات سمع مدير المدرسة الثانوية عبر تزاحم التلاميذ ماجرى في حقيقة الأمر ، غاضبا من المعلم  همس في إذنه ، لكن هذا الأخير لم يستجب ، وقف أنطون للأمام ونظر أسفل ذراعه إلى ظهر فيك ، في فراغ الصف ، فجأة إستدار فيك برأسه نحوه ببطء ثم نظر إليه وهو منتصب القامة ، بنفس لمحة العين واساه أنطون كما لو أنه لم يشعر بأحد من قبل ، لم يتمكن فيك بطبيعة الحال من الذهاب إلى المنزل لوحده مع أب مثل بلوخ ، قبل أن يحاول معرفة ماحدث ، كان  في تلك اللحظة غائصا أسفل ذراع السيد بوس، بعد ذلك إنهارت عزيمته ، لدى مغادرته المدرسة قابله

المدير عند الردهة ثم أمسكه من ذراعه ، متكلما بصوت خافت ، بأنه ربما أنقذ حياة المعلم

:بوس" ، لم يدري فيك ماذا سيفعل بتلك الشكوى، لاحقا لم يتحدث عنها قط أو يخبر أحدا في المنزل .

 

جسد ملقى عند مجرى تصريف مياه المطر ، بينما ظلت دراجته ساكنة ، هناك في أعلى السماء حيث النجوم العملاقة ، تآلفت عيناه في تلك اللحظة مع الظلمة، رأى بوضوح عشرات المرات أوريون رافعا سيفه ، الطريق الحليبي ، كوكب من حزمة ضوئية لامعة، من المحتمل إنه كوكب

المشتري ، منذ قرون طويلة لم يعد عنان السماء فوق هولندا صافيا بما فيه الكفاية ، هناك في الأفق حركتان بطيئتان تتقاطعان مع بعضهما مختلفتان ، حزمات من ضوء البحث لم تسمعهم أي طائرة،، لاحظ بأن زهر الطاولة لايزال في يده ثم وضعه في جيبه .

 

في تلك الليلة عندما إستعد للهروب من النافذة ، رأى فجأة كورتفخ خارجا من المنزل ، تتبعه إبنته كارين ، شده كورتفخ من ذراعيه أما كارين فمسكت حذاءه الطويل ، ثم سحبه لاحقا  ، بينما سارت كارين للخلف .

-  هيا أنظري الآن ، قال أنطون .

رأت الأم وبيتر كيف تم وضع جثة بلوخ أمام منزلهما ، أما كارين وكورتفخ فقد ركضا عائدين ، في حين  ألقت كارين القبعة المنسية فوق الجثة قام أباها برمي الدراجة جانبا ، بعد مرور لحظات قليلة إختفيا في منزل "نويتخداخت" ,

في الغرفة التي تطل خارج منزل ستينفايك لم يتفوه أحد بكلمة ، بدا الرصيف مهجورا ، ولم تعد

الأشياء مثل سابقاتها ، ظلت الجثة منبطحة وذراعيه خلف رأسه ، يظهر معطفه الطويل الذي يصل إلى منتصف جسده ، كان بلوخ منشغلا بالقفز من إرتفاع شاهق للأسفل ، بينما قبض بيده اليمنى على مسدس ، لقد تعرف أنطون كما يبدو على هوية القتيل الذي كان مائلا بجسمه للخلف، تعرف الآن بوضوح على الوجه الكبير ، الشعر الملتصق والمصبوغ للخلف الذي يرى بصعوبة أيام الحرب .

-  اللعنة ، صرخ بيتر فجأة بصوت مرتفع .

-  ها..ها..ها تردد صوت ستينفايك مدويا في ظلمة الغرفة الخلفية لم يكن قد نهض بعد

    من الطاولة .

-  هؤلاء الأوغاد وضعوه قرب منزلنا ، صاح بيتر .

-  عيسى المسيح! يجب أن تخفي الجثة على الفور قبل أن يأتي الألمان .

-  لاتتدخل فيما لايعنيك ، قالت السيدة ستينفايك.

-  ليس بمقدورنا فعل شيئ .

-  لا..لا يمكن إنه ملقى أمام منزلنا ، لما فعلوا ذلك! لأن دوريات الألمان ستلتقطه بطبيعة الحال

مثلما حدث في المرة الأخيرة في حي ليدسفارت .

-  لكننا لم نفعل شيئا ، قال بيتر.

-  يبدو بأن هناك أمرا ما يثيرك، يجب أن تهتم بأمر الأوغاد، خرج من الغرفة ، تعال  إلى هنا

يا أنطون بسرعة ، لنفعلها نحن قبل فوات الأوان .

-  هل أصبتم بالجنون! صاحت السيدة ستينفايك ، بلعت ريقها ثم تنحنحت لتسليك حلقها وبصقت حبة القرنفل من خارج فمها .

-  ماذا أنتم فاعلين ؟

-  نعيد وضع الجثة أو ربما أمام منزل السيدة بومر .

-  عند السيدة بومر؟ كيف  واتتك تلك الفكرة ؟

-  لماذا عند السيدة بومر وأمام منزلنا ، السيدة بومر ليس لهاعلاقة بالأمر ، وفري على

نفسك تلك الترهات ، الجو الآن شديد البرودة .

-  سوف ترى ماذا سنفعل.

-  لاتأتي من تلك الجهة .

-  خرجت السيدة ستينفايك أيضا من الغرفة، سقط ضوء خافت عبر النافذة العلوية في الصالة

رأى أنطون أمه واقفة أمام الباب متوقدة الذهن ، بينما حاول بيتر سحبها جانبا ، سمعها تدير المفاتيح ثم نادت: ويليم بالله عليك قل شيئا !

-  أجل..أجل ..سمع أنطون صوت أبيه، لازال يطنطن في أرجاء الغرفة الخلفية ، "أنا...."

-  من بعد مسافة ترددت مرة أخرى أصوت إطلاق الرصاص .

-  إذا نجح بعد ثواني قليلة سيكون لاحقا أمام منزل السيدة بومر ! هلل بيتر.

-  أجل ..قال ستينفايك بصوت خافت ، يالغرابة الأمر لم يستطع السكوت، تحطم على نحو غريب لكن هذة ليست القضية ، ليست القضية ، ليست القضية، إن الجثة ملقاة أمام منزلنا لكن بالتأكيد تحولت الآن إلى حادثة ، في واقع الأمر سوف أعيد وضعها وأقوم بذلك لوحدي ، قال

بيتر، فجأة إستدار نحوه ، أراد أن يركض بإتجاه المطبخ لكن من شدة الألم تعثر بكومة أخشاب

من جذوع الشجرة الأخيرة التي قطعتها أمه من الأرض الصغيرة .

-  بيتر بالله عليك ، نادت السيدة ستينفايك على ولدها .

-  أنت تخاطر بحياتك ياولدي.

هذا مافعلتموه ، عليكم اللعنة! قبل أن يصل للنهاية أدار باب المطبخ بالقفل ثم ألقى المفاتيح في

داخل الممر حيث إرتطم بصوت غير مرئي ، بعد ذلك إتجه للباب الأمامي وفعل الشيئ نفسه

مع مفاتيح المنزل .

-  اللعنة، صاح بيتر وهو شبه باكي ، أنتم متخلفين عقليا ، متخلفين ، جميعكم .

ذهب بيتر إلى الغرفة الخلفية ثم جذب الستائر وفتحها ، بعدذلك وضع قدمه السليمة بإتجاه أبواب الحديقة، ثم فتح قصاصات الصحف ، تركها تتطاير لتحدث صوتا حادا ، فجأ رأى أنطون أباه

مثل شبح بإتجاه الثلج مجسدا ، لازال يجلس عند الطاولة . عندما إختفى بيتر في الحديقة، ركض أنطون مرة أخرى إلى الغرفة البارزة خارج المنزل ، نظر للخارج رآه يمشي متعثرا حول المنزل ، تسلق سياج الحديقة ثم سحب بلوخ من حذاءه، في تلك اللحظة بدا مترددا ربما من بقع الدماء التي رآها تنسال فجأة ، أو ربما لايدري في أي إتجاه يمشي ، لكن في حقيقة الأمر عليه فعل شيئ قبل فوات الأوان ، في نهاية الرصيف ترددت أصوات صراخ: وقوف!وقوف! أيديكم للأعلى ! 

 

                      

 

 

شعر أنطون بدفء أمه وهي إلى جانبه، ماهذه الضجة ! يطلقون الرصاص على بيتر ! أين هو الآن! للخلف .

- بعينين كبيرتين نظر أنطون لماحدث، الرجل الثاني وهو من البوليس العسكري مرتديا الزي الرسمي ، عاود أدراجه ، قفز فوق دراجته ثم إنطلق مسرعا، بينما ترك الرجل الثالث وهو بالزي المدني يتدحرج في الجانب الآخر من الأحراش المزروعة على جانبي الطريق، ثم جلس القرفصاء في ممر الصيد ويديه تمسكان بإحكام بمسدس  صغير .

 

في تلك اللحظات إختبأ أنطون أسفل أريكة النافذة ثم إلتف جانبا، أمه هي الأخرى  إختفت، في تلك اللحظة  ظهر عند الطاولة شبح أبيه من بعيد منكفأ كما لو أنه يتحمم ، بينما وقفت أمه عند شرفة الحديقة الخلفية، ردد بصوت خافت إسم بيتر، يبدو بأن ظهرها بعث موجات البرد الذي تسلل إلى داخل المنزل، بعيدا لايسع أي صوت، رأى وسمع أنطون كل شيء بوضوح تام، لكن بشكل أو بآخر يبدو بأنه فقد توازنه ، جزء منه متوازن مع بعضه أو في العدم، يعاني في الوقت الحالي من سوء التغذية، ويتصلب أيضا من البرد، لكن هذا أول الغيث، مثلما اللحظة الآية: أبيه المكتئب قادم من الثلج يطقطق عند الطاولة، وأمه في الخارج تتأمل ضوء النجوم، لكن هذا ليس آخر السيل ، هناك أمور أخرى بإنتظاره ، خصوصا في تلك الأجواء الملبدة بالغيوم، التي ماتفتأ تقلق مضاجع النائمين وراحة اليقظين، ذلك الضوء السرمدي الذي يبدو بأنه لن يخفت أبدا، أطلق العنان لنفسه حول كل شيء ، للماضي الغابر ، سوف يقتفي أثره ويشد نفسه بإحكام، ثم يبدأ رحلة إلى حياة أبعد، إلى النهاية حيث يتطاير خارج بعضه مثل فقاعة صابون، إلى حيث لن يحدث شيء مطلقا.

- قدمت أمه للداخل.

- توني ؟ أين كنت؟ هل رأيته؟

- لا..لا

- ماذا يجب أن نفعل؟ ربما منع من المرور في مكان ما، مجددا مشت مسرعة  نحو الخارج ثم عادت مرة أخرى للداخل، فجأة عادت إلى زوجها ثم جذبته من ذراعه، هل إستيقظت أخيرا إنهم يطلقون

الرصاص على بيتر!

- ربما جرح.

- وقف ستينفايك بهدوء بدون أن يتفوه بكلمة، بدا طويلا ونحيفا، خرج من الغرفة والحيرة تملأ رأسه وتتفجر الكلمات من فمه، رجع مجددا بقبعته الكروية السوداء وشال حول عنقه، عندما

هم بالذهاب إلى شرفة الحديقة، عاد أدراجه، سمعه أنطون وهو ينادي بيتر، لكن إنطلق صوت مبحوح من حلقه،  وهو فزعا إلتف تقريبا ثم قدم للداخل ، وجلس مشلولا على كرسي قرب المدفأة، بعد مرور لحظات قليلة قال: أعذريني ، تيا..عزيزتي، كانت أيديه تتصارعان مع بعضهما ويبدو بأنه صبره نفذ أخيرا، إقتربت النهاية وسوف تتحسن الأوضاع.

- أنطون ، إرتدي معطفك بسرعة، قال ستينفايك ، أوه ياإلهي ..أين إختفى!

- ربما يكون عند السيد كورتفخ، قال أنطون.

- لقد أخذ مسدس بلوخ، وسط هذا السكون الذي تبعته كلمات، يبدو بأن مكروها ما قد حدث .

- هل رأيته حقيقة؟

- أجل منذ لحظات ، عندما قدم الرجال، بينما فر هو هاربا، في الضوء الخافت المتناثر من الغرف وهو متدليا مثل دورا وهميا قصيرا، ثم جذب وهو منحنيا مسدسا وهميا من يد وهمية؟

- بالتأكيد لن يصيبه مكروه، قالت السيدة ستينفايك وهني متقدة غضبا، سوف أذهب فورا إلى منزل كورتفخ، كانت تود المشي في الحديقة، جرى أنطون خلفها مسرعا ثم نادى عليها:إحذري ، يوجد هناك في مكان ما أحد الأوغاد، مثلما عاد زوحها منذ لحظات قلقا، عادت هي الأخرى إلى سكون البرد القارس لاتتحرك، حيث حديقة المنزل للخلف، بدت الأراضي الثلجية جرداء ، أيضا أنطون لم يتحرك مجددا، بدت الأشياء جامدة بدون حراك، مع ذلك إنقضى الزمن، ظهر كل شيء مبهرا بسبب إنقضاء الزمن ، مثل أحجار الحصي في قاع ترعة صغيرة ، إختفى بيتر ، جثة أمام الباب وحفنة من رجال مسلحين يحومون بالخفاء ، تولد لدى أنطون شعور بأنه يستطيع إنهاء كل شيى غير مكتمل، كي يتم إعادة الأمور لنصابها، ربما بعد قليل نعود مجددا للجلوس حول الطاولة مع لعبة أسمها "الناس لايزعجونك" بسبب شيء ما، بدون أدنى شك بقوته ، توجد نقطة ما في لسانه، لاتريد أن تظهر، في كل مرة تحاول جذبه، كي لايهرب أبعد من ذلك، أو أنه يشفط الهواء المتنفس المستمر للداخل ثم ينفخه، لذلك يجب أن يتأكد بأنه فعل ذلك حقيقة، وإلا سيختنق لكنه في نفس اللحظة إختنق.

- من طريق بعيد إقترب صوت دراجات بخارية أيضا صوت سيارة.

- تعالي للداخل يا أمي ، قال لها أنطون.

- أجل ياولدي...سأقفل الأبواب.

- يبدو بأنها سيطرت على الموقف الآني تماما، لكنه فهم من نبرات صوتها بأنها تقف على حافة شيء ما، خرج عن سيطرتها، يبدو بأنه الوحيد الذي ظل متماسكا،

 أيضا يستطيع بعض الطيارين السيطرة على المواقف الصعبة، على سبيل المثال زوبعة أو عاصفة ترابية شديدة، يدور فيها الهواء على شكل قمع حيث سكون الرياح والشمس تشرق، في تلك الحالة يحاول المسافرين الخروج من الطائرة وتعلن حالة الطوارئ وتظل الطائرة تدور بسرعة وإلا فسينفذ البنزين ثم يظل المسافرين الطريق.

- إقتربت الدراجات البخارية والسيارات من الجهة الأمامية للرصيف، في حين

تسمع أصوات سيارات من مسافة بعيدة يبدو بأنها تقترب بشدة، ليس بعيدا من هنا كان كل شيء يسير بإنتظام دائما، في حقيقة الأمر ماذا تغير ، ماعدا أن بيتر إختفى كيف يمكن للأشياء أن تتبدل بسرعة؟

عندما كان هناك ، سمع صوت فرامل تصفر، صراخ بالألمانية ، صوت حاد

لأحذية طويلة تتقافز في الشارع، الآن وبعد كل ذلك ومضت حزمة من الضوء عبر فتحة الستائر، ركض أنطون بقدميه نحو الغرفة التي تطل على الشارع، في كل مكان يتواجد جنود ألمان بمسدساتهم، مع مدافع الرشاش ودراجاتهم البخارية، أيضا الشاحات الكبيرة المعبأة بالجنود، سيارة إسعاف عسكرية، نقالة للجرحى، فجأة أغلق بشدة إحدى الستائر ثم عاد أدراجه.

- هناك رأيتهم، قال هو بالظلمة.

- في الحال أخذوا يدقون بشدة على الباب بكعوب بنادقهم، هنا أدرك بأن شيئا مرعبا سيحدث لامحالة.

- صراخ الجنود الألمان ، إفتحوا الباب في الحال ، إفتحوا الباب .

هرب عشوائيا إلى الغرفة الخلفية بينما ذهبت أمه نحو الممر ، ثم أخذت تصرخ بصوت مشلول، بأنها لاتستطيع فتح الباب، لأن المفاتيح بعيدة لكن الباب حوصر وحطم بإتجاه حائط الردهة، بينما مسع أنطون صوت المرآة التي وضعت قرب تمثالين على شكل فيل مصنوعين من الخشب فوق الطاولة الصغيرة مع نبتة ذابلة

تتحطم، فجأة إنتشر الجنود في كل مكان في الممر وفي الغرف جنود مسلين بخوذات فولاذية يطوقون المكان بسبب البرد القارس ،جميعهم عمالقة أكبر من المنزل نفسه، لم يعد يحتمل أكثر من ذلك، مبهورا بسبب إضاءة مصابيحهم وضع أنطون ذراعه أمام عينيه ، تحت وطأة

الموقف الآني رأى فوق صدر أحد الرجال درعا حربيا براق اللون

خاص بالمخابرات وزوج من الصناديق المستطيلة أمام قناع الغاز، أيضا أحذية طويلة ملطخة بالثلج، تسمع فوق السلم دقات أحذيتهم الطويلة، ظهر رجل في الغرفة بالزي المدني، يرتدي معطفا جلديا أسود يصل لركبتيه، يضع على رأسه قبعة داكنة بحافة دائرية.

- الأوراق بسرعة، صرخ أحدهم بسرعة..أسرع كل شيئ.كل شيء.

وقف ستينفايك ثم سحب أحد أدراج البوفيه فاتحا، بينما قالت زوجته:

نفعل شيءا ، هدوء زمجر الرجل ، جلس على الطاولة وبإظفر سبابة اليد أغلق الكتاب ، كان ستينفايك منشغلا بقراءة كتاب حول علم الأخلاق، ثم قرأ العنوان"شرح علم القياس،بينديتوس ،دي سبينوزا" أف، أف قال هو ثم نظر للأعلى، هذا الرجل يقرأ مثل تلك المواضيع...

يهودي الكتب .

 

قالت السيدة ستينفايك عنذلك : هل نتجاوز تلك الخطوة، غدوة ورواحا.

- ماذا يجب أن أفعل؟ وهو يمشي غدوة ورواحا، من المحتمل أنهم تركوا السيد سخيشي في جادة دينهارن ، تساءل الألماني مع نفسه، بينما رأى أنطون كيف كان جسد أمه يرتعش بالكامل ، ثم بدأت تمشي غدوة ورواحا، تكتسي ملاممح وجهها علامات غير مفهومة ، بينما صوب أحد الجنود ضوء الفانوس على قدميها .

- هذا يكفي، قال مجددا من المحتمل بأن أنطون إكتشف أثناء دراسته بأن الألمان يعرفون من مشية المرأة إذا كانت يهودية أم لا.

- وقف ستينفايك والأوراق بيديه.

- أنا .

- من فضلكم خذوا هذه القبعة بعيدا من هنا، إذا كانوا لايريدون التحدث معي .

- نزع ستينفايك قبعته وبدأ يردد مجددا : أنا..أنا .

-أحضروا تلك القبعة المنقار ، هذا اليهودي القذر، ردد الألماني

- تفحص الرجل المستندات الشخصية وكارتات العائلة ثم تطلع عندئذ حوله.

- من هو الرابع؟

كانت السيدة ستينفايك تنوي قول شيء ما لكن زوجها وقف أمامها .

- إبني العزيز، قال بصوت مرتعش غاضبا خائفا من حوادث مرعبة، القبعة، بدون أن ينظر إليهم، فجأة تخلى عن سلطته الأبوية في المنزل بدون أن ينظر نحوهما، مودعا ، فجأة سيترك المسكن القديم ، أشار من قبعته إلى زاوية فيلخيليخن حيث يسكن آل بومرس.

- هكذا إذن ، قال الجندي الألماني في حين وضع الأوراق في جيبه.

- القبعة؟ غير صحيح؟

- لكن.

- تنحنح الرجل برأسه.

- تفرقوا.

بعد تلك اللحظة المشحونة بالغضب حدث كل شيء بسرعة، علامات البرود والإحتقار من الألمان، أجساد تنتفض من الغضب ورؤوس تضج بالأسئلة، بدون أن يؤخذوا شيئا معهم، حتى من غير معطف ، خرجوا من المنزل، في كل مكان بعرض الشارع تقف مدفعياتهم الخفيفة، السيارات الشخصية الرصاصية، شاحنات الجيش بإتجاه بعضها، في كل مكان بملابسهم الرسمية يصرخون، بينما تتراقص إشعاعات مصابيحهم، بعض هؤلاء الجنود ترافقهم الكلاب في الطابور ، سيارة الإسعاف إنطلقت، ماعدا دراجة بلوخ ظلت ملقاة في عرض الشارع، بينما ظلت بقعة دماء حمراء عالقة في الثلج، سمع أنطون مجددا إنبعاث أصوات مسدسات كاتمة الصوت تنطلق من مجهة غير معروفة لكنها قريبة من المنزل، شعر بأن يد أمه تربت على كتفه، عندما نظر إليها رأى وجهها مكفهرا على غير العادة، أما أباه فقد وضع القبعة الكروية على رأسه مجددا ، يتطلع إلى الأرض كما إعتاد دوما عندما يمشي، بعد ذلك السكون المميت الذي سبق الأشهر الماضية، داهم أنطون شهور مزدوج المعنى بالإمتنان والرضا لما جرى، ربما تعرض هو الآخر للتنويم المغناطيسي بواسطة حزمات الضوء التي ترتطم بوجهه من حين لآخر، في نهاية المطاف حدث شيء ما ، كسر حدة ذلك السكون والجمود.

- شعر كأنه في حلم، كيف تصلبت قبضة يدي أمه قبل أن تخلعان

وهما مشدودتان عن بعضهما .

- توني.

- في تلك اللحظات إختفت، حيث لامكان، بعيدا خلف الشاحنات يجلس أباه سحبه أحد الجنود من ذراعه العلوية من الكوع إلى الكتف إلى وحدة "دي.كي.فيه" التي تقع ميلة واحدة إلى منتصف الجانب الآخر المزروع حول الطريق السريع، ترك أنطون يصعد ثم ضرب الباب خلفه بشدة، للمرة الأولى  في حياته يجلس في سيارة شاحبا رأى المقود والعدادات أما في الطائرة فتوجد عدادات كثيرة، يوجد أيضا في الطائرة الكثير من العدادات، على سبيل المثال، يوجد في طائرة "لوك هيدالكترا" خمسة عشر عدادا، ومقودين، نظر للخارج، رأى أبويه

يذهبان إلى العدم.

- أين بمقدوره السكن الآن ‍‍‍... ‍يوجد عند آل كورتفخ أيضا جنود يجولون بمصابيحهم في الداخل والخارج، لكن من بعيد يستطيع أن يرى بيتر، كان واثقا بأنهم سيأتون عبر الأراضي الزراعية، ربما إكتشوفوا  في بادئ الأمر بأن بلوخ كان صريعا هناك؟ أما عند بومر في الحديقة فلايوجد أحد، لأن طلاء النوافذ إكتسبا لونا غير واضحا بإتجاه الشارع، كما لو أن أحدهم قد مسح النوافذ ، كي تصبح يده رطبة تلقائيا، بقيت جميع الأشياء غامضة غير واضحة المعالم، فجأة ومن شدة إندفاع الهواء للداخل فتحت أبواب غرفة النوم الخاصة بأبويه ناحية الشرفة على مصراعيها، لاحقا الطابق الأسفل حيث توجد غرف الجلوس وفتحت الستائر نحو الداخل وتحطم الزجاج بفعل مقابض البنادق.

 

يالهم من أوغاد ، ياترى من أين سيأتي أبويه بزجاج جديد حيث يصعب الحصول عليه في تلك الأيام، لحسن الحظ  دمروه بما فيه الكفاية، وإلا سيأتي المزيد من الجنود للدار ليعيثوا المزيد من الدمار، كما أنهم تركوا الباب الأمامي للدار مفتوحا.

 

لم يحدث شيئ آخر ، لكنهم لم يفارقوا المكان بعد، أما البعض الآخر منهم فلا زال يدخن السجائر والآخر منشغلا بالحديث مع رفيقه وأيديهم داخل جيوبهم، كما كانت تبدو آثار أقدام من البرد، في تلك اللحظة ظهر الجنود الآخرين بمصابيحهم أمام المنزل كما لو أنهم لم يكتفوا بما أحدثوه من دمار، أو كأن أحدهم يقول للآخر هل من مزيد، حاول أنطون إكتشاف مكان إختفاء أبويه لكن في الظلمة تصعب الرؤية، ماعدا الظلال تطلق حزمات من الضوء غدوة ورواحا، عواء الكلاب، فكر مرة أخرى هناك في الغرفة كيف أمسك الرجل ذو القبعة بأبيه عنوة، لكن تلك الذكريات أصبحت فجأة واضحة المعالم ليس فيها غموض أو ملابسات، لن ينسى أبدا أباه وهو يرغم على خلع قبعته، إنطبع الطريق في ذاكرته وتمنى أن لايفكر فيه أبدا ، يجب أن لايحدث مرة أخرى، لن يرتدي قبعة مستديرة ولن يسمح لأحد بإرتداء قبعة مثلها بعد الحرب ، نظر للخارج بإستغراب واضح كان السكون يلف جميع الأمكنة، إبتعد الجميع شلت حركتهم، لايسمع سوى أصوات الجنود وهم يتجادلون في طريق عودتهم إلى منازلهم، شعر أنطون بأن أحد المارة ألقى شيئا ثقيلا سرعان ما إخترق النافذة الوسطى للغرفة التي تطل نحو الشارع ثم ركض هاربا، لقد أحدثت القنبلة دويا قويا ذو تردد وإهتزاز شديد، سرعان ماشب الحريق في أرجاء الصالة، هرب أنطون بعيدا وفي نفس اللحظة التي نظر فيها، إنفجرت القنبلة الثانية في الطابق العلوي حيث توجد غرفة النوم، ثم ظهر أحد الجنود حاملا بيده رشاش الحريق وعلى ظهره إسطوانة ، تقدم للأمام ثم بدأ يطلق حزمات من النيران نحو جميع النوافذ، للوهلة الأولى لم يصدق أنطون مارأته عيناه من مشاهد لايمكن تصورها، ماحدث هناك! فاقد الأمل ويائس لحد بعيد بدأ عملية البحث عن أبويه ولكن الأضواء الساطعة حجبت عنه الرؤية، كانت النيران تصدر دخانا كثيفا تسرب للداخل بكثرة إلى الغرفة الأمامية والردهات وغرفة النوم وأيضا السطح العلوي للمنزل، إرتكبوا أفعالا لايقدر أحد على فعلها سواهم، إحترقت جميع الأشياء: الكتب، كارل ماري، كتاب علم الطبيعة حول الحيز المطلق، مجموعة صور الطائرات التي كان يحتفظ بها، مكتبة أبيه أيضا مجموعة أغطية سرير خضراء، ملابس أمه، العقدة الصوفية الكراسي والطاولات، في تلك اللحظات المقيتةأغلق الجندي إسطوانة النار ثم إختفى في جنح الظلام، بعذلك حضر عدد من الرجال من وحدة "جروني بوليزي" يحملان قربينات على ظهورهم، وهي بنادق ذات ماسورة قصيرة مائلة، كما كانوا يحتفظون بقفازات الأيدي أسفل الحزام، إقتربوا من المنزل حيث لاتسمع سوى أصوات إحتراق الأخشاب ، كأنهم يحاولون منعها ثم يتحدثون بأصوات ضاحكة، على مسافة بضعة أمتار توقفت سيارة شحن، بداخلها صندوق كبير يضم حشد من البشر معظمهم من الرجال يرتدون جاكيتات بأزرار ويرتعدون من البرد القارس، تتم حراستهم بواسطة جنود مسلحين برشاشات، بعد لحظات قليلة كانت أسرع من البرق عبر الضوء المنبعث من ألسنة النار، تمكن أنطون من رؤية قمصان العائلة ذات اللون الأسود من ماركة "إس.إس" ، ثم صرخ آمر القوات المرابطة، إستغل بعض السجناء المقيدين بالأصفاد الفولاذية الرفصة ثم ولوا هاربين ليختفوا في جنح الظلام.

 

تحول منزل العائلة المحترق الذي أطفأ الصقيع حرائقه المشتعلة إلى مايشبه جريدة قديمة إحترقت بشكل وحشي، بدأت الدماء تغلي في عروق أنطون وهو بداخل الشاحنة التي ستنقله إلى طيات لمجهول ، عبر نافذة السطح العلوي من الجهة اليسرى للمنزل كانت ألسنة اللهب ترفرف عاليا، هناك حيث توجد غرفته التي إحترقت هي الأخرى ، على أي حال يشعر الآن بالدفء ، فجأة إنهارت أعمدة

النيران من السطح العلوي، سرعان ما إتتشر الضوء في أرجاء الرصيف من شدة ألسنة النيران المشتعلة، كما لو أن عرضا مسرحيا يقام في الخلاء بتلك الساعة من الليل، في تلك اللحظة تخيل أنطون بأنه رأى أمه من مسافة بعيدة، من بين كل السيارات  المرابطة ، بشعرها المتدلي على كتفيها، بينما يتحسس أحدهم خصلات شعرها بأصابعه، لكن  الرؤية أصبحت غير واضحة فيما بعد، فكر مليا كيف تمكن عبر الظلمة الشديدة رؤية مجموعة من الإنجليز يفدون للحي، فوق اللوح المنشور المائل الذي نصب أعلى حائط الغرفة الخارجية المطلة على الشارع، كان بمقدوره قراءة الإسم المحترق بوضوح: باوتنروست، تحولت الغرف التي كانت في الماضي القريب باردة في تلك الساعة إلى جحيم يغلي، تناثرت في كل مكان قشور الطلاء المتشقق بفعل الحريق على الثلوج، بعد مرور دقائق قليلة، بدأ كل شيء يطقطق في الثغر الباسم، إلى مايشبه ينبوع شاهق من الشرار إلتهمت النيران المنزل بأكمله، كانت الكلاب تعوي بشدة، بينما جلس عدد من الجنود قرب كومة نار بحثا عن الدفء، سرعان ما تراجع أحدهم للخلف حيث تعثر فوق دراجة بلوخ الذي قتل بدم بارد على إمتداد الشارع، بينما إنفجر الآخرين من الضحك في نفس الوقت أخذت المدافع الرشاشة تدوي في نهاية الشارع، في تلك اللحظات كان أنطون مستلقيا بشكل لولبي على نفسه بينما تسارعت نبضات قلبه حتى بلغت ذقنه، عندما فتح الألماني الذي يرتدي معطفا طويلا باب الشاحنة،  رآه مستلقيا على مقعد صغير ، إشتعل غضبا ثم صرخ قائلا: إنهض....إنهض.

 

كان أنطون يزحف بصعوبة في ذلك الفضاء الضيق خلف الكراسي، حيث الرؤية غير واضحة جلس الجندي الألماني قرب السائق ثم أشعل سيجارة، بدأ الموتور يزمجر بصعوبة ثم مسح السائق بكم قميصه البخار المتصاعد من على الزجاج الأمامي للسيارة، كانت تلك المرة الأولى التي يصعد أنطون فيها سيارة في حياته، الظلمة داهمت جميع المنازل، ولايلمح جنس مخلوق في الطرقات، لاتوجد سوى حفنة من الألمان منتشرين في كل مكان، لم يتحدث الرجلان مع بعضهما إلا قليلا ، توجهت السيارة بعد ذلك إلى جادة هيميستيدة، بعد مرور دقائق قليلة توقفت عند محطة البوليس التي كانت تحرس بواسطة إثنان من رجال الشرطة، لدى وصولهم غرفة الإنتظار كانت محتشدة بعشرات الرجال من مختلف الأعمار، يرتدي أغلبهم الزي الرسمي سواء من الألمان أو الهولنديين ، فجأة سال لعاب أنطون لدى رؤيته البيض المقلي ولم يلمح أحدا يتناول شيئا، أيضا كان هناك مصباح إضاءة كهربائي والجميع يدخن السجائر، بينما جلس هو على كرسي قرب وعاء المدفأة حيث طوق الدفء من جميع النواحي.

 

كان الجندي الألماني يتحدث في تلك الساعة مع مفتش البوليس الهولندي ويشير إلى ناحية أنطون ، للمرة الأولى يتعرف على ذلك الرجل، رآه آخر مرة عام 1945 كان مختلفا عن الآن، يشارف الأربعين من عمره ، نحيف القامة ذو ملامح قاسية ، وندبة أفقية توجد أسفل عظمة الفك العلوي ، أحيانا يثير الضحك لدى رؤيته للوهلة الأولى، بدون إستثناء يحرص بعض مخرجي الأفلام الكوميدية والسادية الساخرة من نوع "ب" على توظيف الممثلين الذين يتمتعون بوجوه ضاحكة أو مايطلق عليه وجوه"هيلمر" التي توحي بإنطباع فني ولكن إذا كان الوجه لايتمتع بأي سمات فنية، فهو وجه يميل للواقعية الشديدة مثل النازي المتعصب أو الضخم المثير للضحك حتى أنه غادر الغرفة بدون أن ينظر ولو برهة لأنطون، بينما كان الرقيب الشرطي يضع حول ذراعيه بطانية منقوشة برسم حصان ثم طلب من أنطون الإقتراب قليلا ، في الممر إنضم الرقيب الثاني الذي كان يحمل في يده قبضة مفاتيح ثم قال للشرطي الواقف إلى جانبه بينما كان يتطلع لأنطون: ما الذي جاءنا اليوم؟ هل تعتقل الأطفال أيضا؟ أو ربما يكون إبن يهودي.

- لاتسأل كثيرا، قال رقيب الشرطة.

في نهاية الممر إنطلقوا خلف بعضهم نحو السلم المؤدي للسرداب ، إستدار أنطون نحو الرقيب ثم سأله: هل سيأتي أبي أو أمي؟

في تلك اللحظات لم ينظر إليه الرقيب ، لاأعلم شيئا ليس لدينا علم بالموضوع.

في الأسفل كان يوجد ممر قصير حيث كان الجو شديد البرودة، بعد مرورهم بكل تلك الأسلاك والأنابيب، جاء دور الأبواب الحديدية التي دهنت بطلاء سيء ومليئة ببقع الصدأ، يوجد في أرضية السقف مصباح ضعيف الإضاءة وغير مزود بغطاء للحماية، هل توجد هناك مزيد من المواقع؟ قال الرقيب.

- لايوجد المزيد، يجب أن يستلقي على الأرض؟ حدق الرقيب بعينيه بإتجاه الزنازين ، حيث بدا للعيان ماكان خافيا خلف تلك الأبواب المغلقة بإحكام.

- لاتوجد فسحة إلا في تلك الزنزانة، قال الشرطي بينما كان يشير للباب الخلفي من الجهة اليسرى، ربما يكون مركز لإعتقال رجال المقاومة "أسدبير" أحضر الشرطي متراس يستخدم لغلق الأبواب، ثم ألقى البطانيات بإتجاه المعتقل البريطاني الذي كان واقفا مقابل الباب.

- ستمكث هنا ليلة واحدة فقط قال الشرطي موجها كلامه لأنطون.

حاول أن تنام في أحد زوايا الغرفة، سوف تتسامران مع بعضكما ولن تصاب بالسأم، ولكن حاول إخراج هذا الصبي من هنا بأسرع وقت ممكن، في تلك اللحظات شعر أنطون بأنه لم يبقى فيه عرق ينبض بالحياة، قال الشرطي: يكفيه ماناله منكم من بؤس وشقاء ، بينما شعر أنطون بيد تلمس ظهره، تعثر ببقايا أشياء في الزنزانة المظلمة، بعدذلك سمع دوي صوت الباب يغلق بشدة ولم يرى شيئا بعد ذلك في الظلمة.

 

  

 

كان يتلمس مكان وجود رفيقه البريطاني الذي كان هو الآخر يقبع في الزنزانة أينما ينتقل ذات اليمين أو الشمال يشعر بوجود ذلك  المخلوق المعدم، الذي ينتظر النهاية، لايعرف هل هي إمرأة أم رجل ، وإلى أين سيؤول به المطاف، طوى يديه على حضنه ثم سمع خطوات أحذية فوق السلالم سرعان ما تلاشت، في نفس اللحظة كان يشعر بنفس رفيقه في الزنزانة.

 

- تناهى إلى مسامعه صوت نسائي خافت، كما لو أنه تعرض فجأة لخطر داهم، بعد مرور لحظات قليلة فتح عينيه  مباشرة، ليفاجأ بشيئ متحرك تنبض فيه الحياة بعد أن كان قبل سويعات قليلة لايرى سوى الظلام في وجهه كما لو أنه غرق في ماء أسود، كان يسمع أصواتا خافتة في الزنازين الأخرى ، يبدو بأنهم معتقلين آخرين ساقهم القدر الدامي إلىهذا المكان الموحش.

- لقد قاموا بإحراق منزلنا ، قال أنطون ذلك بينما لم يصدق في نفس الحين ماقاله قبل هنيهات، كيف بصدق بأن منزل العائلة الكبير تحول الآن  إلى كومة أطلال محترقة بين منزلي "فيلخيليخن" و"نويتخيداخت" ظل ساهما للحظات قبل أن يجاوب.

- لماذا؟ قال المرأة البريطانية.

- أجل ، ياسيدتي.

- لماذا ؟!

- لاشيء سوى عملية إنتقام مجهولة، قتل أحد الأوغاد الخونة قرب بيتنا، ولم يكن لنا

إي علاقة بقتله، لقد كان جميع أفراد العائلة أبرياء من دم هذا القتيل.

- أوه...أوه... اللعنة..قالت هي الأخرى بعد صمت قصير ، سيدي المسيح هل كنت لوحدك في المنزل؟

- لا..لا..كنت أقيم مع أبي وأمي وشقيقي الأكبر بيتر، لاحظ بأن عينيه متدلتيان بشدة، ثم فتحهما فجأة مستيقظا، ولكن الأمر سيان بالنسبة إليه الآن.

- وأين هم الآن؟

- لاأعلم..

- هل أخذهم الألمان إلى مكان مجهول؟

- أجل، على أي حال أبي وأمي.

- وشقيقك؟

- هرب هو الآخر بحلده، ثم بدأ ينتحب للمرة الأولى ، ماذا أفعل الآن، إنه يشعر الآن بالمهاة والخزي لماحدث ولكن ماذا عساي أن أفعل له، لاحول له ولاقوة بالله .

- تعال إجلس بقربي ، قالت البريطانية.

- وقف بثبات، ثم مشى خطو'..خطوة بإتجاه المرأة

- أجل ، أنا هنا.

شعر بأطراف أصابعها تجذبه من كلتا يديه ثم تطوقه بإحدى ذراعيها بينما سحبت

بيدها الأخرى رـسه لتضعه بين ثنايا صدرها، شمت رائحة عرق تفوح منه ولكن في نفس الوقت من شيء آخر ، شيى.. أشبه بطفل مطيع ، ينتظر شيئا يأتيه من المنل ربما قنينة عطر ، حيث تغوص الأشياء في الظلام سمع صوت خفقات قلبها تتضارب بسرعة شديدة ، ربما لم يبقى سواه في تلك الزنزانة كي تواسيه في لحظات فقد فيها جميع الأعزاء والمحبين.

 

عندما إعتدل في جلسته لمح خيط رفيع من الضوء يتسلل عبر فتحة صغيرة في الباب ، عند ذلك تمكنت من رؤية ملامح وجهه بكل تمعن ودقة، ثم غطته ببطانيتها وجذبته بقوة نحوها، كان الدفء ينقصها وإثر ذلك العناق الحار شعرت بدفء أكثر ، سرعان ما إنهمرت الدموع مجددا من مقلة عينيه ، كان يود لو يسألها عن سبب إعتقالها، لكنه لم يملك الجرأة الكافية، ربما بسبب التجارة السوداء أو قضية أخرى يجهلها لكنه رآها تتقبل السجن بكل رحابة صدر .

 

- همست في إذنه: أولا لاأريد سؤالك عن إسمك وليس من الضروري معرفته، بمقدورك أيضا عدم كشف هويتي أو من أكون، لكن لاتنسى شيئا واحدا في حياتك؟

- ماذا تقصدين؟!!!

- كم هم عمرك؟

- تقريبا في الثانية عشر، ياسيدتي.

- توقفي عن طرح مثل تلك الأسئلة ياسيدتي؟

إسمع سيحاولون جاهدين بكل ماأوتوا من قوة ودهاء الإيقاع بك ولكن لاتنسى أبدا بأنهم مجرد حفنة أوغاد، هم الذين أشعلوا النيران بمنزلكم، إذن من يكون قد فعلها، لكن هل تعرف المسؤول بالضبط؟!..لاأعلم تحديدا هوية الفاعل، قال أنطون وهو ناقم على حياته وعلى الساعة التي جاء فيها لى هذه الدنيا التعسة الشقي، هذا بالتأكيد مارأيته بأم عيناي ...أجل ...سحيح، لكن هل يحرقون منظلا بكل تلك البساطة، من أجل وقح صفيق، قرر البعض تضفيته بتهمة الخيانة، كان بمقدورهم إلقاء اللوم على الخارجين على القانون، مثر ربما يكونون هم الفاعلين، أو يعتبروها جريمة مثل كل الجرائم التي تحدث في الطرقات، كثيرا هذ الأيام مثل تلك الأمور تحدث حزافا وهذا هو ذنبهم وعليهم فقط تقع اللائمة وليس ذنب  الأبرياء العزل الذين لاحول لهم أوقوة.

- أوه.أوه.. قال أنطون بزفرة ألم إنطلقت من أنفاسه المتعبة، بينما نهض واقفا محاولا إعادة ترتيب كلماته، ومايجول بفكره، ولكن إذا كان الأمر على ذلك الحال كما تقولين، إذن لن يبقى شخص مذنب في هذه الدنيا.

- شعر بأصابعها تنداس بين خصلات ضعره الناعمة بهدوء.

- هل تعرف: في الحقيقة، كانت تبدو مترددة، ماو إسم ذاك الرجل؟

-  بلوخ، إعترف بإسمه للمرة الأولى، وهي تضع يدها برفق على لسانه ، وقبل أن يكمل حديثه : أسمه :فيك بلوخ" همس بإذنها، يعمل لدى البوليس، ويعتبر واحدا من حثالة جماعة "أنإس.بي" أقصد الخونة.

- هل رأيته من قبل؟ سألته بصوت خافت.

- وهل مات في حقيقةالأمر؟

هز أنطون  رأسه بالإيجاب ، عند ذلك أدرك بحدسه الذي لايخطئ بأمه لن تستطيع معرفة مايجول بفكره ثم قال: رائع...رائع، أجل لقد رأيت بأم عيني بقعا متناثرة من الدماء على الثلج كما أن إبنه يدعى أيضا فيك ويدرس معي بنفس الصف المدرسي، شعر بأنها سحبت نفسا عميقا ثم قالت لعد لحظات قليلة: هل تعرفه جيدا؟! بما أن الخارجين على القانون لم يفعلوها، من فعلها لإذن، هل قام بلوخ بقتل عدد من الأبرياء قبل أن تتم تصفيته، فجة سحبت ذراعها ثم بدأت بالنحيب والبكاء، إرتعد أنطون بدوره هو الآخر ، أراد أن يواسيها فقط لكنه عاجز عن ذلك ، بأطراف أصابعه وخز شعرها بهدوء كم يبدو كثيفا ومتمردا.

- هل أعرف لماذا تبكين؟

- سحبت يدها ثم جذبته نحو صدرها.

قالت بصوت مبحوح : إنه عمل فظيع ، إن العالم لهو جحيم ،بل الجحيم بعينه ، أنا سيعدة لأن النهاية أصبحت وشيكة، لاأستطيع تحمل المزيد من الآلام. شعر في راحة يدها بهواء ينقصه الأوكسجين، بينما ينبعث من صدرها الناعم شيء مبهم لم يشعر به من قبل، لكنه لايجرؤ في تلك اللحظة على تحريك يديه.

- ماذا تقصدين بأن كل شيء إنتهى؟

واضع يدها فوق يده، بدأ في تلك اللحظة يسمع صوتها جليا وقد صوبت وجهها نحوه قائلة: بطبيعة الحال، الحرب..الحرب مجرد أسابيع قليلة وينقضي كل شيء، إن الأميركان يتأهبون عند نهر الراين والروس عند الأودر .

- كيف تعرفين مثل تلك الأخبار؟!

على أي حال لم تخسر شيئا عندما قالت له عن آخر أنباء الحرب ، ربما لم يسمع بمثل تلك الأخبار قبل تلك الحادثة الأليمة، وإعتاد على سماع الأشياء التي ستحدث في المستقبل، ثم إنقلبت الأمور راسا على عقب وحدث العكس، لم تتفوه بشيء، كم هي ضيقة فتة البابالتي يتسلل منها الضوء للداخل، أخذ يتأمل ملامحها بتمعن، كم هو الفارق ضئيل بين محيط منطقة الرأس والنصف السفلي من جسمها، ثم إقترب منها قائر: هل أستطيع تلمس وجهك .. كيف يبدو؟

مدت أطراف أصابعها الباردة برفق تتحسس جبهته، وجنتيه ، رموشه، أنف وشفاهه، داهمه بلاوعي شعور جارف مبهم ربما يحدث في إفريقيا أو في البلدان النائية ، فجأة جذبت يدها مجددا ثم تأوهت.

- ماالخطب؟سألها خائفا.

- لاشيء ، إنسى الموضوع، جلست وهي منكفأة على وجهها.

- هل تشعرين بألم ما؟

- لاشيء...في الحقيقة لاشيء، جلست في حالة تأهب وإستعداد.

- ثم قالت: ذات مرة، تحديدا قبل أسابيع قليلة تعرضت لموقف غامض سوداوي.

-هل تسكنين في جادة هيميستيدة؟

- الأفضل أن لاتسألني، أو تعرف شيئا عني ، سوف تفهم كل شيء في ما بعد.

حسنا يجب أن تسمعني الآن ، أليس مثيرا ما سأقوله، قبل أسابيع قليلة في ليلة غاب فيها القمر ، كانت السماء صافية والجو غائم، ولم تهطل الثلوج، كنت أقضي تلك الليلة بمعية صديق بمكان ليس بعيد عن محل سكناي، في منتصف الليل قررت المغادرة باكرا، كان الظلام يعم الأجواء ولم يلمحني أحد، كنت أعرف الحي جيدا، ولم تخني ذاكرتي أبدا، فجأة كنت ضائعة شعرت بوجود نباتات ورقية خضراء خلف الباب ومصباح إضاءة خارجي حيث المنفذ الذي يؤدي لجراج السيارات، ثم أجتزت بعض الممرات ، بعد ذلك لم أشعر بشيء أبدا ، إستندت على حجر رصيف الشارع لكني كنت أعلم بأنه قريب من القناة المائية التي تمر بالمدينة، كنت خائفة أو ربما في اللحظة القادمة سأقع في حفرة، بكلتا يداي وقدماي زحفت جاهدة وأنا أرتعب خوفا ، ولم يكن بحوزتي أعواد ثقاب أو بطارية يدوية، في نهاية المطاف ظللت جالسة أنتظر حتى مطلع الفجر ، هل تتخيل ، أية شعور يداهم المرء في مثل هذا الموقف إذا كان الإنسان في هذا العالم ؟!!

 

-  هل بكيت؟ سألها أنطون ...وهو منقطع الأنفاس كما لو أنه يرى جيدا في تلك الظلمة الشديدة، ماالذي لم تريه أيضا في الظلام، ليس الآن بالله عليك، قالت وهي تضحك، كنت يومها خائفة جدا، حسنا ربما كان سكون الظلمة هو الذي أخافني في ذلك الحين، كنت على يقين بأن الحي مأهول بالسكان، ولكن في تلك اللحظات إختفى كل شيء، تجسد العالم برمته أمامي وبين  ثنايا جلدي، ليس للحرب علاقة بالخوف الذي كنت أشعر به وداهمتني أيضا قشعريرة.

- وماذا حدث أيضا ، أخبريني؟

- ماذا برأيك قد حدث؟ كنت أجلس في جادة الشارع الذي يؤدي لمنزلي، هل تتخيل بعد خمس خطوات كنت داخل المنزل، لقد حدث معي نفس الشيء تماما، لقد نسيت تماما ما إكتشفته في الصيف الماضي عندما كنت بضيافة خالي الذي يقيم في أمستردام وكانت يومها خطوط القطار تعمل جيدا، في ذلك الحين كنت أعتقد بأنه حلم مزعج عندما إستيقظت من فراشي توجهت إلى الحمام ، كان الظلام حالكا بل شديد السواد، كنت أمشي إلى جهة اليسار دائما، فجأة شعرت بوحود حاجز، بينما كان الجدار قائما إلى جهة اليمين، فجأة إختفى شعرت بخوف شديد، كما أن ذلك الحائط كان أكثر صلابة وسماكة من الحائط العادي ، تخيلت حينذاك عدم وجود حائط إنما منحدر شديد أو هاوية.

- وهل بكيت في ذلك الحين؟

- أوه..بكيت.

- وعندئذ أشعل خالي أو خالتي الضوء، لاأتذكر تحديدا، وكأن شيئا لم يكن.

- أجل أتذكر بأنه كان خالي، كنت واقفا عندها في السرير.

سمعت خطوات أقدام فوق السلالم، طوقته بذراعيها ثم وجدته مر أخرى صامتا بلاحراك، كانت تسمع أصواتا عند الممر أيضا صلصلة مفاتيح، على الرغم من وجود أي صخب أو ضجيج، عندذلك إنطلقت عبارات السب والشتيمة في المكان ، بعد مرور برهة زمنية خمدت الأصوات في الخارج ربما كان أحدهم يسحب شيئا في الممر بينما ظل الآخر في الزنزانة يلعن الساعة التي ولد فيها ، ثم تلى ذلك صوت باب فولاذي يقفل بشد بالمفتاح، ربما لايزال الرجل بالممر يتعرض للضرب أو حوصر، أو يزمجر غضبا ، بينما أصوات أحذية تصعد السلالم أو تصطدم بأشياء أخرى، بعدذلك سمعت صرخة مدوية لإنسان مجهول ، تلاها سكون مميت، ربما ضرب الرجل حتى الموت، أو سحب من الخارج وآخر يضحك ثم لم يسمع شيئا بعد ذلك.

- جلس أنطون وهو يرتعش.

- لاأعلم، لاأعلم... منذة قترة وجيزة وأنا أقبع الآن في تلك الزنزانة الضيقة ذلك هو منتهى الوحشية والبربرية، تنتهي حياة هؤلاء بالمقصلة شنقا، أسرع مما يتصورون صدقني بأن الروس والأميركان بالطريق ، دعنا نفكر بشكل عقلاني ، قالت له.

- إتجه أنطون نحوها ثم بسط يديه حول شعرها، ربما لفترة طويلة.

- ماذا تقصدين؟

- إذن ربما يتم إحتجازنا لفترة طويلة معا.

- ربما يطلقون سراحك غدا؟

- وأنت؟

- لن يطلق سراحي ،قالت بنغمة واحدة ، كما لو أن هناك إحتمال واحد، بأنهم سيطلقون سراحه ولكن لاتخف سوف تسير الأمور على أكمل وجه.

- عن ماذا كنا نتحدث؟ هل تشعر بتعب ما؟ هل ننتقل الآن للحديث عن الضوء؟

- حسنا..حسنا، قال أنطون.

- إفترض بأن هناك المزيد من الضوء ، الشمس، الصيف، ماذا أيضا الشاطئ.

- أجل، عندما كانت لاتوجد مخابئ أو طرقا مسدودة، التلال...هل نسيتها عندما تشرق الشمس من الغور بين تلين رمليين.

- هل تعرف أيضا ، كم هو رائع ومبهر ذلك الضوء؟

- حسنا روافد الأنهار تبدو تماما مثل روافد الأنهار، عندما تنعكس عليها أشعة الشمس.

فجأة واصلت حديثها بدون إنقطاع، كما لو أن هناك شخصا ثالثا يشاركهما الزنزانة.

- الضوء ، أجل لكن بمعنى أصح ليس فقط الضوء، أعني في الماضي كنت أتمى كتابة الشعر، كي أقارن الضوء بالعشق، لا العشق بالضوء، أجل بطبيعة الحال ، يمكنك مقارنة العشق بالضوء، ربما سيكون أجمل في تلك الحالة، لأن الضوء أكبر من العشق، يقول المسيحيين بأنه يجلب الحظ.

- هل أنت مسيحي.

- حسب علمي لست مسيحيا.

من خلال تلك الأبيات كنت أريد مقارنة الشعر بنوع من الضوء، أعني بعد غروب الشمس أحيانا ترى الأشجار تتمايل من قوة الضوء السحرية، هذا هو الضوء الحقيقي، أعني عندما تجلس مع شخص بينما تعشق آخر، الكراهية تعبر عن الظلام، وهذا أمر غير مستحسن، على الرغم من ذلك نحن نكره الفاشست وكل مايتعلق بالفاشية أو النظم السياسية التي تكون فيها السلطة مطلقة وفي يد الحاكم فقط كما هتلر الذي لايرفض المعارضة بل يقضي عليها ، كيف تصفين ذلك الشعور؟

- أجل بالتأكيد، ماتقوله صحيح تماما ، إنهم يكرهون الضوء ، بينما نكره نحن بدورنا الظلام والكراهية، لذلك كراهيتنا أفضل من كراهيتهم، ولذلك نحن أعقد منهم ، حول مانحب أو نكره، بالنسبة لهم كل الأشياء سهلة لكن بالنسبة لنا معقدة، من أجل إحداث التغيير المطلوب يجب علينا أولا مقاومتهم ، ليس من أجلنا ، هم لايعانون من أي مشكلة ويستطيعون تدميرنا بسهولة تامة، يجب أن ندمر أنفسنا قليلا قبل أن نبدأ بتدميرهم، أما بالنسبة إليهم يستطيعون البقاء في أمكنتهم صامدين، لذلك هم أقوياء جدا، ولكن لأنه لايوجد ضوء حيث يمكثون، في النهاية هم الخسرانين، الشيء الوحيد الذي يجب أن ننتبه إليه ، بأننا لانستطيع أن نحدث تغييرا كبيرا بهم أو أن نمنعهم من تدمير أنفسنا، وإلا في تلك الحالة سيكونون بشرا عاديين.

- أخذ ينتحب هذا المرة، لكن في حقيقة الأمر لايعرف ماسيقوله، ثم واصل البكاء، لم يفهم كلمة مما قالته تلك المرأة الغريبة لكنه واثق من أنها تخاطبه كما لو كان شخصا بالغ الرشد.

هناك المزيد من ذلك الضوء ، إذا كان شخصا يعشق شخصا آخر، فهو يعتقد دائما وأبدا بأن معشوقته تتمتع بجمال آخاذ من الداخل والخارج ، أو من كل النواحي الآخرين لايراه المحب وغالبا لايصح إلا الصحيح، ولكن الشخص الذي يكون

جميلا دائما هو الشخص الذي تعشقه لأنه لطيف ولذلك يشع مثل الضوء ، هناك رجل واحد يحبني ويجد بأنني جميلة جدا رغم بأنني لست كذلك ، إنه شخص جميل إذا كان يتمتع بصفات قبيحة جدا، وأنا جميلة ولكن فقط لأنني أحبه من أعماقي وهو يعلم ذلك، لايفكر بشيء سوى أنني أحبه، أنت الشخص الوحيد الذي يعرف طبيعة شعوري ولاتعرف من أكون ومن هو ذلك الشخص ، لديه زوجة وطفلان بنفس عمرك يحبهم مثلما كان أباك وأمك يحبانك.

- فجأة سكت ولم يتفوه ببنت كلمة.

- أين يكون ياترى أبي وأمي في مقل تلك الساعة، سألها أنطون بصوت خافت.

- ربما كانا معتقلان في مكان ما، غدا ربما سيعرف الحقيقة، فكر برهة من الزمن.

- لكن لماذا يقبعان في مكان غير الذي أفكر فيه؟

- أجل، لماذا؟ لأنه أمر يتعلق بالأوغاد ولأنه يأس كبير مانشعر به الآن، إنهم يحكموننا تدريجيا ، بعد برهة قضى حاجته في بنطلونه، لاتهتم بالأمر، أنا أيضا غير مرتاحة لأمر شقيقك، عندما فارق المنزل أخذ معه مسدس "فيك بلوخ" قال أنطون ذلك آملا بأن لايكون قد أصابه أي مكروه.

- بعد مرور ثواني قليلة ثالت:

- عيسى المسيح....

- فهم من نبرات صوتها  بأن شيئا مهلكا قد حدث لهم.

ياترى ماذا يكون قد حصل مع بيتر؟ فجأ شعر بأنه غير قادر على مواصلة الحديث ، وقف ساهما بعد برهة إتجه نحوها ثم شعر بنعاس عميق .

 

 

 

 (4)

 

بعد مرور ساعة تقريبا ، تحديدا ربما نصف ساعة إستيقظ على أصوات الصراخ، ربما ستجعل أوربا مستيقظة على مدى سنوات طويلة، عندما حجبت المصابيح الرؤية عنه مجددا ولم يعد يرى رفيقته البريطانية بوضوح، سرعان ماجذبته من ذراعه، بسرعة إنتشر الجنود الألمان وأيضا رجال الشرطة في ممر السجن، فجأة ظهر رجل ينتمي لوحدة "إس.إس.إير" يخفي رأسه العملاق داخل قبعة، بينما يتدلى من ياقة قميصه صف من النجوم والنياشين الفضية، صفع الباب بشدة حتى كاد أن يخلعه، كان رجلا ذكيا يقترب من الخامسة والثلاثين من عمره، يتسم بوجه نبيل مثل الذي يطالعه أنطون في كتب الأطفال الفتيان.

 

- قمت بإعتقال فتى صغير، صرخ بدوره في وجه الشرطي، عندما صعد السلم كان بالضبط بفنس مستوى الإرهابيين، أو ربما فقد الجميع عقولهم، بعد ذلك أخذ يسب ويشتم، لحسن الحظ لم تسمع المرأة الشيوعية ماقاله، لأنها رافقته فيما بعد إلى أمستردام لمكتبه الذي يقع في شارع "أوتربي" ، يجب أن يشعر الرجال بالإبتهاج لأنه لم يتم التحرير بعد، لدينا هنا كم من الموظفين ربما لن يكتب لهم العيش لاحقا ، يالها من سفالة ونذالة؟

- من قام بترتيب كل هذا !

- من فعل كل هذا؟ أجابه أحدهم، رجل  من خدمة التحقيقات..هكذا إذن، وأنت أيها الفتى ! أراد هذا الرجل أن يقوم بمناورة صغيرة في جادة هيمستيدة، كي يستطيع لعب دور صديق المعارضة بعد نهاية الحرب، ربما سيثير هذا الأمر إهتمام الجستابو، يجب أن يشعر هذا الفتى الصغير بالسعادة، لأنه لازال على قيد الحياة بعد، من أين كل تلك الدماء على وجهك؟ قال الضابط.

وقف أنطون مجددا في غرفة الإنتظار، أمام سيل من التحقيقات، عندذلك رأى إصبع سبابة بقفاز موجها نحوه، ثم بقع دماء سائلة على وجهه، في تلك اللحظة العسيرة كأن وجنتيها تلامسانه،  صوب احد رجال الشرطة مرآة حلاقة صغيرة نحوه، كانت مثبتة بجسر فولاذي على الحائط، وقف صامدا بقدميه ثم رأى عبر الزجاج المتضخم آثار دماء جافة من أصابعها حول وجهه الأبيض وشعره.

- ليست لي، قال أنطون.

- إذن تلك الدماء تعود لها، صاح الضابط ، هكذا إذن هي جريحة ،تم إستدعاء طبيب في الحال، شعر بالحاجة إليها في تللك اللحظات، حسب علمي سيرافقني لمركز القيادة، سوف يتم تسليمه في الصباح لأقاربه، ثم عض فمه، بسرعة، بسرعة، قال أنطون في نفسه: يالهم من مجموعة مارقين أوغاد، لاغرابة بأنهم في لحظة ما تخلصوا منه..المفتش بلوخ عندما ذهب للتريض قليلا بدراجته في الظلمة ، هذا المعتوه الخائن.

رافقه الجندي الألماني للخارج مغطيا جسده ببطانية نقشت عليها مجموعة من الخيول إلى الخارج، لم يرى سوى ثرياتت الكريستال تتدلى من أعلى السقف، قبل أن يغادر لمحطة إنتظار أخرى، أمام الباب وقفف سيارة مرسيدس تعود لأحد الضباط الكبار، بطبيعة الحال مبطنة بغطاء مصنوع من قماش الكتان ومزودة بكومبروسور كبير يقع بالقرب من غطاء الموتور، كان الجندي الألماني يضع خلف ظهره قربينة وهي بندقية ذات ماسورة قصيرة، بينما يتدلى معطفه الأخضر القاتم المعقود الأزرار حتى يصل لقدميه الكبيرتان المفلطحتان المتباعدتان ، اللتان تبدوان مثل دب بري، جلس أنطون خلف الجندي بينما أمسك به بإحكام، ثم ثنى البطانيات حول ذراعيه العملاقتين ضاغطا النصف العلوي من جسده ، بينما إحتفظ بمسدس يستخدمه عند الضرورة، بعدذلك إنطلق بدراجته البخارية وهو يتأرجح في الشوارع الضائعة في طريقه إلى مدينة هارلم ، إستغرقت تلك الرحلة عشرة دقائق بالضبط، كان يسمع فيها صوت إحتكاك الثلج بالعجلات، ويبدوبأن الموتور كان يطقطق هو الآخر، رغم السكون الذي كان يلف الأمكنة، للمرة الأولى في حياته يجلس على دراجة بخارية على الرغم من البرد القارس إلا أنه يشعر بالنعاس، كأن النهار والليل قد إجتمعا سوية، إلا أن الظلام لايمكن مقاومته..ظلام متاخم، أشبه بحزمة من شعر قصير داكن، ظهر أمام عينيه ، إنتصف بين المعطف ومعدن القبعة فكر بواقعة حدثت له قبل عام، في بركة الساحة، في ساعة محددة، كان من المفترض أن يتم إخلاء المكان لسلطة الفوهرر. لكنه تلكأ في مكانه حتى ساعة متأخرةسمع أصوات الجنود وهم يقبلون من الخارج، بعنادهم وضربات أحذيتهم الطويلة يرددون هاي-لي-هي-بو هيلا، ، يزمجرون وسرعان ما إنتشر الجنود في المكان الهادئ نحو الداخل، يرتطمون ببعضهم ضاحكين، لم يسمع أصوات أبواب تغلق غند الزوايا،بعد مرور دقائق قليلة تجردوا من ملابسهم في الفضاء المشتركون ، ثرثراتهم وضعوا أقدامهم العارية بإتجاه حمام السباحة، عندئذ أصبح المكان ساكنا ، لم يخف وغامر بالظهور، عند نهاية الممر بين الزوايا، خلف الباب الزجاجي فجأة رآهم، بوضع مبهم، أناس متجولين، ناس عاديين ، عراة كلهم، أجساد بيضاء بوحوه سمراء ،رقاب وأذرع حتى منتصف الكوع أصبحت سمراء تصنع محاولة الهروب في غرفة تبديل الملابس التي يستخدمها الفقراء فقط، رأى بدلات رسمية متروكة ومعلقة مع طاقيات عسكرية، أزواج من الأحذية الطويلة، التهديد هناك ، الهواء العنيف، بحركة قليلة داهمتهم خمرة نوم متواصلة مثل فاقد الوزن محلقا في الهواء، سرعان ماتركوا بدلاتهم الرسمية في نفس البقعة ثم ذهبوا إلى كومة من الأغضان الشجرية المحترقة، ألسنة النيران، أسفل مدخل خشبي لبيت ريفي أبيض، لكن لحسن الحظ كان كل شيء أسفل المياه، في قناة، أو في حمام سباحة تعكس أجسادهم البيضاء، أخمدوا النيان وهم يهمسون، إستيقظ فزعا، كانوا يقفون بين الأخشاب، عند ممر جدار دبابة، دفنت حول مقر القيادة، كان مزدحما بالجنود الداخلين والخارجين، من الممر إلى داخل الغرف بأصوات أجهزة التلفون وهي تجلجل وآلات الطباعة التي تخشخش، كان عليه الإنتظار في غرفة جانبية صغيرة جالسا على أريكة خشبية . عبر الباب المفتوح نظر أنطون بإتجاه الزاوية المؤدية للممر، فجأة رأى جاره "كورتفخ" برفقة جندي لايرتدي قبعة مثل الجنود الآخرين، جاء من أحد الغرف واضعا حزمة من الأوراق أسفل ذراعه، عندما إجتاز الممر فتح باب أحد الغرف ثم إختفى، كان يعلم مايدور حوله ثم جال بفكره بعيدا، ربما يرى أبويه فجأة تثاب ثم أسند رأسه لى الأريكة جانبا وسرعان ماسقط في نوم عميق.

 

عندما إستيقظ نظر لعيني رجل مسن يدعى "فيلدفيبل" يرتدي ملابسا فضفاضة غير متناسق الألوان بحذاءين عريضين تقريبا، يبلغ طولهما ثلاثة أرباع تقريبا، مما جعل مشيته تبدو معوجة بعض الشيء ، كان مستلقيا في الغرفة المجاورة على أريكة حمراء، متلحفا ببطانيات من الصوف كان النهار قد إنبلج ، إبتسم أنطون إبتسامة عريضة ثم أدرك بأن منزله محي من الوجود، ولم يعد له أثر، إقترب منه ثم تراجع للوراء بعد ذلك سحب فيلدفيبل كرسيا كان موجودا بالقرب منه،وضع عليه كوبا معدنيا به حليب دافئ فوقه صحن نقشت عليه ثلاثة قطع هندسية كبيرة مع شريحة من الخبز الأسمر دهنت بشيء لونه مطفأ أشبه بلون الزجاج، بعد سنوات لاحقة، وأثناء زيارته لألمانيا في طريقه إلى منزله الذي يقع في توسكانيا الإيطالية، سيكتشف هذا الرجل الكهل بأن ذلك المزيج الغريب ماهو إلا دهن الأوز أو بالألمانية "سخاملز" لم يتذوق مثله من قبل في حياته، وليس بأفضل من عشاء باهظ الثمن في أفخر المطاعم العالمية على سبيل المثال مطعم بوكس الذي يقع في مدينة ليون ومطعم لاسيريه في باريس الذي دخله في رحلة العودة على الأقل أو مثل وجبة تناولها في مطعم لافتي-روتشايلد الفاخر أو مطعم شامبرتين، حيث تقدم تلك المطاعم فقط مثل ذلك النوع من الحليب الدافئ سرا، لم يعاني من لسعة الجوع سوف يستمتع بتناول الطعام وهو جالسا في مطعم فاخر ولكن ماهي نوعية الوجبات التي تقدم في تلك المطاعم هو الآخر لايدري.

- كم هو لذيذ ، رائع..قال السيد فيلدفيبل.

بعد أن إحتسى الكوب الثاني من الحليب مستمتعا بتناول طعام الإفطار، كان أنطون في تلك اللحظات يغسل يديه من نافورة صغيرة موجودة بالحمام، في المرآة رأى آثار دماء متناثرةعلى وجهه وقد تحولت إلى لون يشبه لون الصدأ، داهمته الحيرة للوهلة الأولى ثم حاول محوها تدريجيا، بعد ذلك لم يشعر إلا ويد تمتد حول ذراعيه تصحبه إلى غرفة القيادة ، فوق درجات السلم شعر بخوف شديد ولكن فيلدفيبل نصحه بالجلوس على مقعد بمسند للظهر ، حالما وصل إلى المكتب في مركز القيادة كان الحاكم العسكري لمدينة هارلم منشغلا بإجراء بعض المكالمات الهاتفية بينما ينظر بين الحين والآخر قبالة أنطون، من غير أن يتمعن فيه أو يثير إنتباهه، بنظرة حانية أومأ برأسه نحو رجل أبيض ضخم الجثة لكنه قصير ، مرتديا زيا رسميا ذو لون رصاصي تابعا لرجال الفوهرر، مع وجود حزام جلدي لتعليق المسدس تركه مع القبعة على ورق مخصص للكتابة، أيضا لمح قائمة من الصور حيث لمح أنطون الجزء الخلفي منها، وقد طبعت عليها نجمات بثلاث زوايا، بينما علقت من الخلف لوحة هيتلر نظر نحو الخارج عبر النافذة إلى حيث الأشجار الجرداء التي تراكمت فوقها طبقات من الثلوج حتى بدت صامتة بليدة الحس لاحراك فيها.

 

وضع القائد العسكري سماعة التلفون جانبا ثم وقع بعض الأوراق ، بعدذلك أخذ يبحث في الملفات ثم وضع يديه فوق بعضهما يتحدث بلهجة حادة قوية لكنها على أي حال مفهومة.

- نعم ياسيدي، قال أنطون.

كان مرعبا ماحدث ليلة البارحة، ثم هز القائد العسكري رأسه، العالم لايعرف سوى لغة الخسارة، في كل مكان تقع نفس الأحداث ، منزلي في لينز قصف هو الأخر، دمر تماما ومات الأطفال، هز رأسه بينما وقف أنطون ينظر.

- هل تريد قول شيء ، قال الحاكم العسكري، هيا قل ولاتخف.

- تود معرفة فيا إذا كان أبويك معتقلان؟ ربما نقلا ليلة البارحة إلى مكان آخر  تجنب عدم سؤاله عن شقيقه بيتر وإلا سوف يتعقبون أثره.

- ثم عاود الحاكم العسكري تصفح الأوراق التي كانت بين يديه.

- أستميحك عذرا، كان يعمل البارحة موظف آخر في الخدمة، لاأستطيع الآن فعل شيء، الجميع مشغول بالحرب ، أعتقد بأنهما محتجزان في مكان آخر، يجب عليك الإنتظار، قريبا ستضع الحرب أوزارها، كما لو كانت حلما غاضبا ثم سيتلاشى عاجلا أم آجلا.

- فجأة قال: لا...لا وهو يضحك، ربما يحاول مواساته، ثم وضع ذراعيه حول كتف أنطون، الآن ماذا بمقدوري أن أفعل لك؟ هل تود المكوث هنا! هل تود التطوع بالخدمة العسكرية؟

- ضحك أنطون ولم يدري بماذا يجيبه......

- ماذا تتمنى أن تصبح في المستقبل؟....كان ينظر إلى كارت رصاصي صغير، أنطونن ويليام ستينفايك.

- فهم أنطون مايعني، ذلك الكارت هو شجرة العائلة.

- لاأعلم تحديدا، ربما سوف أصبح طيارا.

- إبتسم القائد العسكري لكنها إبتسامة لم تدم طويلا.

- حسنا..حسنا، قال ذلك ثم أدار قلم الحلم البرتقالي اللون الغليظ محاولا فتحه، يجب أن يناقش معه بعض الأمور الهامة. هل لديك أقارب في هارلم؟

- لا...لا ياسيدي.

- نظر إليه الآمر العسكري.

- هل لديك أقارب؟!

- في أمستردام فقط، خالي وخالتي.

- هل تعتقد بأنهما لازالا يعيشان هناك.

- أجل بالتأكيد.

- ماهو إسم خالك؟

- فان ليمبت.

- والإسم الأول؟

- بيتر.

- والمهنة؟

- طبيب.

إذا كان سيمضي بعض الوقت في منزل خاله، ربما سيشعر إذن ببعض السعادة، كان يفكر دائما بمنزلهما الراقي، في جادة "أبولو" يكن لهما شعورا غامضا يجهل مكنونه، ربما لأنهما يعيشان في مدينة كبيرة تقع بالقرب من هارلم. بينما إنشغل القائد العسكري بتدوين الإسم والعنوان ، قال وهو متأثرا: أبولو ، بخوف إلهي من ذلك الصفاء وتلك البراءة، ثم نظر فجأة إلى ساعته، وضع قلمه جانبا ثم نهض واقفا

وخرج من الغرفة، في الممر نادى على أحد الجنود الذي كان يضرب الأرض بقدميه مستعدا للمغادرة، في واقع الحال يتعلق الأمر بترحيل هذا الفتى الصغير إلى أمستردام، قال ذلك ثم عاود أدراجه، بمقدورك السفر معه الآن.

- سخولز، قال ذلك ... أعتقد بأن هذا الشاحب المدعو "فيلدفيبل" هو الذي سيرافقه إلى أمستردام، ثم دون بعض الملاحظات خاصة بمركز القيادة في أمستردام، يجب أن تحضر بعض الملابس الدافئة لهذا الطفل، ثم إتجه نحو أنطون مصافحا إياه واضعا ذراعه الأخرى حول كتفه، رحلة موفقة ، بسرعة أيها الجنرال الطائر ، إحذر بشدة.

 

- أجل ياسيدي إلى اللقاء.

- على الرحب والسعة أيها الفتى الصغير.

ثم إنكمش وجهه فجأة وبطل لطافة مد إصبع يده الأوسط ثم قرص أنطون في وجهه وغادر الغرفة بعدذلك، أخذ شخولز يفتش له عن ملابس مناسبة في غرفة المؤن الباردة والمكتومة والتي ليس فيها هواء نقي، باٌلإضافة لذلك كان يتحدث بلهجة لم يفهم منها أنطون شيئا، رفوف طويلة مرصوص فوقها معاطف جنود وأحذية طويلة، قمصان جديدة رتبت بعناية تامة، فجأة أقبل وبيده بلوزتين رماديتين ثقيلتين، من المفروض أن يرتديهما أنطون فوق بعضهما ثم ضوع شالا حول عنقه، أقفل أزراره بإحكام، ثم وضع خوذة سوداء اللون على رأسه ، كانت تتدلى حول أذنيه الصغيرتين، ثم حشر شخولز بعض الأوراق خلف الجلد من الداخل، جاذبا  الخيوط السميكة بإحكام كي يستطيع الجلوس بحرية، من مسافة بعيدة نظر إليه ثم حرك رأسه غير راضيا، لليسار خارج رف الملابس تناول جاكيتا طويلة ثم قبض عليه بإحكام، كما أنه فتح أحد الأدراج وتناول مقصا كبيرا، واضعا الجاكيتة على الأرض وبعينين كبيرتين رأى أنطون الجندي منشغلا بعملية الإعداد والقص من الناحية السفلية للجاكيتة ثم تخلص من حاشية كبيرة وأيضا الأكمام، من الوسط قام بعقد خيط من النسيج ، كي لاتنسل خيوط المعطف عند مكان الثنية إذ لم تكن الخياطة محكمة،

في نهاية المطاف حصل على زوج كبير من القفازات مبطنة جيدا، ثم إنفجر شخولز ضاحكا متحدثا بلكنة غير مفهومة على الإطلاق وضاحكا ب'لى صوته.

 

- ماذا لو رآه رفقائه في تلك اللحظة، لكنهم الآن قابعين في بيوتهم متضايقين ولايفهمون شيئا مما يدور حولهم، في مثل تلك الساعة منالوقت، للأعلى غطى شخولز نفسه بمعطف وخوذة، بعذلك أحضر الرسالة التي ينوي تسليمها إلى مقر القيادة في أمستردام ثم وضعها في جيبه الداخلي مغادرا المبنى في الحال.

 

عبر الهواء الضبابي كانت تسقط بعض أوراق الشجر الإبرية الشائكة الرقيقة على الثلج اللامع من الناحية الأخرى عند كراج السيارات حيث يوجد ميدان مخصص لتجمع المدافع الرشاشة الثقيلة، مع وجود دبابة مرابطة جاهزة للإستعمال في حالة الطوارئ، بالإضافة لأربع شاحنات مغطاة بمفرش رمادي عازل مصنوع من البلاستيك ، توجد في المقدمة عربة طويلة مفتوحة بينما جلس القائد العسكري على الأريكة الأمامية قرب السائق غير مرتاح البال، ينظر بعجالة فيما إذا كان الآخرين قد وصلوا أم لا، للخلف جلس أربعة جنود ضخام الجثة،تتوسطهم مدافع رشاشة، بينما جلس أنطون في كابينة الشاحنة الأولى متوسطا شخولز وجندي عابس الوجه، في اللحظات الأولى لم يحدث أي مكروه لاتحمد عقباه، لازال أنطون يافعا كي يفكر بمثل تلك الأمور، أو أخرى مشابهة حدثت قريبا، أو يتجشم عناء الأحداث التي ستحدث قريبا، مثلما كان يتألم في الماضي الغابر غالبا حول أمور لم يكن بمقدوره منع حدوثها.

 

بإتجاه محيط المدينة إنطلقت الشاحنات الأربعة متوجهة إلى هارلم بموازاة شارعين مخصصين لسير المركبان في طريقها إلىأمستردام، أشبه برحلة وسط الطبيعة ، في ذلك الحين لم تكن هناك مواصلات ربما بسبب ظروف الحرب، لليسار كانت خطوط القطار والترام تتدلى للأعلى، بينما تتبعثر هنا وهناك خطوط السكك الحديدية بطريقة مزخرفة في الأرض مثل قرون الإستشعار، لقوقعة بحرية، كما أن أعمدة الإنارة كانت تبدو مقلوبة رأسا على عقب، إنتشر الصقيع في جميع الزوايا مما ساعد على إغلاق جميع الطرق الخارجية، كانوا يقودون الشاحنات ببطء شديد، ويبدو بأنها قطعت نصف الطريق بموازاة مصنع السكر الذي كان مغلقا في ئذلك الحين، ثم وصلت النقطة الأخيرة، يبدو بأنه بقي عشرين كيلومترا ويصلون أمستردام،

في الأفق رأى العاصمة وهي تحيط بها متاريس رملية، لم يرى هنا أي طريق حلزوني كما أخبره أباه في الأيام الغابرة، عندئذ توقفت الشاحنات بموازاة أعواد الخث وهي نباتات متفحمة كانت ظاهرة في الثلج بدت أشبه بممر طويل من الغابات جردت من الأشجار، فجأة توقفت الشاحنة الأولى في طريق مزروع بالأشجار، ثم أخذ الجنود يتقافزون فزعا، وهم يصرخون نحو الخارج في نفس اللحظة رأ أنطون طائرة حجمها ليس بأكبر من حجم حشرة طائرة تتهاوى من مسافة بعيدة جدا ثم تضل طريقها وتتهاوى على الأريض، داس السائق بقدميه على الفرامل بينما قال مزمجرا:

 

- روس..روس.

بدون أن يغلق موتور الشاحنة، قفز هو للخارج ولحقه شخولز قافزا من الإتجاه الآخر، كانت أصوات الصراخ تسمع في جميع الإتجاهات، رجال جلسوا القرفصاء خلف السيارة ومدافعهم الرشاشة معلقة حول صدورهم، على أهبة الإستعداد للإنطلاق في أي لحظة، إبتعد أحدهم جانبا وهو يصرخ بإتجاه شخص ملتحي تعرف علي من زوايا عينيه ، شخولز بلحمه وشحمه ، لكن لم ينكن أنطون من صد عينيه عن رؤية مثل تلك الأشياء المرعبة، لازال يتذكره جيدا ، رأى حفرة كبيرة على شكل دائرة، فجأة عندما إلتف لليمين توسعت الحفرة بسرعة، كانت تبدو على شكل بعوضة إحترقت أجنحتها، مثل النار، مفتونا بالمشهد الدرامي نظر بإتجاه اللحفرة فرأى كتلة متفحمة، كان يعلم بأنه شخولز يقف الآن بعيدا عنه، عاجزا عن فعل شيء، أسفل الأجنحة لمح وميضا من النيران تطقطق، جملة أحداث ليست ذات قيمة كبيرة ولاتستحق كل تلك المشقة والتفكير، إنهارت بقايا الطائرة المحترقة على الأرض، وتناثرت أشلاءها في جميع النواحي، ثم أخذت تدمدم، تنفجر وتخشخش، شعر بأنه يصفق بيديه من تأثير ذلك السقوط المدوي، ربما يظن بأن الطائرة وقعت على الأرض مثل تابلوه طبيعي، بينما الموتور لازال يزمجر ويطلق أصواتا مثل صفارة الإنذار أشبه برقصة الفالس، بينما كان جالسا أسفل مقود السيارة، متقرفصا ينظر للمشهد الدرامي نحو الخارج، رأى مئات الجنود على إمتداد الجانب المزروع للطريق السريع السريع وهم يتدفقون بلا إنقطاع من جميع الزوايا، كانت ألسنة الدخان تتصاعد للأعلى بإتجاه الشاحنة الثالثة، يبدو بأنها قد تعرضت لإنفجار قوي وتلاشت جميع ملامحها في السحاب الداكن، كان معظم الجنود يركضون نحو موقع الحادث، وقلبه يخفق بسرعة من شدة الخوف، ذهب أنطون للزاوية الأخرى بإتجاه السيد فيلدفيبل ليلحق بالركب، كانت شظايا الثلج الكبيرة تهب في وجهه تقريبا بحجم إبرة إسطوانة الجراموفون، من الناحية الأخرى  قرب موطئ الصعود والنزول للشاحنة إلتف جنديان بحذر يرفعان جسدا من وسط الركام المحترق إنه شخولز وقد غرق صدره في بركة دماء وأيضا فمه ولسانه كانا ينزفان بشدة، لازال على قيد الحياة لكن عضلات وجهه تقلصت من شدةالألم، لقد عرف أنطون بأن عليه

فعل شيء  للفور، بدا شخولز إنسانا ضعيفا من كثرة الدماء التي تتناثر على جسده، حتى أنه أصيب فجأ بالغثيان ثم سحب الخوئذة من رأسه وجذب الشال من رقبته ثم لمسه وهو يرتجف رفع غطاء الشاحنة للخارج، بينما شعر بأن القئ يندفع من الحاجز المفتوح لحلقه في نفس اللحظة كانت النيران تشتعل في الجهة الخلفية من الشاحنة، لم تعد الأحداث تثير إهتمامه، أعاد الخوذة إلى رأسه مجددا ولم يطلب منه أحد المساعدة كان القائد يوجه أوامره للجميع وهو يصرخ، كان شخولز وبقية الجرحى على قاب قوسين أوأدنى من الموت، ونقلوا للشاحنة الأخرى بينما جلس

 بقية الجنود في الشاحنة الأولى والثانية بعد مرور دقائق قليلة إنطلق طابور الشاحنات في طريقه مجددا بينما ظلت الشاحنة المحترقة في مكانها.

 

عندما إقتربت الشاحنات من أمستردام، صرخ الضابط بلا إنقطاع في وجهه بموازاة السائق، فجأة سأله أنطون عن هيته ، أوه اللعنة نسيت وعن وجهته، ولكن النفس إرتج في صدره، حتى أنه لم يكن قادرا على الإجابة، بينما كان الضابط يشير إلى الطريق ، كان وجه شخولز ماثلا أمام عينيه وهو ملقى في الشاحنة الأخرى، كان يتمنى جلبه إلى الكابينة لقد كان خطأه ، والآن هو في عداد الأموات.

 

توجه السائق إلى أمستردام للأمام وعند أحد الزوايا على إمتداد المتاريس الرملية، طلب الضابط من سائق الشاحنة التوجه للأمام حتى أن أنطون رأى آثار القئ على غطاء المحرك الأمامي بينما طلب منه سائق الشاحنة الثالثة أن يتبعه، بعد برهة من الزمن كانت الشاحنات في طريقها على إمتداد القنوات المائية الواسعة،  شوهد عدد قليل من الناس يتمشون، في نفس اللحظة إجتازت الشاحنات أحد الشوارع، بينما إنشغلت جموع من النساء والأطفال وهم يرتدون ملابسا بالية وقذرة في البحث عن شيء ما وسط أنقاض الصقيع بالقرب من خطوط الترام،عبر الشوارع الساكنة الضيقة مع أطلال المنازل المتهاوية ، وصلت الشاحنات معبر "فيسترخاست هاوس" هناك في الخلف ظهر في المدينة ذات الشوارع والمباني الكثيرة ، مستشفى كبير  ، توقفت الشاحنات قرب مبنى خشبي بإتجاه لوحة كتب عليها" لازاريت" ، بعد مرور لحظات قليلة ظهر طاقم الممرضات يختلفن في المظهر عن جارته السابقة كارين التي كانت هي الأخرى تعمل ممرضة، يرتدين جاكيتات قاتمة، تصل للركبتين، بطاقيات بيضاء صغيرة فوق الرأس، لففن شعورهن للخلف، فيما يشبه الكيس الصغير، مشى الضابط وخلفه الجنود يتبعونه نحو الأرائك الخلفية، بينما حاول أنطون اللحاق بهم لكن السائق أوقفه فجأة، لينطلق بهم نحو المدينة، كان أنطون يرتدي خوذة سوداء مصنوعة من نسيج صوفي مقاوم للماء، ينظر في جميع الإتجاهات، بعد مرور لحظات قليلة إجتازت السيار الزاوية الخلفية من متحف رايكس حينما كان يذهب مع أباه في الماضي القريب لزيارة هذا المكان الغناء بالروائع الفنية، ثم وصلا إلى ميدان واسع ، حيث ظهر من الجزء الوسط سور من السلك المجدول صنع من الشرائح الخشبية المتقاطعة، بينما من الزاوية اليمنى كان يوجد مستودعين كبيرين للوقود للأسفل كتب على الواجهة بأحرف كبيرة "مبنى الحفلات" بينما نقش على إحدى طبقات المبنى لوحة توجيهية كتب عليها" فيهرماختيهم إيركا" لليسار واليمين ظهر صف من الفلل المنعزلة، يبدو بأنها كانت تستخدم من قبل الألمان، توقفت السيارة عند أحد الفلل، بعد ثواني قليلة ظهر أحد الحراس واضعا مسدسا حول ذراعيه، سرعان مالمح أنطون ثم تمتم بعض الكلمات مع السائق فيما إذا كانت تلك هي الدفعة من المجندين هي الأخيرة أم لا، كان الجنود يضحكون بصوت عال داخل القاعة، بدءا من الجندي الشاب االذي يرتدي خوذة ومعطفا كبيرا إلى نهاية الصف حيث ظهر القائد الذي متجها نحو السلم، كان يرتدي حذاءا جلديا طويلا، بينما كانت تتدلى حول عنقه مجموعة من الشرائط الملونة ، الزركشات، الشارات وصليبا معدنيا، يبدو بأنه جنرال عسكري، وقف شامخا مع وجود أربعة ضباط صغار من حوله، رحب بالسائق وأجرى معه حديثا قصيرا، لم يفهم أنطون ماقاله السائق وبلهجة قاسية أجابه قائلا: إن الأمر يدور حول الهجوم الجوي، بينما كان منهمكا بالإستماع للحديث الدائر بينهما،سحب الجنرال سيجارة مصرية غير سميكة من علبة معدنية ثم أغلق الغطاء، حيث رأى أنطون الجندي "ستامبول" واقفا أمامه، ناول الجنرال عودا من الثقاب، بينما إسترخى ورأسه قريبا من رقبته، سحب نفسا عميقا من السيجارة ثم تصاعد الدخان للأعلى، بشكل عمودي متقاطع مشكلا زاوية قائمة، بينما أشار إلى السائق بكلتا يديه بالإنصراف ، كان على أنطون مرافقة الجنرال للطابق العلوي للمبنى.

 

في ذلك الحين كان الضباط يصفرون ويضحكون بينما كان إتجاه ضوء الشمعة خلف ظهر الجنرال الذي كان محدقا بوجهه للأمام، في زاوية ما خمن أنطون درجة حرارة الغرفة بعشرين درجة مئوية، محتجزا داخل غرفة كبيرة شعر أنطون بإمتعاض من إيماءات الجنود من حوله، حاول إغلاق أذنيه عن ذلك اللغو والسفسطات الفارغة التي كانت تصدر من الجنود، كأنه طفل شقي يقول للجنود بأنه يسكن في جيتو يدعى "بياليستوك" ، إبتسم الجنود في وجهه مرة أخرى، بينما كان أنطون ملتزما الصمت، فتح الجنرال الباب ثم أخذ يتكلم بأسلوب جاف داخل الغرفة الجانبية، بينما إتشغل الضباط الآخرين بالمناقشة فيما بينهم، كان أحدهم أنيقا للغاية ويجلس على مقعد قرب النافذة يدخن هو الآخر سيجارة، عندما جلس أقبلت فتاة نحيلة تبدو عليها ملامح الذكاء ، ترتدي تنور سوداء وشعرها أشقر، كان معقودا من الزوايا الجانبية بينما تتدلى بعض خصلات الشعر للخلف، سكبت له كوبا من القهوة مع الحليب وعلى فوهة الكوب وضعت طبقة شوكولاته بالحليب.

- تفضل، قالت له بلكنة هولندية واضحة ربما ستجدها لذيذة الطعم.

- شوكولاته يبدو بأنه في الفردوس، لكن لم تسنح له الفرصة لتناول وجبة من الطعام، لأن الجنرال أراد أن يصغي لقصته أولا، يبدو بأنها المترجمة، يتعلق الجزء الأول من القصة بالهجوم وإشعال النار المتعمد في منزله، ثم سرعان ما إنهار أنطون باكيا، رغم أنه مضى بعض الوقت على الحادثة، لكنها لاتزال ماثلة أمام عينيه، كان يستمع بلاحراك ، الآن يجب أن يتنفس الصعداء وينفس عما بداخله من كل هم وغم وفي كل مرحلة كانت أذناه لاتصدقان ماجرى.

- لا..لا..من غير المعقول ، صاح الجنرال بعد أن سمع حكاية أنطون ، يجب أن يرسل إلى الزنزانة الإنفرادية، التي تقع في مركز الشرطة، حيث لايوجد معه أحد ، إحتفظ أنطون بسره، سيتم نقله لاحقا إلى مركز القيادة.

 

- غير مسموح، قال الجنرال: هكذا إذن لاتوجد منازل للأطفال في هارلم ، كان مركز القيادة كان دائما في الحقيقة يمثل السلطة العليا، يرسلوه داخل قفص عسكري إلى

أمستردام كي يلحق بمنزل خاله، بينما تعج هي بالبيروقراطيين ، هل جن هؤلاء القوم في هارلم، هذا الشبح الصغير الساكن ، ياله من عمل فظيع حقيقة لايفهم مايدور من حوله، رفع ذراعيه للأعلى ثم وضع يديه المنبسطتان على المكتب، إنهار الضابط الذي كان جالسا على مقعد قرب النافذة ضاحكا، حول أجواء السخط والغم التي يعيشها الجنرال في تلك اللحظات،

-  أجل..هكذا إذن، ثم ضحك ، لايعلم فيما إذا شرح له المسؤولين في هارلم طبيعة الموقف أو سلموه بعض الأوراق!!!!

أجل،..أجل ياسيدي، قال أنطون بينما رأى في نف اللحظة السيد فيلدفيبل وهو يضع الرسالة في جيبه،بدون أن يوضح للجنرال طبيعة الموقف ، بعد مرور ساعة تذكر الحادث الأليم والجرح الذي تركه في  أعماقه، وسرعان ما إنهار باكيا، تأثر الجنرال بدوره للموقف الآني وحاول تهدئة أنطون قدر الإمكان، ثم إتصل بمركز القيادة في هارلم فورا، أوه، لاداعي... حاول الإتصال بخاله  بأسرع وقت ممكن كي يؤخذه معه ، وضعت الفتاة إحدى يديها على ذراعيه، ثم أشارت إليه بالخروج من الغرفة، بعد مرور ساعة وصل خاله ، جلس في غرفة الإنتظار وهو ينتحب، كانت زوايا فمه بنيتان بلون الشوكولاته، بينما نقشت على البدلة التي تغطي الركبتين والفخذين والجزء الأدنى من الجذع  إشارة على هيئة معركة جوية، سرعان ما ألقى خاله بنفسه على الأرض ثم إنحنى قبالة أنطون معانقا إياه، وهو صامتا وقف على الفور، ثم قائل: تعال، أنطون يجب أن نرحل من هنا للفور.

- نظر أنطون في عينيه فرأى فيهما صورة أمه.

- هل سمعت بما حدث، خالي بيتر؟!

- أجل.

- لدي معطفا في مكان ما..

- يجب أن نرحل من هنا بسرعة.

خرج أنطون ويده تمسك بيد خاله، خالي الوفاض بدون معطف ولكن لحسن الحظ لازال مرتديا البلوفرين، غادر الغرفة في يوم شتائي بارد، كان ينتحب بشدة، لكنه يجهل بصعوبة مايدور حوله، كما لو أن الدموع قد هيجت الذكريات في نفسه بلا إنقطاع، كانت يده الأخرى باردة ثم سرعان ما وضعها داخل جيبه، يشعر في تلك اللحظة بأنه لن يعود للمنزل الذي عاش فيه، ثم نظر في الأفق إلى حجر النرد.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الواقعة الثانية 1952

 

(1)

 

للحكاية بقية ، ألسنة الرماد ترتفع من خارج البركان على الستراتوسفير وهو الجزء الأعلى من الغلاف الجوي ، ثم تلتف حول الأرض ، لتمطر السماء على مدى سنوات طويلة ، في جميع

القارات تقريبا ، بعد مرور أيام قليلة على التحرير ، تحديدا في شهر مايو لم يسمع أخبارا جديدة حول أبيه وشقيقه بيتر ، ذات يوم ذهب خاله باكرا بدراجته في طريقه إلى مدينة هارلم  كي يحاول الحصول على مزيد من المعلومات ،يبدو بأنه قد تم إعتقالهم ، على الرغم من أنه غير المألوف وجود مثل تلك الدوريات ، وإذا كان قد تم إرسالهم إلى معسكرات الإعتقال في "فوخت" أو "أمسفورت"  ربما سيطلق سراحهم قريبا ، أما الناجين من معسكرات الإعتقال  الألمانية فلم يعودوا بعد .

 

توجه أنطون مع خاله إلى مركز المدينة ، كانت تبدو من الخارج عديمة الحركة ، ساكنة ثم ظهرت بقعة حمراء إصطدمت بعينه ، رأى الأعلام ترفرف  من مقابض الأبواب ، تصدح الموسيقى في كل مكان ، كما أقيمت حلقات  الرقص الجماعية أشبه بكرنفال تاريخي تعيشه المدينة ، مع أصوات الدبكات التي تسمع في الشوارع ، حيث العشب والنباتات الشائكة المختلفة الأنواع ، يمتاز البعض منها بوجود زهور حمراء  ، بدأت بالنمو تدريجيا بين الأحجار ، شعب حي لكنه شاحب ، ضامر العضلات من الجوع ، ذو ضحكات حالمة مع وجود بعض الجنود الكنديين ضخام الجثة ، يرتدون بيرية  رقيقة بدلا من الطاقيات الخشبية الي كان يرتيديها الجنود الألمان إبان الحرب ، ببدلاتهم الرسمية ، ليست رمادية ، سوداء أو خضراء ، لكنها تميل إلى

اللون البيجي أو البني الفاتح ، ليست من الفولاذ لكنها ملابس فضفاضة وبسيطة مثل التي يرتديها الناس في أوقات الفراغ مع وجود فارق ضئيل  بين الجنود ومسؤوليهم، أما عربات الدروع وسيارات الجيب ، فتبدو كأنها أشياء مقدسة ، من يتحدث الإنجليزية بطلاقة ، سيحصل على مركز هام في تلك البقعة البديعة من الأرض التي كادت ذات يوم أن تختفي من الوجود ،

علاوة على ذلك سيحصل على سيجارة ، بينما جلس الشباب من نفس عمره ، فرحين  بزهوة الإنتصار قرب المصابيح المقامة في الشارع ، حيث النجوم اللامعة تنتشر في عرض السماء

على شكل حلقات ،لكنه لم يفعل نفس الشيئ ، ليس لأنه لازال قلقا على مصير أبويه وشقيقه

بيتر ، لكن لأن مايدور في الساحة هذه الأيام لاينتمي إليه بأي شكل من الأشكال ، العالم الذي

ينتمي إليه عالم خاص ، حيث يأتي الحظ في نهاية المطاف ، حيث لايفكر بما يدور حوله ، ماعدا الأشياء التي تتعلق بحياته ، كي تتبقى لديه مساحة ضئيلة للتفكير .

 

وصل إلى المنزل قبل وقت تناول الطعام ثم توجه إلى غرفته ، التي رتبت بعناية تامة إستعدادا لوصوله ، حرم خاله وخالته من نعمة الذرية ، كانا يعاملانه معاملة حسنة ويغدقان عليه حنانا وفيرا، كي يشعر في منزله تماما ، مثلما هو إبنهما الحقيقي ، بينما تميز هو بعدم وجود صفات

إستثنائية ، أحيانا يتخيل كم كان طعم الحياة سيتغير فيما إذا عاد للعيش مجددا في منزل والديه الذي يقع في مدينة هارلم ، ويبتسم له الحظ من جديد، الموقف الآني يجعله مشوشا ومرتبك

الذهن ، يحاول ترتيب أوراقه من جديد ، يشعر كم هو ممتع العيش في منزل طبيب يقع في

جادة "أبولو" لكنه يشعر في نفس الوقت بأنه ليس الإبن الحقيقي لخاله وخالته .

 

كان خاله يحرص دوما على طرق باب غرفته قبل الدخول إليها ، وعندما يراه أنطون يفهم بالإشارة أية رسالة ينقلها ، يضع حول كعبه الأيمن مشبكا معدنيا ، كي يحمي رجل البنطلون

أثناء قيادته للدراجة بالتالي يتفادى السقوط ، جلس على كرسي المكتب وإستعد لسماع الإخبار

المحزنة التي سيبلغها لأنطون ، لم يكن والديه موجودان في معسكرات الإعتقال، لقد تم إعدامهم في نفس الليلة رميا بالرصاص ، مع تسعة وعشرين شخصا آخرين ، لكن ياترى ماذا حدث

لشقيقه بيتر ؟! لاأحد يعلم بالضبط مصيره ، ربما يتبقى بصيص أمل ، لقد ذهب خاله مؤخرا إلى مركز الشرطة لكنه لم يحصل على أخبار تتعلق بمصيرهم إلا من بعض الناجين من معسكرات الإعتقال ، ثم ذهب لاحقا إلى الرصيف حيث يسكن بعض الجيران أمثال السيد "آرتيس" في جادة

"روستنبيرخ"  ولم يكن أحد موجودا في المنزل ، بينما كان السيد "كورتفخ" موجودا في منزله ، لسوء الحظ لم يستقبله ، صدفة رأى السيد "بومر" لم يناقش معه تفاصيل كثيرة تتعلق بالقضية ،

أيضا لم يسأله هو الآخر عن مصير أنطون ، كان جالسا في فراشه وظهره متكأ على الحائط بإتجاه الزاوية اليسرى ، ثم نظر إلى صورة معلقة على الحائط تظهر مركبا شراعيا محترقا ،

لديه شعور قوي بأنه كان يعلم مسبقا ماحدث لأبويه ، فقد أخبره خاله بأن الزوجين بومر كانا سعيدان بسماعهما أنه لازال على قيد الحياة ، جذب السيد "فان ليمبت" المشبك المعدني من كعبه ثم إحتفظ فيه بيده ، كان يشبه حدوة الفرس الحديدية ، بطبيعة الحال يتحدث بصورة عفوية ، مطمئنا  أنطون بأنه يستطيع العيش بكل حرية في منزله .

 

لقد تم تصفية شقيقه بيتر في نفس الليلة الملعونة لكنه لم يسمع عن خبر مقتله إلا في شهر يونيو من نفس العام ، كان ذلك الخبر قديما ، في نفس الحين لايمكن وصفه ، تعتبر الفترة الفاصلة من شهر يناير حتى شهر يونيو من عام 1945 صفحة لاتطوى لولايمكن نسيانها ، أما بالنسبة لأنطون تعتبر أطول من الفترة بين يونيو 1945 واليوم الحالي ، من بين كل تلك التحولات حتى بدء العام الدراسي ، ربما يعجز الأطفال عن فهم مثل تلك الحروب التي ولت بلارجعة ، لم يخطر في باله بأنه سيتم نقلهم إلى منطقة أخرى ، لكن في اللحظة الحاسمة يسيل الدمع من مقلتيه ، عندما ينظر إلى النافذة أو من خلف نافذة الترام ، يرى مكانا مظلما حيث البرد والجوع والدماء ، طلقات الرصاص ، ألسنة النيران ، الصراخ ، الأقبية السرية، كلها أشياء دفينة راسخة في ذهنه ، لكنها في الأغلب مغلقة بإحكام ، في تلك اللحظات الزمنية يتذكر حلما لكنه ليس مخيفا ، أشبه بكابوس ، لكن تظل هناك في قلب الظلام الرائع نقطة ضوء لامعة ، يشعر بأنامل أصابع تلك الفتاة وهي تتحسس وجهه ، أو ربما بشيئ يتعلق بالهجوم ، الذي تعرض له وماحدث من

تفاصيل كثيرة متشابكة بعد ذلك ، مجددا لايفهم ماجرى ولماذا جرى .

 

إذا كان تلميذا ذكيا فإنه سوف يتوجه لدراسة الطب بعد تخرجه من المدرسة الثانوية ، لقد نشرت مقالات كثيرة حول الإحتلال النازي ، لكنه لم يقرأ كل مانشر ، كذلك أي روايات أو

قصص تتحدث حول طبيعة تلك الحقبة الفظيعة ، على الأقل بإمكانه الذهاب إلى معهد رايكس المتخصص بنشر وثائق الحرب ، ربما يطلع على شيئ أو يحصل على معلومات جديدة عن قصة تصفية قيك بلوخ ومقتل أخيه بيتر بذلك الأسلوب الوحشي ، أما عائلته حيث ينتمي كانت بلاجدال متفوقة في مجال العلوم ولديها مايكفي من المعرفة ، الشيئ الوحيد الذي يعرفه بأنه لم

تكن هناك أي ردة فعل  لما جرى وإلا كان تم إستجوابه ، أيضا الرجل ذو الندوب لم تتم ملاحقته أبدا ربما تم تصفيته من قبل الجستابو ، بالنسبة إليه الأمر سيان ، ماهو إلا أحد الحقراء على الأقل كان شخصا إستبداديا ، حرق المنازل كان من فعل النازي ، لكن تصفية سكان البيوت تبقى

أفعالا غير مستساغة ، تلك أفعال لاتحدث إلا في بلدان مثل بولندا وروسيا ، ربما كان أنطون قد قضى نحبه فيما إذا بقي ناذما في فراشه تلك الليلة .

 

 

 

 

(2)

 

في غضون ذلك سرعان ما تتغير الأشياء عندما كان في السنة الثانية تحديدا في نهاية شهر سبتمبر من عام 1952 تلقى دعوة لحضور حفل سيقام في مدينة هارلم من زميل له بالدراسة  تحديدا قبل ذلك التاريخ بسبعة أعوام كان محبوسا في قفص ألماني خارج المدينة ، ثم غادره ولم يعد إليه أبدا ، مبدئيا كان يفضل المكوث لكن أفكار كثيرة تصول وتجول في فكره ، بعد الغداء

إشترى رواية لكاتب شاب من هارلم ، ثم توقف في الترام بطريقه إلى المحطة ، للمرة الأولى يشعر كأنه شخص ذاهب لإحدى بنات الليل ، بعدذلك إجتاز القطار الجدار الرملي أسفل الأنابيب

الفولاذية العملاقة ، التي تقع بموازاة الجهة الأخرى من الشارع ، كما يوجد طين رمادي كثيف ، أحيانا يقذف بشدة حمما صغيرة فوق قاطع الخث وهي نباتات شبه متفحمة ، بينما أزيلت الشاحنة المحترقة ، وذقنه يقترب من يده  نظر إلى الزدحام الموجود في الشارع ، مع إنطلاق عربات الترام وهي متوجهة بطريقها إلى المحطة الرئيسية ، عندما تجاوز منتصف الطريق

رأى صورة مظللة يظهر فيها المحيط الخارجي لمدينة هارلم ، لازالت تختلف في طابعها عن اللوحات التي رسمها الفنان روسيدال ، حيث صور غابات من الشجر أو حقول رمادية ، عندما كان يقطن قريبا من تلك الأمكنة ، ولكن الهواء الئي يستنشقه لازال يتمتع بنفس الرائحة، جبال الألب الشاهقة، حيث روافد الضوء تلامس الحواجز والمتاريس ، مارآه ليس مدينة مثل بقية المدن على الأرض ، مدينة مختلفة متباينة كما رسمها في خياله تختلف عما رسمه الآخرين في مخيلتهم ، كان جالسا في المقصورة على أريكة شقراء من الدرجة الثالثة في عربة ، سبق لجيش الرايخ الألماني إستخدامها إبان الحرب العالمية ، مستغرقا في النظر من النافذة إلى الخارج ، رأى شابا طويلا في العشرين من عمره ذو شعر ناعم أسود يتدلى على جبهته رويدا ..رويدا ،  بحركة رأسية صغيرة تراجع للخلف ، كانت تبدو حركة جذابة ، ربما لأنه كررها مرارا ، بدا شخصا متسامحا وصبورا ، لديه رموش قاتمة وبشرة جميلة فاتحة تميل إلى اللون البندقي ، يرتدي بنطلونا رماديا وجاكيتة  زرقاء مصنوعة من قماش سميك ناعم ، قبعة رياضية وقميص ذو ياقة بثنيات .. كان الدخان ينطلق من شفتيه المتأهبتين نحو النافذه ، مما ساعد على تشكيل سحابة رقيقة لامست الزجاج حتى إلتصق به .

 

بعد أن يغادر الترام ، سيتوجه لزيارة صديق قديم ، كان يعيش في السابق بمدينة أمستردام ، رحلت أسرته بعد الحرب للعيش في تلك المدينة كي لاتواجه سيل من الأسئلة والإتهامات من

قبل السلطات ، عندما تجاوز الترام منحنى "هاوت" رأى في لمح البصر القائد العسكري السابق، يبدو بأن الأسلاك الشائكة والدبابات التي كانت بمثابة متاريس إبان الحرب قد إختفت هي الأخرى ولم تعد أشياء إستثنائية ، بدا أحد الفنادق منهارا بنوافذه المغلقة بالمسمامير ، أيضا كراج السيارات ، أما المطعم الوحيد فقد تحول لكومة أطلال ، من المحتمل أن لايتعرف على صديقه

جيدا بعد مرور كل تلك السنين منذ جاء للإقامة هنا ، على الرغم من ذلك لازال صديقه ثم فتح باب الترام .

-  آسف ، قال أنطون .

-  لا تنزعج ، هل بإمكانك العثور عليه بسهولة ؟

-  كل شيئ  سيسير على منوال حسن ، قال للسائق .

في الحديقة الخلفية من الفيلا وأسفل مجموعة من الأشجار العالية نصبت طاولة فوقها صحون

مليئة بسلطة البطاطا ، وأشهى أنواع الطعام طيبة المذاق ، قناني، أكوام من الصحون وأدوات الطعام الأخرى من معالق وسكاكين أو ماشابه ذلك ، على طاولة منفردة رصت الهدايا كما وضع

 بقربها الكتاب الذي إشتراه لصديقه مؤخرا ، في كل بقعة بالبستان المزروع بالنجيل ومختلف الأشجار لمح الضيوف يثرثرون في نقاشهم ، بعد أن رحب بالجميع إنضم لمجموعة من الشباب الذين كان  يحتسون الشراب ، في الغالب تعرف على نصفهم في أمستردام .

 

بأكواب البيرة التي كانت تلامس صدورهم ، قرر الجلوس في حلقة شباب قرب حافة المياه ، مع الجاكيتات التي كانت تغطي أجساد الشباب النحيلة ، يبدو بأن الحفلة كانت تحت قيادة وإشراف  الشقيق الأكبر لصديقه ، درس طب الأسنان في جامعة أوترخت الهولندية ، بينما يرتدي في قدمه اليمنى حذاءا كبيرا أسود اللون عديم الشكل .

 

-  نعم أنظر هنا ، أنتم بطبيعة الحال أطفال بابا الصغار ، خاطب صديقه الحشد الكبير ،

من الأفضل أن تجلس هناك ، تلك البقعة هي فريدة من نوعها  حيث بإستطاعتك التفكير بكل حرية ، بإستثناء ممارسة العادة السرية  كيف كنتم تقضون حاجتكم أيام الخدمة العسكرية ؟

-  متحدثا بأسلوب سلس ، قال : يبدو بأنكم لستم على وفاق مع صاحب المائدة ، سوف أخبرك بأمر آخر ، أيها الطفل الشقي ، إذا كان لديك خصيتين صغيرتين لن تتقدم فقط للخدمة العسكرية ولكن ستتطوع للقتال في كوريا أيضا . أنتم لاتعلمون شيئا مما يحدث هناك  أقصد في جبهة القتال ، هناك حيث يصطدم البرابرة عند بوابات الحضارة المسيحية ، ثم حرك إصبع السبابة في الهواء ، هناك حيث الفاشيست عبارة عن مجموعة من الفتيان اليافعين ، إقرأ كتاب كوستيلر وسوف تكتشف حقائق مذهلة، إذهب إلى هناك وحاول ضرب أحد الفاشيست  بهذا الحذاء القذر برأسه ، قال كويسمودو ، أو مثلا إقذفه بكرة ، ضحك خيريت يان ، على سبيل المثال أستطيع تشبيه كوريا بجامعة أمستردام ، قال أحد الجالسين ، لقد أصبح يتدفق عليها المزيد من المعتوهين بدون حقد أو وجه عدل .. أيها السادة ، قال خيريت يان ثم رفع كأسه ، دعونا نشرب نخب إنهيار الفاشية الحمراء في الداخل والخارج .

 

يخامرني شعور ، بأن من واجبي القيام بذلك، قال أحد الشباب الجالسين ، يبدو بأنه لم يفقه  نغمة بعض الكلمات التي كان يتفوه بها أحد الجالسين ، لكن أعني ظهرت نماذج مختلفة م رجال ال"إس..إس" القدماء في وحدات الجيش والقوات المسلحة ، ياله من هراء ، لقد سمعت بأن بعضهم سيحصل على العفو ، إذا إلتحق بصفوف الجيش ، على سبيل المثال ربما تمشي ذات يوم خلف رجل من وحدة "إس..إس" إنهم يبلون بلاءا حسنا في كوريا .

 

-  أحسنت صنيعا ، قال أنطون  ثم نظر إلى الشابين اللذان كانا جالسان في الزاوية الأخرى من البحيرة ، بإتجاه الطريق الكبير الذي تصطف حوله أشجار مزروعة حيث راكبي الدراجات وأحدهم يتنزه مع كلبه الذي تركه طليقا في الهواء .. هناك توجد أيضا بعض الفلل ، بعيدا من هنا حيث تصعب الرؤية ، لمح مدرسة حضانة أطفال ، تذكر يومها عندما كان يقف في الطابور أمام المطبخ المركزي كي يحصل على وجبته اليومية ، بعيدا من هنا توجد بعض الشوارع لليسار خلف الطريق الزراعي ، لكن ماحدث قد حدث ، كان عليه عدم المرور في تلك البقعة ، والعودة لهارلم أبدا ، كان يجب عليه دفنهم هنا مثلما دفن بقية الموتى .

 

-  بالتأكيد أستطيع تشبيه بقايا بيضة لينة مثل إنسان مولع بالزمن ، قال خيريت يان ، ثم نظر إليه أنطون ، نعم أنت ، ستينفايك ، مذا بعد ، ماهو إستنتاجك؟

-  ماذا تقصد بكلامك ؟

-  هل تصفق للشيوعيين ، أو نظل نمشي بين الزوايا إعتبارا من اليوم ، لقد حصلت على حصتي ، قال أنطون .

-  في نفس اللحظة ، عند الشرفة تم تشغيل إسطوانة "شكرا للذاكرة " .

    إبتسم أنطون لتلك الصدفة الغريبة ، ثم إكتشف  بأن الشاب الآخر لم يتوصل لنفس الملاحظة ، شمر ساعديه  ثم قرر المشي في الحديقة ، كان صوت الموسيقى يختلط بالظلال الشفافة تحت الأشجار ، مرورا بذلك التنوع العجيب من الأشياء ، من ناحية أخرى تأججت في نفسه الذكريات ، عندما كان في هارلم في يوم دافئ أواخر الصيف ، ربما كان آخر يوم في السنة ، عاد لهارلم ، كان أمرا مرفوضا ، كان عليه عدم الرجوع أبدا ، ربما سوف يحصل على وظيفة هنا تدر عليه مائة ألف خلدن بالعام ، لكنه تمنى لو ودعهم ولو مرة واحدة إلى للأبد ، الآن .. في تلك اللحظة.

 

-  أنت أيها الشاب !

-  إرتعب ثم نظر إلى وجه صاحب الدعوة ، رجل صغير في مقتبل العمر ذو شعر مصبوغ بلون رمادي ، يرتدي بدلة ليست أنيقة ، مثل التي يرتديها الرجال في بعض الحلقات الخاصة داخل هولندا ، جلست بقربه زوجته ، سيدة رقيقة الملامح ، ذات ظهر معوج بيضاء ، حساسة ، كما لو أنها بسقطة واحدة ستسبح بالهواء بحركة غير منتظمة ، أشبه بسقوط كتلة من الجليد ،

-  نعم ، سيد فان لينيت ، قال ذلك متخفيا بإبتسامة خافتة  على الرغم من أنه لم يفهم مايدور

حوله .

-  هل تجد ذلك الأمر مسليا ؟

-  سأفعل مابوسعي كي أستمتع بوقتي .

-  حسنا إذن ، تبدو كما لو أن أحدهم قد فتح النار عليك ، ياصديقي.

-  أجل قال أنطون ، أعتقد  بأنني سأشعل الحطب مرة أخرى ، عذرا سيدي ،  أنا آسف . 

-  لاتقل آسف ، هنا سوى الحرية ، الإستمتاع ، هدأ من روعك ، تنفس بعض الهواء النقي ،

قال خيريت يان .

-  بمعية أفراد الأسرة الذين كانوا منهمكين بإحتساء الشاي ، جالسين على كراسي الحديقة البيضاء ، مشى بإتجاه الباب الأمامي للمنزل ، للخارج ، ثم إنعطف نحو شارع جانبي متوجها للبحيرة ، أخذ ينظر من الزاوية الأخرى للحفل المقام في البستان المزروع بالنجيل ، كانت الموسيقى تصدح قرب المياه في تلك اللحظة لمحه خيريت يان .

-  أنت هنا ، عليك اللعنة ستينفايك ، قال خيريت يان .

-  إن مكتب التقديم يوجد في الناحية الأخرى ، ثم أومأ أنطون بيده بإتجاه صديقه ، واللبيب بالإشارة يفهم ، وهو يقدر النكتة ثم توقف عن النظر إليه لاحفا . لم يسلك الطريق المؤدي للبستان ، لكن بإتجاه الشارع ذو الإنحناءة الخافتة ، الذي يؤدي للرصيف ، لم يشعر بالرضى والإستمتاع لما جرى ، فكر هنيهات ، المجرم يحوم دائما حول موقع الجريمة ، فجأة تذكر النصب المقام عل هيئة عظام سمكة ، حيث رصت بعض الأحجار على جانبي الطريق ، في الماضي كان النصب لايشد إنتباهه مطلقا ،  لكن هذه المرة عندما رأى الرصيف إكتشف بأنه لم يتغير أبدا ، عندما إقترب من المياه ، أرغم عينيه على النظر للزاوية الأخرى ، حيث منازل

العمال ، المزارع الصغيرة ، طواحين الهواء ، مراعي الماشية ، كل شيئ لم يتبدل ، إختفت السحب ، الأبقار ترعى بهدوء بعد نهاية ظهيرة يوم مشمس ، خلف الأفق في أمستردام ، يعرف في تلك اللحظة هارلم جيدا ، لكن ربما تبدو في وجوه الآخرين أفضل مما يراها هو ، ربما لأنهم لم يروها أبدا ، ثم إنعرج نحو رصيف الشارع بموازاة الجانب المزروع على الطريق السريع ، واصل المشي حتى النهاية ، عندئذ نظر وهو مرتعشا إلى الجانب الآخر .

 

 

 

 

 

(3)

 

في المساء حيث تقع المنازل الثلاثة  يبدو الحاجز الذي يفصل بين المنزل الأول والمنزل الثاني مثل أسنان أصابها التسوس ، لم يتبقى سوى السياج الذي يحتوي على سور مغلق من القراص وهو عشب ذو إبر شائكة ونباتات ورقية خضراء ووسط هذا وذاك يوجد صف من الشجيرات مثل التي نراها في اللوحات الزيتية التي تعود للقرن السادس عشر مع زاوية عند التلة وغراب ذميم الخلقة يحدق برجل شاذ منحرف الشكل، كما نمت  بعض الأعشاب الضارة غير المرغوب فيها ، تبدو بارزة خلف تلك المنازل ، ربما نمت بفعل الرماد المتبقي من الحروب حتى تكاثرت ، يجب أن يفكر بالقصة التي سمعها من خاله، حول تلال تقع شمال فرنسا، حيث توجد أقاليم زراعية شاسعة، حيث الفلاحين يحفرون الأرض إستعدادا  للقبور الجماعية التي ستضم رفات الضحايا إبان الحرب العالمية الأولى،خلف الظلال نمت بعض نباتات القراص وهو عشب ذو أبر شائكة ينمو بين الأحجار في الغرفة  التي توجد بالطابق العلوي، لاتزال لعبته القديمة الأوتوبيد في مكانها، وهي عبارة عن لوح من الخشب على عجلتين وذراع للتوجيه، حتى الأطلال إختفت هي الأخرى، لم يدر في خلده بأنها كانت

 موجودة منذ أعوام طويلة صامدة لاتنكسر مثل كاسحة الثلج التي تبحر من لحظة لأخرى، في القطب المتجمد الشمالي، بدون أن تصاب بشقوق أو صدوع ، مال رأسه ببطء ، لف شعره قليلا للخلف ومشى نحو المكان التي يقضي فيه وقتا ممتعا وتسمى "دي.كي.دبليو" ثم نظر مجددا لتلك البقعة الخالية، في الماضي كان يسمع ثرثرة العصافيرفوق الأشجار، رأى المنزل مرتفعا مرة أخرى، بني من أحجار شفافة من الزجاج وأعواد القصب، هي كل ماتبقى من ذكرياته، هناك في الأعلى لاتزال الشرفة التي تطل من غرفة نومه، فوق السطح المدبب لليسار.

عندما إلتف للجانب الآخر، رأى لوحة أسفل الشرفة كتب عليها: باوتنروست، أما إسم السيد كورتفخ الذي كان مكتوبا بعناية إختفى هو الآخر ، لكن منزل فيلخيليخن وروستنبيرخ فلا يزالان قائمان في نفس مكانهما، نظر إلى نفس البقعة في الزمن الغابر عندما سقط فيك بلوخ صريعا، عند الأحجار التي بنيت على شكل عظام سمكة رآها أشبه بنصب حجري نجمي الشكل رسم من قبل الشرطة، ماذا فعل حتى حصل على تلك المكانة وهو لايستحقها فعلا، مشى ببطء للناحية الأخرى رأى حركة وجلبة بإتجاه منزل "فيلخيليخن" تذكر السيدة بومر عندما رأته للمرة الأولى لوحت بذراعها ، إرتعب فجأة لايعلم لماذا ، بأقل من ثانية خيل له بأنها لاتزال تعيش هنا في تلك البقعة أو أحد سكان الحي، شيء لايصدق، كل الأفكار والهواجس تحوم حول ذلك المكان : هل غاب السادة بومر وكورتفخ وآرتس بالفعل، إنهم نفس الأشخاص الئين لايزالون على قيد الحياة، أراد الهروب من تلك الذكريات الأليمة ولكن الباب فتح فجأة : توني.

 

لم يرحل بعد، ربما أنه تعلم في صغره أن يبتسم من سياج الحديقة عندما نظر إليها قال: مرحبا سيدة بومر ، أنظروا ياشباب..إنه توني ثم جذب يدها ووضعها أسفل ذراعه من الوسط، بينما كانت هي ترتدي تنورة قصيرة قائلة: من السذاجة أن لايعانق أحد شخصا لم يره منذ زمن بعيد، كانت تبدو في الماضي كبيرة بالسن وضئيلة الحجم أكثر من الآن ، اليوم أصبح شعرها أبيض تماما من الشيب  الذي غزاه بلاهوادة، مجعدا على شكل تموجات صغيرة، لاتزال تشده من يده ولم ترخها.

 

- تعال إلى الداخل ، قالت ذلك بينما كانت تشده من درجات السلم والدموع تترقرق من عينيها، أنظر من يوجد لدينا في الداخل كانت تنادي من خلف فتحة باب غرفة المدخل، كان جالسا على كرسي فوتيل من القرن الماضي، في تلك الأيام لم يكن كرسيا مودرن لكنه موضة قديمة، كان السيد بومر جالسا بينما تبدو عليه معالم الشيخوخة وضئيل الحجم نسبيا وهو مستند بظهره على متن الكرسي لاترى قمة رأسه، بينما أخفى قدميه أسفل بطانية خفيفة، كانت يديه مسترختيان بثبات، ويومأ برأسه بطريقة متواصلة، عندما رأى أنطون يديه بوضوح برزت اليد الأخرى ببساطة مثل طير يرفرف بجناحيه، عانقه بشدة ولم يشعر بحركة يديه لكنه تخيل الشخص الواقف أمامه  تمثالا باردا فاقد الحياة.

 

- كيف حالك سيد بومر؟ سأله بصوت خافت محطم معنويا.

نظر أنطون قبالة السيدة بومر، كانت تومأ برأسها كما هو لم يتغير، مثلما هو على حاله، بخير سيد بومر ،  شكره أنطون ثم بادله التحية قائلا: وهل أنت بخير؟

- وجد السيد بومر صعوبة جمة بالإجابة على سؤال أنطون كما أنه يبدو متعبا، أومأ برأسه ولم يقل شيئا، لكن أنطون واصل النظر بعينيه الزرقاوين الصغيرتين بإتجاه السيدة بومر، كانت زوايا فمه تلمعان من الرطوبة أما بشرة وجهه فرقيقة مثل شرائح الخبز، الشعر الذي تبقى في رأسه كان بلون القش ولازال أنطون يتذكره جيدا ربما كان في الماضي محمر اللون أما جهاز الراديو ذو اللون البني القاتم على شكل باكليت وهو نوع من اللدائن البلاستيكية على شكل بيضة مقطوعة طوليا ظل مثلما هو، في الماضي القريب كان يذاع برنامج خاص بالأطفال ، ثم بدأت السيدة بومر تنظيف بقايا الطعام من الطاولة، يبدو بأنهما قد فرغا للتو من تناول الطعام.

- دعيني أساعدك ، قال أنطون.

- ليس ضروريا، إسترح في مكانك سوف أسكب لك كوبا من القهوة، بينما جلس أنطون على كرسي فاخر بدون مسند للظهر أو اليدين قرب المدفأة، يتذكره جيدا طيلة حياته، صنع السرج من شعر البعير، لم يحاول السيد بومر أن يغير إتجاه عينيه، بينما كان أنطون يضحك وينظر فيما حوله، لم يتغير شيء في الكراسي الأربعة المرصوصة حول طاولة الطعام، مصنوعة من الخشب ، ومطلية بطلاء

أسود أما الأطراف فقد نقشت على الطراز القوطي المرعب وهو فن معماري قديم ، في الماضي كان يشعر بخوف دفين كلما أتى لزيارتهم لتناول الحلوي اللذيذة التي تعدها السيدة بومر، لايزال معلقا فوق الباب تمثالا يمثل المسيح وهو مصلوبا، كان الهواء مكتوما داخل الصالة والنوافذ جميعها مغلقة، أيضا الفتحات بين الأبواب أغلقت جميعها بزجاج رصاصي، "فيدي-فيت" إنطلق صوت نسائي من جهاز المذياع، تجشأ السيد بومر أي أخرج غازا بصوت مسموع من فمه، ثم نظر مندهشا حوله كما لو أنه سمع شيئا يدب من مكان مجاور .

 

- لماذا لم تأتي لزيارتنا في السابق ياتوني؟ قالت السيدة بومر وهي منشغلة بالمطبخ، قام على ركبتيه ثم توجه إليها، عند الممر رأى فراشهما مركونا قرب الغرفة الخلفية، ربما لأنه لايستطيع صعود السلم مرة أخرى، تركت السيدة بومر

قليلا من الماء مع القهوة كي تسخن، كان الماء يغلي داخل وعاء يصدر صفيرا، هذه هي المرة الأولى التي أزور فيها مدينة هارلم، كانت في حالة يرثى لها عندما تركتها آخر مرة، قالت السيدة بومر بصوت خافت، لاتهتم لما رأيت.

- نعم بالتأكيد هل من مزيج؟ فكر أنطون ثم إنفجر ضاحكا بعدذلك أخذ يشاكسها لكنه شعر بأن عليه التوقف برهة.

- من تلقاء نفسي ، قال أنطون؟

- هل تعلمين في حقيقة الأمر لم يتغير شيء؟

- تبدو الآن أطول من أباك، لقد تعرفت عليك في الحال، هل لازلت تعيش في هارلم ؟

- أجل سيدة بومر.

- هذا ما لاحظته لأن خالك قدم إلى هنا بعد التحيرير مباشرة بينما لمحك زوجي وأنت جالسا داخل سيارة ألمانية تنطلق بسرعة ولم تكن لدينا أدنى فكرة فيما إذا كنت على قيد الحياة أم لا، لم نفهم شيئا مما حدث في تلك الأيام الحالكة، كم مرة ستتذكر ماحدث من أهوال، تعال لنخرج من هنا ثم توجه معها إلى غرفة الجلوس، في تلك اللحظة رأى السيد بومر وقد بسط يده مرة أخرى، عندذلك وقف أنطون صامتا بينما فرشت السيدة بومر مفرشا مشمشي اللون على الطاولة ، لازال يتذكره أنطون جيدا ثم سكبت له القهوة.

- هل تشربها بالسكر والحليب؟!

- بالحليب فقط من فضلك سيدتي.

- أحضرت آنية الحليب الصغيرة ثم سكبته بعناية في كوب مسطح ومنخفض.

- ربما تود رؤيته مرة أخرى، قالت السيدة بومر بينما قدمت له الكوب، لكنني أستوعب ذلك جيدا، من الصعوبة عليك أن تأتي لزيارة هذا المكان مجددا، كان هناك شخص يحدق بالمكان مرات عديدة.

- من هو ذلك الشخص؟!

- ليس لدي أدى فكرة حول هوية الرجل...ثم قدمت له علبة خشبية صغيرة بداخلها قطع من البسكويت الجاف، تفضل....بكل سرور سيدتي، هل تشعر بالراحة في بيت خالك؟! تعال إجلس هنا عند الطاولة.

- هذا هو مكاني المفضل ، قال ضاحكا.

- هل زلت تتذكرين ذلك الرجل الذي قرأ قصة "المحاربين الثلاثة" ثم فتحت السيدة بومر جهاز المذياع وهي جالسة قرب الطاولة تتمازح معه، لكن سرعان ما تلاشت ضحكتها، إحمر وجهها بسرعة ، لاحقا جال أنطون بعينيه إلى الخلف، بإصبع الإبهام والسبابة والوسط جذب كوب القهوة للأعلى ثم أدخله بين ثنايا يديه، وأحكم قبضة أصابعه حوله فيما يشبه المظلة، ثم وضع قطعة قماش على حافة الصحن وتناول جرعة صغيرة من محلول القهوة الذي تخمر ، كان متوقعا أن يخبرهم  بمزيد من التفاصيل حول حياته اليومية، شيء حول الماضي، يجب أن يبادر أولا بالحديث حول الماضي، لكنه لايود التطرق إليه، على مايبدو يعتقد آل بومر بأنه شخص فاقد الأمل حول الماضي، يحلم كل ليلة، لكن الحقائق تبين عكس ذلك، أيضا لايود التطرق لذلك الحادث  الأليم، تخيل نفسه جالسا مع هذين العجوزين في تلك الغرفة كما لو أن شخصا آخر مرئيا موجود معهما في تلك اللحظة، نظر للسيدة بومر لاتزال الدموع تترقرق في عينيها.

- هل لازال السيد كورتفخ يعيش هنا؟! سألها.

لقد رحل بعد مضي أسابيع قليلة على التحرير،  لانعلم إلى أين رحل ولم يودع أحدا، أيضا كارين ، أمر غريب أليس كذلك... هل رأيت؟!

يبدو بأنها تريد البوح بشيء ما، يبدو بأنهما تقبلا على مضض صمته، لابد أن يتوقف عن الكلام حول تلك النهاية البشعة لأبويه، كما لو أنه لم يرى أحدا من قبل.

- كنا جيران على مدى تسع سنين ، قالت السيد بومر كما عشنا سنوات الحرب معا وصدفة رحل الجميع، لاأفهم هؤلاء الناس أبدا، على مدى أيام طويلة ظل ركام حوض الأسماك الخاص به ملقى جانبا على الرصيف حتى قامت البلدية بإزالته.

- حسب علمي كان عبارة عن صندوق لتربية الزواحف والحيوانات البرية، قال أنطون وسط كل تلك الأشياء الزجاجية كان رجلا غير محظوظا وقد توفيت زوجته منذ فترة قريبة، هل زاركما بالماضي، هل تتذكر السيدة كورتفخ جيدا؟

- في حقيقة الأمر ليس تماما، ربما كانت بالثانية والأربعين أو الثالثة والأربعين.

- كم كان عمرك حينذاك؟ كنت في العاشرة.

تذكر السيد كورتفخ، رجلا فظا كان يرحب فيه دائما ولكن لم يدر بينهما حديث في يوم من الأيام، عندما يأتي للمنزل كان يرتدي للفور معطفه، ثم يلف أكمام قميصه للأعلى، لكن بصورة غريبة للداخل حتى تبدوان وكأنهما منثنيتان دوما حول ذراعيه المشعرتين، يتوجه غالبا للطابق العلوي، حيث يقوم بأشياء مبهمة، ويتحرك الفضول في نفس أنطون لمزيد من الإكتشاف، بينما تجلس كارين بإستمرار مسترخية على مقعد للإستلقاء طلبا لدفء الشمس، وتلف شعرها الأشقر الداكن للخلف بينما ترتدي تنورة قصيرة فوق الركبتين، حتى يظهر أحيانا طرف من سروالها الداخلي، ذات عينين زرقاوتين شاحبتين أما بطة الساق أو الجزء بين الكعب وتجويف الركبة من الخلف فهي جميلة وقوية، جعلته يفكر بمقطع عرضي من أجنحة طائرة نشرت في عدد من مجلة "عالم الطيران" عندما يخلد للنوم يفكر بتلك الفتاة ثم تتصاعد نبضات قلبه،لكنه يجهل تماما العلاج الناجع لمثل تلك الأمور، لاحقا يغوص في نوم عميق ثم يتساءل في نفسه: هل يحاول من خلال فتحة في سياج الحديقة، زاحفا رؤيتها، تتبعثر الكلمات في فمه ولايجد شيئا يتحدث حوله، ويعاود اللعب بالطريق المزروع بالأشجار، ينظر من طرف عينيه قليلا طريقة جلستها، في يوم من الأيام بعد أن وعدها بحفظ السر كشفت له عن الهواية المفضلة لأباها، هناك في أعلى الغرفة الخلفية يوجد صندوق على الطاولة بداخله مابين عشرة إلى خمسة عشر نوعا من الزواحف البرية، مثل السحالي، عبر ذلك الصمت الغريب تتسلل أيادي صغيرة خلف أحد الشجيرات، تتأمل تلك الحيوانات القادمة من الماضي، فاقدة الحركة وداكنة، بعض السحالي على شكل حرف "إس" وهي تبتسم إبتسامة عريضة كما لو أن عيون تلك الحيوانات تتحدث لغة أخرى، لاتتحرك من هول الصدمة، راسخة في مكانها وتعاني بصبر وثبات.

 

وضع أنطون كومة أخشاب فوق إطار المدخنة، وهو إطار زخرفي بني حول فتحة المدفأة ، فوقه ساعة كبيرة ببندول، كانت السيدة بومر منشغلة بالحديث حول السيد كورتفخ لكنه تظاهر بأنه لم يفهم ماحدث في تلك الأمسية بالضبط مع جثة بلوخ، يبدو بأن ماخفي كان أعظم، كان مجبرا على تصديق ماجرى ويبدو بأن كورتفخ هو الشخص الوحيد الذي يعرف الحقيقة، حتى خاله وخالته لم يخبراه أبدا، ربما لأن هناك شعورا يخامره حول حقيقة ماجرى، ومن التفاهة بأن هناك قليلا من الأشخاص يعرف الحقيقة ، منتهى التفاهة.

- وبعدذلك..قال أنطون.

لاتزال عائلة آرتس تعيش في نفس الحي لكنهما لم يأتيان أبدا للترحيب بنا، وأنت تعلم بذلك ايضا، ولم يصادف أن إلتقيت ذلك الجار، من المؤسف حقيقة، كما أن السيد "خرونفيلد" كان يود التخلص من تلك الأعشاب الضارة قرب منزلنا.

- خرونفيلد؟

تلك العائلة التي تسكن حاليا في منزل كورتفخ، بالتأكيد رأيتها ،كانت تلك الأعشاب تنموقرب منزلكم.

- أجل ، قال أنطون.

كانت البذور تهب بالقرب من منزلهم وأيضا حديقتنا، وكان ينوي دائما إزالة تلك الأعشاب التي أخذت تنمو طوليا، تمنى لو أن البلدية قد تولت الأمر، ثم قرر كتابة رسالة حول تلك المشكلة، وقعنا عليها جميعا، لكنه لم يترك المنزل، ماهو رأيك"

إنها محاولة لابأس بها، نظرت نحوه وهي ساخطة,

- ثم أومأ أنطون.

- في الحقيقة أمر لايصدق، لازال ينمو بصورة خرافية.

بسبب نغمة صوتها أيقظت السيدة بومر فيمايبدو حواسه وإدراكه ربما لم تكن في الماضي محاورة بما فيه الكفاية، فجأة قالت وهي غير واثقة:

- أعني...أعني.

- سيدة بومر الحياة يجب أن تستمر رغم كل الصعاب.

- كم أنت فتى ذكي ومتفهم، ياتوني ، يبدو بأنه تخلص من المشكلة نهائيا، ثم وقفت قائلة: هل تود مزيدا من القهوة؟

- شكرا لك، قال أنطون.

ثم سكبت له القهوة بنفسها.

- جعلتني أقلق بشأن بيتر، تبدو مختلفا قليلا عنه، لكنه كان فتى واعيا وفي نفس الوقت طيب دائما ويساعد الآخرين، ثم وضعت مكعبا من السكر..وواصلت حديثها، لاتزال تمسك بين أظافرها بكماشة السكرثم سرعان ما أعادتها إلى وعاء السكر.

- هل تعرفين شيئا بخصوص بيتر، سألها أنطون .

كنت أجد هذا الأمر مؤسفا، هذا الشاب الطيب..أجل، أيضا أمك وأباك ، لكن بيتر في ذلك الحين كان لايزال أصغر منك ، عندما سمعت بالخبر ، شعرت كم هو مروع ومخيف ماحدث له ، لقد رأيت بأم عيني عندما حاول مساعدة ذلك الرجل المدعو بلوخ، يبدو بأنه لم يكن متأكدا من موته، أجل كان بطبيعة الحال كان وغدا، أعلم ذلك بالتأكيد لكنه كان في نهاية المطاف بشر مثلي ومثلك، شاب مثل بيتر ذو قلب طيب، حاول مساعدته لكن ذلك الأمر كلفه حياته،حرك أنطون رأسه ثم بسط يديه حول المقعد الجلدي البني اللون، كان يبدو محترقا، لكن هل كانت هذه رغبته بالفعل، من المحتمل لو حصل بيتر على ماتمناه لتحول كل شيء إلى هشيم.

 

لايزال كرسي الإسترخاء للسيد بومر مثلما هو ، أيضا المطبخ، الصليب ، الكراسي الكئيبة لطاولة الطعام ، كان يحيط بالمنزل في الماضي حشد من الأعشاب الضارة، بينما كان أبويه يعيشان في منزل "باوتنروست" ربما كان السيد والسيدة بومر مسنان في تلك الحالة كيف سيتم تصفيتهما من قبل الجستابو، ولكن فيما إذا عاش بيتر، ربما كان سيلتحق الخدمة العسكرية عام 47 أثناء الإجراءات البوليسية أو يتم إلحاقه بقسم ديسمبر وربما في الهند سيشعل النار بالقرية الصغيرة بسقوف منازلها المبنية من القش، أو يستشهد هناك أمور لايمكن تخيلها، كان بيتر في السابع عشر، أصغر منه بثلاثة أعوام وأيضا ذلك أمر لايمكن تصوره، يبدو بأن أنطون سيظل الشقيق الأصغر حتى النهاية، ربما حتى بلوغه الثمانين من العمر، كل تلك الأمور لايمكن تخيلها، فجأ أزاحت السيدة بومر عبئا كبيرا عن كاهلها، كان من أفضل الناس قالت هي بلطف، يحرسهما الله برعايته، ماذا بعد، فكر أنطون ربما ستقول بأن فيك أيضا إنسان خير.

- أجل..قال هو.

لاأحد يعرف المقدر والمكتوب ، لماذا قتل بلوخ مثلا قرب منزلكما؟ كان من المفترض أن يحدث هنا أو عند منزل كورتفخ، كنت أتناقش مع زوجي دائما حول نفس الموضوع، كان يقول دائما بأن الله يحفظنا في مكان آمن ولكن كيف نستنتج ذلك؟ هذا يعني بأنه لم يسامحكم ولماذا برأيك لم يسامحكم؟ شعرأنطون بأنه تمادى كثيرا في حديثه ، وهي صامتة وضعت مشبك السكر على الطاولة للمرة الثالثة، تترقرق الدموع في مقلتيها، ذلك العزيز بيتر أحبائي أباك وأمك، لازلت أتذكر أباك بمعطفه الأسود وقبعته الكروية ومظلة المطر المدورة، كان ينظر بإستمرار إلى الأرض وعندما يتعلق الأمر بأمك كان يمشي دائما أمامها، تماما مثلما يفعل الهنود، لم يحاولا أبدا إثارة غضب أحد الجيران.

- الفقوس  مثل التمساح ، قال السيد بومر فجأة.

نظرت إليه السيدة بومر في حين نظرهو الآخر إليهما مجددا، كما أنه لم يغضب من الأمير الصغير، بينما ركزت السيدة بومر عينيها مجددا على يديها، من يكون قد فعلها إذن ، كان المفترض أن يخبرك خالك حينها، عندئذ إنقض عليها ذلك الرجل..ماتت ببساطة، مثل الوحوش ..تلعثم أنطون من رقبته حتى أخمص قدميه لايدري ماذا يقول أو كأنه تلقى صفعة كهربائي مفاجئة ، بينما ترددت السيدة بومر وأخذت تتمتم بعض الكلمات.

 

بطبيعة الحال أيها الشاب، أنا أتفهم وضعك جيدا، لقد كان أمرا مرعبا للجميع يجب عليه مغادرة المكان فورا، بدون أن يشعر بالوقت نظر إلى ساعته ، آوه ..نعم يجب أن أغادر ..بالطبع كما تشاء ..أيها الشاب ، كانت السيدة بومر واقفة ثم بسطت راحة يديها على الزاوية العلوية من ثوبها الرقيق الملمس.

- هل هي المرة الأولى التي تزور فيها هارلم ، توني؟

- النصب التذكاري..هناك ، قالت السيدة بومر ثم أشارت إلى زاوية من الغرفة، حيث تنتصب طاولة حمراء صغيرة دائرية وضعت عليها زهرية، بينما كانت تتدلى حولها بعض خصلات الشعر مثل أجنحة طائر النعام، أين حدث ذلك بالضبط؟ قال توني.

- لاأعرف بالضبط متى حدث ذلك؟

من المحتمل قبل عام أو ثلاثة أعوام قالت السيدة بومر، تم إزاحة الستارمن قبل محافظ البلدية، وتم دعوة الكثير من الناس ، كنت آمل بأن تكون أنت أحد المدعويين ولكن للأسف، وأيضا خالك لم يحضر هو الآخر، هل تود أن أرافقك إلى هناك، كما تشائين، قالت ذلك ثم جذبت  بيديها الفستان ، ربما تود الذهاب لوحدك.

 

- إلى القاء توني..كم أجد زيارتك رائعة لو كررتها مرة أخرى، وأيضا زوجي ويده ممسكة بيد السيدة بومر نظر إلى زوجها، كان يبدو منهكا وعيناه مغلقتان، بعد أن أوضحت السيدة بومر جميع الأمور ورحبت به قال بأن لديه يدين كبيرتين مثل أبيه، ودعته على أمل اللقاء مرة أخرى، وعدها أنطون بأنه سوف يأتي سريعا لكنه يعتقد  بأنه لن يراهم مرة أخرى، ولن يزور هارلم مجددا، عندما إقترب من الباب الأمامي للخروج توقف برهة، لقد إندهش من مساحة الضوء القادمة من جهة اليسار التي إنعكست على وجهه حيث كان منزلهما يبدو قاتما دوما، عبر الأرض المقفرة الموحشة رأى في الحديقة سكان منزل "نويتخيداخت" الجدد وهم رجل أشقر نحيل مع زوجة هندية قصيرة في حدود الخامسة والثلاثين، كان يلعب كرة القدم مع شاب صغير بينما كانت المرأة تمسك مولودا صغيرا بذراعيها، كانت ساعة أرجوانية كما يتندرون، الشمس منخفضة بينما يغرق الرصيف والراعي في ضوء لانهاية له، إلى حيث لامكان ، ليس في النهار أو الليل ضوء قادم من عالم آخر، حيث لايتحرك شيء أو يتغير وهذا مالاحظه بسرعة في تلك السويعات، من النهاية الأخرى

للرصيف ، حيث الطريق الذي تنساب منه المياه مرة أخرى نحو الخارج ، رأى على رصيف الشارع سورا عاليا لم يكن موجودا في السابق ولم يكن هناك وجود للمواصلات ، على الجانب الأيمن مشى مائلا في إتجاه الشارع الذي يؤدي إلى النصب التذكاري.

 

يحيط بالسياج الذي يصل عرضه لعدة أمتار مجموعة من الرودودندرون وهو نبات من الفصيلة الحلنجية، حيث كانت الأوراق تلمع  عبر الضوء السحري، كما يتألف من جدار منخفض من القرميد، أما الجزء الأوسط فيثير الرهبة في النفس، حيث ينتصب تمثال رمادي لأمرأة سارحة بنظرها وشعرها منسدل على كتفيها وذراعيها ممتدتان للأمام ، غارقة في حزن عميق، صمم على الطريقة الفرعونية وهناك للأسفل نقش نص معين مزود بتواريخ محددة، لقد سقطوا فداءا للملكة والوطن ، إلى اليسار واليمين على الأجنحة الجانبية للنصب بنيت أرضية من البرونز، بينما نقشت أسماء الموتى في أربعة صفوف ، كتب في الصف الأخير الأسماء التالية.

جزيزسورخ دراخر 3-6-1919

فيه.إل.ستينفايك 17-9-1896

دي.ستينفايك فان ليمبت 10-5-1904

ييهر تيكس 21-11-1923

ما.ها.إس.فيرمان 8-2-1921

آ.فان دير زون 5-5-1920

 

تزاحمت الأسماء في عيني أنطون، هناك حيث يرقدان مسجلان بالبرونز حسب الترتيب الأبجدي ، أسماءهم نقشت ليس من البرونز فقط ولكن البرونز المحفوظ بينما ظهر الرجال المقيدين بالأصفاد وهم يحاولون القفز من الشاحنة، كانت أمه هي المرأة الوحيدة بالنصب، بينما أبيه الرجل الوحيد من القرن الماضي، هذه كل القصة، لم تتبقى سوى بعض الصور  القديمة ، لازال خاله وخالته يتوليان رعايته، هما غائبان، لكن أسماءهم فقط هي الحاضرة، ولم يتم العثور على جثامينهم أبدا .

 

ربما سيتم مناقشة القضية في هيئة خاصة بأنصبة الحرب التذكارية بالمقاطعة، أوربما لازالت أسماءهم تتردد، أ,وربما لاحظ بعض الموظفين الحكوميين بأن الفصل المتعلق بالقبض على الخاطفين لم يغلق بعد أو ربما لم يتم إعدامهم بالرصاص، ولكن تم قتلهم مثل الوحوش حيث تم إستجواب الموظفين في اللجنة المركزية أو ربما من الضروري أن يقام لهم نصب خاص كإمتياز، ربما توصل موظفي لجنة المقاطعة بأن إسم بيتر لم يدون بعد، فهو ينتمي إلى المقاومة المسلحة حيث يجب أن تقام أنصبةأخرى للرهائن، أفراد المقاومة، اليهود ، الغجر ، من اللعنة أن لايتم إلحاقهم لنفس الركب، وإلا فسوف تكون هناك فوضى عارمة ، لايزال ممر الصيد في مكانه، الماء الجاري، عندما رأى السيدة بومر وهي تطل بوجهها من الغرفة البارزة، خارج المنزل لم يعد أبدا لنفس الطريق.

 

 

(4)

 

لن يعود أبدا إلى حزب "فان لينيب" ثم سافر بالقطار الأول المتوجه إلى أمستردام ، لدى وصوله للمنزل كان خاله وخالته جالسان عند الطاولة وقد فرغا للتو من تناول الطعام، كان المصباح لايزال مشتعلا، وهو مستاء سأله خاله: لماذا لم تتصل إذا كنت ستتأخر عن المنزل؟!

- كنت في هارلم، قال أنطون.

تبادل خاله وخالته النظرات، كان الأمر برمته مبهما بالنسبة إليه ثم توجه للجلوس في المكان المخصص له، وبكلتا أصابعه تناول صينية السلاطة، ضاغطا رأسه على رقبته وضع محتوى الطبق في فمه.

- حرك رأسه ،إبتلع السلطة ثم سأل خاله:

- لماذا لم تخبرني من قبل بأن هناك نصبا تذكاريا مقاما عند الرصيف؟

- سكب فان ليمبت القهوة ماسحا فمه ثم واصل النظر إليه.

- هذا ماقله لك يا أنطون؟

- متى كان ذلك؟

قبل ثلاثة أعوام صادفت الذكرى التاسعة والأربعين لإزاحة الستار عن النصب التذكاري وقد تلقيت دعوة مثل الآخرين ، حينها سألتك فيما إذا كنت تود المجئ ولكنك رفضت.

- لاأعرف تحديدا ماقلته حينذاك،سكبت له السيدة ليمبت مزيدا من السلطة وجلست بالقرب منه، قلت لك بأن تلك الأخبار ربما لن تكون صحيحة.

- هل تعرف بهذا الأمر أم لا؟ سأله فان ليمبت.

حرك أنطون رأسه ثم نظر إلى مفرش الطاولة الأبيض بينما إنشغل هو بتناول السلطة بالشوكة بكل هدوء وللمرة الأولى إشتعل غضبا في أعماقه، شيء يستولي عليه من الداخل، فتحة سوداء حيث تسقط الأشياء بدون أن تصل إلى القاع كما لو أن أحدهم ألقى حجرا في حفرة ولم يسمع رنينا.

في زمن ما كان يفكر بتلك الأشياء، سأل نفسه ذات مرة : ماذا سيحدث لو قفز في نفق واسع حيث تشتعل فيه النيران، بعد برهة زمنية محسوبة بدقة، ربما سنتقل للزاوية الأخرى للأعلى، بينما قدميه تتمددان للأمام ولكن ليس كلية حتى يصل إلى مرحلة السكون ثم يختفي مرة أخرى رأسا على عقب في الأعماق، بعد سنوات سوف يعيد عملية الحساب مرة أخرى، وهو يحلق منعدم الوزن في نقطة الوسط من الأرض حتى يصل للسكون كي يستطيع التفكير بكل عمق وجدية حول بعض الأمور ولماذا حدثت بذلك الأسلوب .  

      

 

 

 

 

 

 

 

 

الواقعة الثالثة 1956

 

 

(1)

 

مرت سنين ولدت لحظات جديدة ، زرعت في حياته معاني أخرى للحياة ، أثناء دراسته لم يكن طالبا نابغة وفي نفس الوقت لم يكن غبيا ، تابع دراسته بمنتهى الجدية ثم شارك عام 1953 بإمتحانات المرشحين للحصول على الدرجة الجامعية ، غادر منزله في جادة أبولو للعيش في المدينة الجامعية ، بدا وكأنه دخل منعطفا جديدا في حياته ، هناك في شقته الصغيرة الداكنة ، التي تقع فوق محل بيع السمك  في شارع دفارس بين شارعي برينسخراخت وكيزرخراخت الشهيرين في أمستردام ، كان جيرانه في المنازل المجاورة  يمينا ويسارا يبعدون عنه مسافة خمسة أو ستة أمتار ، ربما أبعد من ذلك خلف الأفق ، يبدو بأن الأحوال قد تبدلت في هارلم منذ سنة 1945 عندما فارق المدينة ، حيث كان كل منزل يقع مقابل الآخر ، كانت حالته أشبه برجل مطلق ، يسكن مع صديقه محاولا نسيان زوجته في المقابل  ينتمي إلى زوجته ، ربما ينوي إجراء محاولة ثالثة مجددا كي ينعش حياته الرتيبة ، إن الدول المشتركة بالحدود  تحمل نفس الصفة حتى لو كانت متباعدة عن بعضها البعض ، إنها وظيفة  بائسة ، لأن الأشياء تتداخل مع بعضها في العالم ، ولايمكن للبداية

أن تختفي مطلقا، أيضا نفس الحال مع النهاية .

 

ذات مرة في الأشهر اللاحقة داهمه صداع نصفي تسبب بألم شديد في رأسه ، ثم قرر تناول قسطا من الراحة ليلا في الظلمة ، أو يسلم بالأمر الواقع ، نادرا مايداهمه الألم ، يقرأ الكثير لكن ليس عن موضوع الحرب ، ذات مرة نشر بعض الأشعار التي تدور حول الطبيعة في صحيفة الطلبة، بإسم مستعار "أنطون بيتر" ، كذلك يعزف على آلة البيانو خصوصا موسيقى "سخومان" ويهوى الذهاب للحفلات الموسيقية لكنه لم يعد يهوى الذهاب للمسرح ، منذ أن شاهد عرضا مسرحيا رائعا لتشخيوف بعنوان "حديقة الكرز"  ، بالنسبة له بدا غير مفهوما من إخراج سيروف في إحدى المشاهد يظهر رجل ذو رأس مدور جالسا على الطاولة بينما كانت زوجته تنادي على أحدهم من الشرفة ، فجأة أصبح أنطون ممسوسا ومفتونا بشيء مبهم ومروع يجهل مكنونه لكه قوي حتى أنه غادر الصالة وإنطلق للخارج ، حيث الشارع العام ، سرعان ماتلاشى

كليا وسط الزحام ، حيث عربات الترام ، الناس والسيارات ، حتى أنه تساءل في نفسه فيما إذا ماحدث كان حقيقة أم خيال .

 

يذهب كل أسبوع راكبا دراجته النارية من طراز سكوتر وحقيبة خلف ظهره مليئة بالملابس المتسخة متوجها إلى جادة أبولو، حيث يمضي بعض الوقت في منزل خاله كذلك لتناول الطعام ، على الرغم من أن الوقت يمضي بسرعة ، يبدو بأن حياته أصبحت تسير  على منوال حسن ، وتنتظم بصورة مبهرة للغاية ، وظل دوما ذلك الشاب النشط الذي لم يفتر حماسه في يوم من الأيام ، طالبا عاجيا بكل ماتعنيه الكلمة يتناول وجباته في أطباق عادية ويحتسي النبيذ من القارورة أو يرتدي ربطة عنق مفكوكة أو يظهر بدون معطف ، عندما يقبل خاله وخالته ، يقرأ في وجوههم علامات مثيرة للإهتمام ، ويتذكر خاله نفسه عندما كان طالبا ، عام 1956 حصل على درجة دكتور في الإمتحان النهائي للدراسة الجامعية لكلية الطب ثم بدأ يستعد لإمتحانات الطب بالعمل كمساعد في عدد من المستشفيات ، بعد ذلك قرر  التخصص في علم التخدير ، بطبيعة

الحال يستوعب جيدا  أنه فيما إذا قرر التخصص كطبيب أمراض باطنية أو قلبية مع الممارسة العملية، بمقدوره كسب الكثير مرتين أو ثلاثة أضعاف المبلغ الذي سيتقاضاه حاليا ، لكن لن

يبقى لديه متسع من الوقت ، سرعان ما تتفاقم لديه آلام المعدة والعلل القلبية ، بينما إذا إنشغل كأخصائي تخدير بمقدوره فتح أبواب المستشفى المغلقة ويشعر بمزيد من الحرية ، أما الجراح

فينطبق عليه نفس الكلام ، بإستثناء واحد بأنها تمارس من قبل الجزارين ، على أي حال إختار

علم التخدير  ليس لأسباب مشوقة لكنه كان مفتونا بالتوازن الحساس الذي يجب المحافظة عليه ، مثلما يغرس الجزارين سكاكينهم في أجساد  الناس، ذلك التوازن الشديد الفاصل بين الحياة والموت، والقلق حول ذلك المخلوق البائس الفاقد لوعيه، في الحقيقة تزايدت لديه الشكوك بأن المخدر لايفقد المريض شعورة كلية، لكنه يسعى بتفاعل كيميائي لتخفيف الألم، عودة للوراء بمقدور الذكريات الصمود ومقاومة الألم بينما يتعرض المريض لسلسلة من التغيرات، عندما يستيقظ يمكنك ببساطة رؤية كم المعاناة الذي تعرض له قبل لحظات قليلة، وعندما تناقش ذلك الأمر مع زملائك في العمل الذين هم في عجالة من أمرهم نحو إتخاذ القرار ، ينظرون للمريض من منظور آخر ، على أنه حالة ظاهرية مؤقتة، بإستطاعته تحمل الأم ، على سبيل المثال كان عليه المكوث بإحدى النوادي لقضاء بعض الوقت بدلا من مصارعة الألم هنا في المستشفى .

 

وعندما نتطرق لموضوع السياسة التي تسير على وتيرة واحد تظل الأخبار المحلية أقل إهتماما لديه ، كما يحرص على قراءة العناوين الرئيسية للصحف لكنه سرعان ماينساها فورا ، عندما ذهب مع رفيقه الإنجليزي ذات مرة لإحدى المؤسسات العاملة، لم يخبره سوى القليل عن الألمان أو الفرنسيين ، يقضي معظم الوقت في إكتشاف الدور الذي تقوم به الصحف في إيجاد الحلول للكثير من الخطابات السرية، رغم الذكاء والفطنة التي يتمتع بها فهو عاجز عن فك الطلاسم والتوغل بالأسرار، إذا إنهمك بقراء موضوع مبهم معقد منشور في الصحيفة وغير مكتمل التفاصيل ، يتملكه الفضول لمزيد من القراءات أكثر من الرجل أو المرأة اللذان يكيلان الإتهامات لبعضهما، لأن أحدهما إرتكب خطأ ما . عندما يفرغ من قراءة الصحف اليومية ينظر راضيا للصحيفة المكتملة ذات الأبعاد الأربعة تتألف أغلب العناوين من قسمين، كلمة أفقية وأخرى عمودية وتم صياغة الكلمات بأسلوب بديع مما منحه شعورا بالرضا والأمتنان في نهاية المطاف ، كما لو أنه يقرأ بعض الأبيات الشعرية.

 

في عام 1956 كان عليه المشاركة بالإنتخابات مثل البقية، أثناء العشاء الأسبوعي في دار خاله الذي يقع بجادة أبولو سأله في أحدى الأمسيات عن أي حزب ينوي التصويت له، أخبره بأنه يفضل الليبراليين ولماذا إختار ذلك الحزب تحديدا قال له: بأنه يصرح بآراء أفضل من أصدقائه أو المحيطين به، ثم ناقش السيد فان ليمبت صاحب الفكر المغاير حول الكثير من الأمور المتعلقة بالسياسة . عارضا وجهة نظره ومدافعا عن رأيه بالكثير من القضايا ومحاولا إقناعه بأي شكل من الأشكال. قال على سبيل المثال بأن الليبرالية الحالية أو التحررية اليمينية تجمع بين التشاؤم الجوهري للتضامن البشري بوجهة نظر خاصة، وبأن الفرد يجب عليه أن يتمتع بقدر كافي من الحرية .

 

لكن إذا كان الإنسان متشائما إذن هو بطبيعة الحال كائن منظم، وإذا كان متفائلا إذن تلك هي الحرية، لكن من غير الممكن التوفيق بين كلا الإحتمالين، ليس بمقدور البشر التشاؤم من الإشتراكية والجمع بين تفاؤل الفوضوية أو رفض النظام تلك هي الليبرالية، قال بمنتهى البساطة بأن على البشر إكتشاف فيما إذا كان على الإنسان أن يكون متشائما أو متفائلا، ماذا إذن؟ نظر أنطون بتمعن إلى خاله، ثم قال: المتفائل...إذن سيصوت أنطون للإشتراكيين الديموقراطيين ، بالضبط كما قال خاله للتو، الذي ينتمي للأحزاب السياسية الهامة حيث يتم إنتخاب مجلس العمدة والنواب وهم أعلى سلطة تنفيذية بالبلدية والوزراء،  كان على أنطون ملاحظة بأنه لا أحد يصوت طوعيا لكن ينبع من إهتمام شخصي أو بأن كل شيء نسبي، لأن بعض الأشخاص مسجل في حزب معين تنبعث منه رائحة البخور الخاصة به، أو لأن أحد الأشخاص المسجلين في قائمة الإقتراع من الموثوق بهم، من ناحية جسدية بيولوجية سيصوت لليمين لاحقا، بينما ستسنح له الفرصة كي يعلن عن أهدافه، أقصد حزبا جديدا، يميز بين اليمين واليسار القديم، ويعرف الناس بأفكار جديدة، لكن حول موضوع السياسة الداخلية لايستطيع أن يميز بين الكثير من الأمور تحديدا، مثل إنسان ساخط على كارثة جوية ومهتم فقط بالوثائق التي تتعلق بالطائرات .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

(2)

 

في نفس العام بدأ إهتمامه أولا ينصب على الشيوعية كحركة ومن ثم السياسة الخارجية، أما النصف الثاني من سنة 1956 فتعتبر أرض النعيم والأحلام بالنسبة لقارئ الصحف ، الإنهيار الإقتصادي في بولندا، فضائح العائلة المالكة، العدوان الفرنسي-الإنجليزي على مصر، التمرد في هنغاريا ، التدخل السوفيتي ، تسلم فيدل  كاسترو سدة الحكم في كوبا، بعد مضي أسابيع قليلة قبل أن تقوم الدنيا وتقعد في تلك البقعة الشجاعة من البحر الكاريبي ، إرتجت هولندا حول دوي تلك الأحداث خصوصا مسألة وجود الدبابات الروسية في بودابست، كما سمع أنطون تفاصيل كثيرة حول تلك الأحداث ، هناك داخل مبنى كبير يعود بناؤه للقرن الثامن عشر يسمى"فليكس ميرتيس" حيث مقر قيادة الحزب الشيوعي ، ظهرت في كل مكان داخل المدينة حشود من الناس عاثوا دمارا في كل ما يتعلق بالشيوعيين من ممتلكات، بدءا من محلات بيع الكتب إلى زجاج المنازل التي يقطنوها، علاوة لذلك تعرضت الصحافة للحدث بكل إسهاب ثم نشرت بعض العناوين الرئيسية التي تثير القارئ، كما حاولت تلك الصحف عبر أسلوب إعلامي غير مباشر نشر عدد من التقارير الموضوعية مفادها بأن منازل هؤلاء بما فيهم قائد الحزب تعتبر ممتلكات شخصية ويجب عدم المساس بها، أما البارحة فقد حدثت أضرار قليلة ، في اليوم التالي وبعد محاولات جهيدة تم السيطرة على زمام الأمور ، إجتمع عددا من الرجال في مقر الحزب الذي يقع في شارع كيزرخراخت وسط أمستردام ، على مدى يومين متتالين دامت 24 ساعة عقدت فيها إجتماعات ساخنة حضرها جمع غفير من الرجال ثم حدثت متغيرات كثيرة في المبنى ، للأسفل كانت جميع النوافذ مغلقة تقريبا بألواح مسمرة جيدا، ولم يكن هنالك الكثير من الزجاج في الطوابق العلوية، على السطح يتم رؤية الرجال من شعورهم أحيانا النساء أيضا ، اللاتي كانت أصواتهن تتعالى إما إستنكارا أو تشجيعا، أما المبنى من الداخل والخارج فقد كان تحت حماية البوليس، مجموعة من رجال الشرطة بهراواتهم المطاطية ومسدساتهم يحاولون التركيز على جمهرة الناس في الزاوية الأخرى من القناة المائية ، لكن يظل هناك مبعث دائم للخطورة ناجم عن الأحجار المتواصلة التي كانت تتطاير عبر الهواء ، أيضا كان الرجال فوق السطح يلقون بعض الأحجار الصغيرة، التي بدورها إصطدمت بالزجاج ثم تناثرت في الداخل، في تلك اللحظة إستخدمت رشاشات الحريق لتفريق جماعات الناس، التي كانت قريبة من المبنى قرب القناة يظهر للعيان زورق شرطة رمادي اللون، حيث تم إنتشال أحد الغرقى .

 

لكن أنطون لم يدع الفضول يتملكه نحو مايجري هنا وهناك، حتى الأحاديث الجانبية كان يتحاشاها، لكنه لم يستطع التخلص من شعوره بالخوف حول مايجري حوله من إضطرابات، بما أن الجو العام يثير الرعب لكنها تبقى في نهاية المطاف مجرد  لعبة أطفال، لكنه في نفس الوقت إكتشف بأن الناس سعداء بما حدث في بودابست وأعتبروه إنتصارا حقيقيا للشيوعية، لكن هاجسه الوحيد كان الجعجعة المستمرة في الشارع الضيق حيث يسكن، كان يقع بالزاوية الخلفية من مبنى بشارع برينسخراخت، حيث تتزايد الإحتمالات لوقوع هجوم مباغت أو ماشابه  ذلك، مثل إستخدام القنابل المسيلة للدموع، مثل "فلاح السمك" كما يقول المثل الشعبي ، لاحقا ذهب لصالة السينما لرؤية فيلم بعنوان" الطابع السابع" ولدى عودته للمنزل ، شغل

موسيقى صاخبة، السيمفونية الثانية للموسيقي "موهلر" لكنه لايفضل سماعها في المساء، في الليلة التالية ذهب للإقامة في أبولو عند خاله حيث الهدوء والسكينة لكنه لايتخيل بأن الضجيج سيتواصل لليوم التالي، توجه في الليلة التالية بعد فراغه من عمله إلى المنزل بعد حلول الليل تقريبا، كانت نوافذ المنازل مضاءة بالشموع التي تحترق بلا هوادة منيرة الأجواء المظلمة، من بين تلك المنازل المتناثرة هنا وهناك على طول الشارع تتراءى له أنصاف أعلام، لكي يتجنب حدوث شيء لدراجته النارية  السكوتر حاول جاهدا توقيفها بالقرب من منزله ثم مشى بإتجاه الشارع .

 

يبدو بأن حالة الهرج والمرج التي كانت سائدة منذ مدة قد إنقشعت وولت، وجد مشقة كبيرة بالوصول إلى باب منزله وسط جمهرة الناس وعندما دخل الرواق كاد الباب أن ينكسر من شدة الإزدحام، فجأة ظهرت سيارات الشرطة، في شارع كيزرخراخت، بصفارات الإنذار، التي تدوي بسرعة حتى تصم الآذان، وسط حشود الناس ، غازات مسيلة للدموع، كوابح ومرة أخرى غازات مسيلة للدموع، فجأة ظهرت مجموعة من الخيول رجال شرط يحملون سيوف مبارزة، دراجات نارية بعربات جانبية، كان هناك أصوات جلبة في أرجاء الرصيف، حاول رجال الشرطة تفريق نصف الحشود الذين كانوا يلقون على الناس أشرطة سوداء طويلة، إنطلق الرعب بين الواجهات، حتى لاحظ أنطون المندهش لما يدور حوله، بأن الأوضاع الثائرة قد هدأت  قليلا، لكن لايزال ينتابه شعور مؤكد بالهياج ، ظلت أصوات الصراخ تسمع في كل مكان، البعض ينزف وآخرين تحت الأقدام، حاول رجال الشرطة السيطرة على زمام الأمور ونشر الأمن وإضفاء جو من السلام على المكان، عند الردهة حيث الباب المؤدي لمحل السمك، طوله عد أمتار تقريبا، هناك لازالت دزينات من الناس تنتظر قرب باب منزله، قبض على المفاتيح بيده لكنه فكر للحظة فيما

إذا حاول فتح الباب ماذا سيحدث ، بومضة عين سيكتظ السلم وجميع الغرف بالناس ولدى مغادرتهم ستختفي مفروشات المنزل برمشة عين،وقف إلى جانبه أحد الأشخاص معطيا ظهره رغم كل مايملكه من سلطة وقوة، لكنه كان وحيدا

 وبطبيعة الحال محصورا في مكان ضيق ، كان يحمل بيده اليمنى حجرا رماديا صغيرا، مجبرا أن يحمله أعلى ذراعه كي يحمي أنفه ولايختنق بسبب نقص الهواء ، وكان لزاما على أنطون الإستدارة جانبا لكن خارج زوايا العين رأى أظافره المتسخة وتأمل جفاف جلده وزيادة سمكه، فجأة ركض الجميع هاربين خارج المدخل، إلتف الرجل حوله ربما ليستعلم عن هوية الرجل الذي كان ملتصقا بظهره كل هذا الوقت. مشى للشارع ثم إستدار راجعا عندما تعرف على هويته ثم توقف.

- مرحبا توني، قال.

- نظر إليه أنطون ساهما، وجه قاسي الملامح ، فجأة تعرف عليه إنه "فيك بلوخ" .

 

 

 

 

 

(3)

 

على مدى دقائق ظل كلا منهما ساهما في وجه الآخر، بينما ظل فيك ماسكا قطعة

 الجلمود في يده، وأنطون قابضا على المفاتيح، لايزال الشغب والإضطراب قائما في الشارع، يبدو بأنه تحول من مركز المدينة إلى شارع برينسخراخت وسط أمستردام.

- تعال للأعلى، قال أنطون.

تردد فيك قليلا، ثم نظر لليسار ولليمين، تمنى لو يودعه بسرعة، لكن يبدو بأنه لن ينجو من هذا اللقاء لاحقا. في حين كان أنطون ينصت لوقع خطى قدميه الثقيلتين على الأرضية الخشب، وجد مشقة كبيرة في تصديق الحقيقة الماثلة أما عينيه ، بأنه أمام فيك بلوخ، لم يدر في خلده بأنه سيلتقي به ذات يوم أو أنه لازال يعيش في هذا العالم، لم يصافح كلا منهما الآخر، لكن ياترى ماذا سيحدث؟! لماذا دعاه بحق السماء. في داخل الغرفة أشعل أنطون الضوء ثم أغلق الستائر.

- ماذا تود أن تشرب؟

- بكل خوف ووجل ترك الحجر على البيانو، الذي حصل عليه في عيد ميلاده، لايتميز بسرعة الأوتار لكن له صوت إذا سمع  سوف يتساقط طلاء الغرفة.

- هل تريد كوبا من البيرة؟

من القنينة التي تركها على الطاولة ليلة البارحة، سكب لنفسه كوبا من نبيذ المحلة كما يطلقون عليه في هولندا، وهو متعب جلس فيك على كرسي مصنوع من اللينين على شكل فراشة عملاقة، أما أنطون فقد جلس على أريكة من طراز "شيسترفيلد" تتميز بوسائد من الريش، في صحتك قال هو ولم يدري ما سيقول بعد ذلك.

- رفع فيك كأسه ثم إحتسى نصفه، بعدذلك مسح بظهر يده بقايا الشراب ونظر إلى خزانة الكتب ولوح السداسية عشر.

- بالتأكيد أنت طالب؟

- هز أنطون رأسه بالإيجاب ، أيضا هو فيك رأسه.

- نهض بميلة من مكانه، باحثا عن المكان المناسب.

- يبدو بأنك لم توفق؟

- ياله من كرسي مزعج؟ قال فيك.

- منتهى التطور، ياأخي، تعال إجلس هنا.

- تبادلا موضع الجلوس كما لو أنه يراه الآن من زاوية أفضل، بينما ظل فيك

يتطلع فيه.

- هل تعلم بأنك لم تتغير مطلقا؟

- هذا ماأسمعه غالبا.

- كما أعتقد بأنك لم تتغير .

أحتاج لبعض الوقت، قال أنطون ، لم أرى أباك منذ زمن بعيد، تناول فيك علبة التبغ من جيبه الداخلي، ثم بدأ يلف سيجارة في حين قدم له أنطون علبة" ييلو دراي" ثم حرك رأسه، كان يبدو متحدثا لبقا مثل أباه لكنه أصغر سنا ونحيلا ، بشكل أو آخر يميل للقصر نوعا ما أي دحداح بالمثل الشعبي، بالإضافة لذلك وجد بأنه من الغباء في تلك اللحظات المبالغة بإضفاء جو من المهابة والوقار  أو يقضي بقية الأمسية في المجاملات فقط. كان يتمنى لو يجذب سماعة الهاتف كي يعترف  لأحدهم عن هوية الشخص الذي إلتقاه منذ قليل ، ويطلب نقله للمستشفى بأقصى سرعة ربما أصيب بشيء ما، كان الجو رطبا وباردا في الغرفة.

- سوف أشعل المدفأة قليلا، قال هو.

قام من مكانه ثم فتح حنفية الزيت، بينما إنهمك فيك بلف سيجارته ثم أغلقها لاحقا لصق كمية التبغ من الأطراف قبل أن يتطاير قم أعاد البقية للعلبة التي كان ممسكا بها بإصبع الوسط والخنصر؟

- ماذا تدرس؟ سأله.

- الطب.

- وأنت، أعمل في محل لبيع وإصلاح الأدوات المنزلية، قال فيك ، بإحترام نظر إليه أنطون ثم سأله: تقصد إصلاحات أو ماشابه ذلك.

- ظل أنطون قرب المدفأة يراقب حركة الزيت.

- في هارلم؟

- هارلم؟ نظر إليه فيك بومضة عين أوربما كان سؤال غير مناسب.

- هل تعتقد بأننا لانزال نعيش في هارلم؟

- كيف لي أن أعرف؟

- هل تعرف بأننا هربنا بسرعة بعد الحرب؟

- نعم أعتقد ذلك، قال أنطون، ثم رفع غطاء المدفأة وترك عود الثقاب يسثط في الداخل.

- أين تعيش حاليا؟

- في دين هيلدر.

كان عود الثقاب في طريقه ثم أشعل الثاني، تركه يسقط كالأول ثم إستدار جانبا.

- هل أتيت إلى أمستردام خصيصا كي تلقي الأحجار؟

- أجل قال فيك ثم نظر إليه ، جنون أليس كذلك؟

وضع أنطون غطاء المدفأة ثم ذهب ليجلس، إذا كان يظن بأنه سيستخدم أسلوبا غير مباشر كي ينهي هذا اللقاء، ربما سيوليه فيك إهتماما، لكن يعوق هذا المفهوم العادي المهيمن عليه، كما لو أن فيك ممنوع من التفكير كي يجد مخرجا

 يسيرا لأسئلته المفاجئة الصعبة.

- هل لازالت أمك على قيد الحياة؟

- أجل ، أجاب بعد مرور ثواني قليلة.

- أجابه فيك كما لو أن هناك أهمية لذلك السؤال، أو كما لو أن أنطون سأله : هل أمك على قيد الحياة أم لا؟ لكن أنطون لايقصد شيئا بسؤاله، لكن عندما أجابه، ربما فهم مايقصد بسؤاله.

- كيف إنتهى بك المطاف في العمل بالأدوات المنزلية؟ سأله أنطون ، هل

 حصلت  على شهادة الليسيه؟

- لنصف عام فقط، أجل.

- ماهو وضعك الآن؟

- وهل يهمك أمري فعلا؟ بيما تناول عود الثقاب ثم أشعل سيجارة تبغ أخرى وسحب نفسا عميقا.

- إذا لكان الأمر ايعنيني ، فلماذا أسأل إذن؟

- بعد نهاية الحرب تم إعتقال أمي وأحتجزت في إحدى المعسكرات، ثم إلتحقت

بمدرسة داخلية كاثوليكية، تدعى مدرسة التقنية الأبرشية، هناك درست في حين

لست كاثوليكيا.

- ماذا فعلت أمك؟

- إسأل رجال العدالة المتميزين، أتصور بأنها كانت واحد من المشتبه بهم، أولا

لأنها كانت متزوجة من أبي، من نغمة صوته ، فهم أنطون بأن هذا ما يردده دائما، بشكل أو آخر يبدو بأن هذا ليس مايفكر فيه حقيقة.

- ماذا حدث بعدذلك؟

بعد مرور ثلاثة أرباع العام تم إطلاق سراحها، ومن ثم إكتشفنا بأن منزلنا سكن من قبل أشخاص آخرين بعد ذلك وجدنا منزلا في دين هيلدر حيث لايعرفنا أحد، هناك إلتحقت بالمدرسة المهنية.

- لماذا لم تعد مرة أخرى إلى مدرسة الليسيه؟

في حقيقة الأمر أنت لاتعلم شيئا ، قال فيك بينما كانت تخرج رائحة دخان نتنة من فمه، ماذا تعتقد في حقيقة الأمر؟ أرغمت أمي للعمل كمنظفة منازل كي توفر لقمة العيش لنا، هل يمكنك أن تتخيل إمرأة ترتدي الوشاح ثم تحمل حقيبة التسوق وتمشي لوحداه منذ الساعة السادسة والنصف صباحا، في حقيبتها فرشاة المكنسة وقطعة قماش لتنظيف الأرض وسوائل التنظيف، ثم تتوجه لعملها اليومي، تأتي إلى المنزل عند المساء، في موعد تناول الطعام تمشي وهي منهكة، الآن ترقد في المستشفى حيث توجد مياه في قدمها اليمنى ثم تغير لونها إلى أصفر مع بقع بنية قاتمة، أما قدمها اليسرى فقد خلعت قبل أسبوعين، إذن هل أنت راضي عما سمعت يادكتور؟

ثم إحتسى بقية كأس البيرة، هذا هو الفرق، أليس كذلك؟ درسنا في نفس الصف وتم إعدام أبويك رميا بالرصاص ودرست الطب  ولكن أبي تمت تصفيته والآن  أنا أصلح سخانات المياه.

- لكن أمك لازالت على قيد الحياة، قال أنطون مباشرة وأيضا شقيقاتك، فكر مليا ثم تعرض أبي للحادث المشؤوم، الذي أودى بحياته ، وماذا بعد ... قال بحذر ألا يوجد فرق بين موت أباك ونهاية أبي؟

- كان أبواي بريئان.

- وأبي أيضا.

قال فيك بدون تردد  بالإجابة ثم نظر لأنطون بتركيز شديد بينما صعق أنطون وظل صامتا، من المحتمل بأنه كان واثقا مما قاله منذ لحظات.

 

- حسنا، قال ذلك بإيماءة ، حسنا ، أعلم جيدا ماسمعته، ولكن إذا كان الإختلاف قائما بيننا، فربما يكون نوع من الظلم الإجتماعي، لكنني لاأفهم ذلك، ثم أشار برأسه إلى الحجر الذي بيده، ثم أشار برأسه للحجر الذي بيده، عندما وضعه على البيانو كان بمثابة إساءة وخيمة له، كان الأحرى بك أن تصبح شيوعيا، أجابه فيك بإحترام ، ثم ترك القطرات الأخيرة من البيرة تنزلق إلى فمه سريعا.

- الشيوعية، قال بهدوء ولكن بنغمة يشوبها الغضب، هل تعتبرها الأسوأ عن بقية الأنظمة الأخرى هل رأيت ماحدث في بودابست، أين مطالب الحرية عندما تتلطخ أيادي الآخرين بدم الشعوب.

- فيك، قال أنطون وهو مثارا، أنا كذلك لست شيوعيا، لكنني لازلت أرى بأنه ليس ضروريا أن أحفظ عناوين الصحف في رأسي.

- أجل ياسيدي الدكتور من الأفضل بطبيعة الحال أن تشرح وجهة نظرك بنفسك في الشارع حتى الموت، ماذا تعتقد هؤلاء المفوضين السياسيين بفاعلين حول مايجري هناك؟مايجري في الممر سوى مذبحة جماعية، أو ربما تظن شيئا آخر؟ هل قرأت صحيفة "البارول" ؟! حول هؤلاء المزعجين الذين برعوا في أفعالهم عبر إستخدام الجنود المنغوليين؟!

- الجنود المنغوليين؟! كرر أنطون، ماذا تعني فيك؟ هل حان الوقت لإعدامهم بالغاز,

- لاياغبي، قال فيك ثم رمش بعينه، حيث ظهر بأن أنطون يبحث عن إجابة مناسبة لسؤاله، لأفهم إلى أين تريد أن تصل بكلامك، لكن ماأستطيع قوله بأن أبي كان

على حق حول كل ماقيل وأثير حول الشيوعيين ، كل ماسمعته الآن هو نفس الكلام، وليس على سبيل المصادفة، بأن الشيوعيين العفنين الذين قاموا بقتله هم نفس الرعاع الذين رأيتهم عند مجرى تصريف مياه الأمطار الوسخة يمشون هناك برؤوسهم العفنة، لايجب أن تدافع عنهم، يجب أن تبحث الموضوع جيدا لمعرفة

 أسراره وخفاياه، كانوا يعلمون بالتأكيد بأن دوريات الشرطة سوف تأتي وتحاصر المكان، وربما أطلقوا عليهما الرصاص أمام منزلكما، لم يكن بوسعهم الرفض أو الإمتناع وإلا كانوا سيخفون جثثهم بلا محالة، لم تنتهي الحرب بالتأكيد في ظروف مستقرة.

إنتفض واقفا ثم ذهب حاملا الكأس بيده إلى الطاولة التي وضع عليها موقد غاز ذو عدة شعلات بدون فرن، كما وضع أنطون قناني البيرة المكسورة في تلك اللحظة رأى بأن المدفأة لم تحترق بعد، ثم إنتفض واقفا ومزق ورقة صغيرة من الصحيفة تركها تسقط على الطبقة اللسوداء اللامعة من الزيت، عندئذ سكب له كوبا آخر من النبيذ بينما ظل فيك واقفا، في حينذلك دوت صراخات وأصوات صفارات الإنذار في الخارج.

- عائلتي، قال هو بينما وضع يده على عنقه، ربما تمت تصفيته بواسطة أصدقاء أبيك وليس من قبل الشيوعيين، هؤلاء الشيوعيين يعرفون ماحدث بالضبط.

- إذن الذنب ذنبهم....

- بالطبع...إذن من يكون قد فعلها؟

فيك قال أنطون أفهم بأنك تريد الدفاع عن أباك، في النهاية هو أباك ولكن إذا كان أبي هو أباك مع كل الشبهات التي كانت تحوم حوله، هل كنت ستدافع عنه؟ دعنا

لانتشبه بالنساء، لقد كان أباك هدفا للشيوعيين ولذلك قتل، لأنه وفق رأيهم، كان لابد من تصفيته، ولكن تم تصفية عائلتي بأسلوب بدائي من قبل الفاشيست، حيث كان أباك ينتمي إليهم، وهذا ماحدث بالضبط، أليس كذلك؟

 

- إستدار  فيك ربع دورة حول نفسه بينمابقي ظهره إلى أنطون ، منكفأ قليلا وبدون أن يتحرك فه أنطون بأن عليه الحذر أثناء الحديث، فوق رف المدفأة تتدلى مرآة عالية ذات إطار مشكل، إشتراها بعشرة خلدن من سوق الكانتو أو سوق اليهود كما يطلق عليه الناس، حتى بدت غرفته أكثر جمالا، عبر الزجاج المتآكل رأى بأن عيني فيك مغلقتان.

 

- لماذا ، سأله أنطون، يجب أن لاتنحاز لأباك، عندما تريد مناقشة بعض الأمور جيدا، تماما مثلما تهوى الحيوانات، لماذا لاتعترف بأن أبي كان مخطئا بالتأكيد لكنه كان أبي وأنا أحبه، لكن اللعنة لم يكن أبي مخطئا، في النهاية ليس كما تظن، ولكن كنت تفهم الآن ما أعننيه، قال أنطون مقابل ظهره، بأنه إرتكب أفعالا مشينة ..تعرف بالتأكيد ماهي...وإذا عرفتها لن تحبه أبدا.

- إستدار فيك حول نفسه، ثم نظر إليه بعد ذلك وأخذ يدور في الغرفة، وهو في

حيرة من أمره.

- خطأ..حطأ..قال لاحقا، أجل يطلقون عليه الآن ألقابا مختلفة، ولكن في الماضي كانوا يظنون بأنه أحد الشيوعيين، هل تستطيع سماع تلك الجلبة في الخارج، قال هو، ولكن ماهو الفرق في الحقيقة بين الجبهه الشرقية و ماحدث مع اليهود ، أنت لاتفهم شيئا ، هذا لم تعرفه مطلقا، ولايجب أن تلقي اللوم عليه لوحده ماذا فعل الألمان، كان يعمل لدى الشرطة ويقوم بواجبه على أكمل وجه، وكما تعلم تورط قبل الحرب بإعتقال الناس من منازلهم، لكنه لم يعي جيدا حينذاك مايدور حوله، بالطبع كان مجرد فاشستي تابع للنظام وحسب، لكنني أعتقد بأنه ليس شريرا، يجب أن يحدث

شيئ آخر في هولندا، يجب أن لايتكرر ماحدث في الماضي تحت قيادة "كولاين" الذي أطلق النارعلى العمال، كان تابعا وغدا مثل بقية الهولنديين ، إذا كان هتلر قد إنتصر بالحرب تصور كم من الهولنديين سيقفون ضده اليوم؟! لاتدعني أضحك يارجل، عندما خسر الحرب إنضموا جميعهم لحركة المقاومة، هؤلاء الجبناء، ثم بدأت المدفأة حيث وضع أنطون كثيرا من الزيت، تخرج لهبا موزونا باهتا ومزعجا، ترك فيك قنينة البيرة تقع على الأرض ثم قال: كان بطريق الخطأ، لكنه تعمد عدم التطرق للموضوع، ممسكا بالكأس بكلتا يديه ذهب للجلوس على أريكة النافذة، ثم سأله: هل تعرف متى إنضم أبي للحزب الشيوعي "إن.بي.إس"  في

سبتمبر عام 1944 بعد ثلاثاء "دولي" الشهير، عندما فقد أبي عمله التجاري ذهب هؤلاء الفاشستيين المزيفيين إلى ألمانيا وإنضم بعضهم لحركة المقاومة، ومن ثم كان

عليه البحث عن عمل يدر رزقا كما أظن، كما كانت أمي تخبرنا دائما وبسبب آرائه حول الشيوعيين ربما قرروا تصفيته وليس هناك من أسباب أخرى وهذا أيضا كلف عائلتك حياتها.

 

وإذا كانوا لم يرتكبوا ذلك الفعل لكان أبويك الآن على قيد الحياة ، ربما كان أبي

سيمكث بعض الوقت في السجن، ثم يعمل لاحقا لدى الشرطة ، إنتفض قائما ثم مشى نحو البيانو حيث شغط بإصبعه الوسط على الأوتار، حتى إختلطت أصوات النغمات بطرقات المدفأة، تخيل أنطون بانها ربما تكون إحدى معزوفات "سترافنسكي" كل كلمة صدرت من فيك سببت له ألما بالرأس ، كيف يدع فيك كل تلك الأكاذيب تعشعش في رأسه؟ هل يأتي من العشق مثلما يلقي عاشق بنفسه من صخرة شديدة الإنحدار.

إذا كان كل ماتقوله حقيقي، قال هو هل تعتقد بأن إسم أباك يجب أن يوضع في النصب التذكاري إلى جانب الآخرين؟

- أية نصب تذكاري تقصد.

- ذلك المقام عند الرصيف.

- هل يوجد في الوقت الحاضر أية نصب تذكاري؟

- منذ مدة كنت في زيارة إلى هارلم وعرجت لزيارته، هناك قرأت إسم أبي وأمي وتسعة وعشرين مختطفا، هل قرأت إسم فيك بلوخ أيضا؟

نظر إليه فيك و تمنى لو لم يتفوه بشيء، لكنه هز رأسه بالنفي ، أخذ فيك ينتحب، كما لو أن الدموع تنهمر من عيني شخص آخر غير فيك، شخص كان مغلقا عينيه.

- اللعنة،، قال فيك...يبدو بأنه لم يصدق للوهلة الأولى الحقائق التي ذكرها أنطون ربما أثارت شجونه، ثم إنهار باكيا، عندما كانت النيران تشتعل في منزلكم تلقينا رسالة بأن أبي قد مات، هل تخيلت يوما ما ،  ماذا سيكون شعورك في مثل تلك اللحظة.!

أتمنى أن تصاب بأذى، وأنت في الحقيقة تتمنى ذلك.

- إستدار نصف دورة حول نفسه ومن ثم تراجع، كان يبدو في عينيه بأنه فاقد الإرادة ، إلتقط الحجر ثم تأمل نفسه ونظر لأنطون الذي كانت ذراعيه في منتصف وجهه ثم صاح:

- فيك!

ألقى فيك الحجر بإتجاه الغرفة، إلى يمين المرآة بينما كان أنطون في حيرة من أمره بنصف وجه غير مألوف على مثل تلك الأمور، نظر إلى زجاج المرآة وهو يتكسر إلى أجزاء متناثرة ثم إستقر الحجر على إطار المدخنة وإستقر في مكانه،  سمع خطوات أقدام فيك السريعة على السلم محاولا الخروج بأقصى سرعة.

بقيت الشريحة الأخيرة من الزجاج  وبعد مرور ثواني قليلة تكسرت إلى شظايا صغيرة، فجأة تطاير غطاء المدفأة من شدة الإنفجار للأعلى مشكلا سحابة من هباب وضع أنطون يده على عنقه ثم قرص أظافره، بعد ذلك أخذ نفسا عميقا، شعر بأنه سيغرق  بوابل من الضحك، المرآة المتكسرة، المدفأة المنفجرة، الصراخ في الشارع، تلك الآلام الشديدة في رأسه هي الأخرى تلاحقه، أخذ ينظر فيما حوله ، أشياء عديمة القيمة، كان الهباب وهي جزئيات سوداء تتطاير في الهواء عند

إشتعال الفحم، إنتشرت في انحاء الغرفة، وكان واثقا بأنه سيقضي ساعات في

التخلص من تلك الفوضى.

 

عندئذ عاود فيك أدراجه، ماشيا على السلم، في تلك اللحظة فهم بأنه لم يغلق الباب بعد، لاإراديا أخذ يبحث عي شيء يحمي به نفسه، ثم سحب مضرب التنس ،بينما ظهر فيك أمام الباب المفتوح ونظر إلى الحطام الذي كان يملأ الغرفة .

- أريد أن أقول لك شيئا، قال فيك، لن أنسى أبدا عندما كنا في الصف.

- أي صف تعني؟

عندما كنت في الصف الدراسي، جلت أنا مرتديا بدلة القرود وهو وصف لشخص يلبس بتأنق زائد عن الحد.

- أوه ياإلهي، قال أنطون وهذا ماحدث أيضا، نظر إليه فيك مترددا، ربما أراد أن

 يودع أنطون قبل أن يفارق المكان، لكنه تسمر في مكانه وذهب مسرعا نحو الأسفل، عندئذ سمع أنطون دوي الباب يغلق بشدة، نظر أنطون فيما حوله، عندئذ

 بدأ لثام دهني بالتشكل حول جميع الأشياء ، على الكتب وآلة السدس وتستخدم لقياس إرتفاع الأجرام السماوية، كانت الأسوأ من بين كل الأشياء، لحسن الحظ كان البيانو مغلقا، أولا يجب عليه تنظيف المكان من بين تلك الفوضى العارمة، وليس وجع الرأس الحاد، وسط كل معالم الهياج الذي إخترقه عنوة، نظر إلى قطع الزجاج المتكسر، كانت تبدو من الخلف سوداء مطفية، بينما إنحشرت بين أطراف المرآة قطع حادة لم تنكسر بعد، لم تبقى سوى ألواح ذات لون بني قاتم، لم يغلفها أبدا بورق صحف، سيلتقطها لاحقا من موضعها، أما التمثالين المذهبين مع صحن الفاكهة وأوراق الشجر المطعمة بالفصوص فلم تطلها قطع الزجاج، يجب أن أتخلص من ذلك الحجر اللعين بدون أن ألقيه في مكان ما، مشى بحذر كي لاينزلق بالبساط الذي إمتلأ بالزجاج المتناثر ، توجه إلى إطار المدخنة وهو إطار زخرفي يبنى حول فتحة النافذة، ماسكا الحجر بيده قرأ سطرا من إحدى قصاصات الصحف ملقاة على الخشب: الثلاثاء 2 لويجلو1854 سولينيزاندوسي، الخاشع لله بومبا نيل أوجستو واقفا عند مذبح الكنيسة يردد ماريا...ماريا، ديل سوكروسو.

مثل تلك الأمور لم يسمع بها من قبل.    

 

 

 

 

 

 

 

الواقعة الرابعة 1966

 

 

(1) 

 

فيما يتعلق بأمور العشق فقد ترك الأمور تسير كما تشتهي السفن ، بين الفينة والأخرى يتعرف على فتيات جدد تقريبا مرة كل شهرين، بين الحين والآخر يحضرن لزيارته ، يجلسن عادة على الأريكة حتى ساعة متأخرة من الليل ، يتحدثن حول أمور مختلفة ويحتسين الشراب ، غالبا يتميزن بركب أقدام جذابة ، مرات عديدة ينشغل بشرح كيفية عمل آلة السدس ، لكن هذا الأمر لايضايقه بشكل أو بآخر مطلقا ، أصبح مسحورا بتلك الآلات النحاسية اللامعة التي تتميز بوجود مرايا ، مقياس مدرج ومنظار صغير ، تلك المعدات بأشكالها المختلفة تساعد على تأمل حركة الأرض والنجوم في الليل بوضوح ، غالبا لايفقهن مثل تلك الأشياء العلمية ، لكن أحاديثه حول العشق والغرام يفهمنها جيدا ، لأنها على مايبدو تنطبق عليهن تماما ، أحيانا تظل الأريكة خالية لعدة أسابيع ، لكن هذا الأمر لايزعجه كثيرا وليس من خصاله مرافقة شخص ما إلى البار .

 

في عام 1959 قدم إمتحانات الطب وحينئذ حصل على وظيفة باحث معيد في قسم التخدير ،

إستأجر طابقا كبيرا مزودا بإضاءة كثيرة في جادة "ليدس"  وسط أمستردام، كل صباح يتريض بضعة كيلومترات متوجها إلى جادة "ويلهملينا هاوس" كان يطلق عليها في زمن الحرب إسم " ويستر خاست هاوس" كانت الشوارع التي تطل على المبنى الواسع تزدحم بسيارات الإسعاف ، المرضى ، الزوار ، الذين يمشون بخطى وتيدة يرتدون بيجامات أسفل معاطفهم الخارجية، بينما يتنقل الأطباء بمعاطفهم البيضاء المتهدلة المفتوحة من مبنى لآخر ، ظهر أنطون ورأسه مائلا

قليلا، ساحبا شعره للخلف ، يجرجر قدميه في الممر ،  أحيانا يثير بحديثه الناعم إنتباه  الممرضات

يمرقن بدراجاتهن صدفة  ، ثم يقبلن للجلوس على الأريكة المخصصة بهن ، في إحدى الكرات كان مضطرا للمرور بموازاة المبنى الخشبي حيث شيد مستشفى للأمراض السارية، تنقل إليه الحالات الخطيرة أو الموتى، أحيانا تكون الأعداد قليلة .

 

إلتقى زوجته الأولى في لندن عام 1960 أثناء قضاءه إجازة أعياد الميلاد يتجول أثناء اليوم في أرجاء المدينة، ليشتري  بعض الملابس من شارع "ريجنت" ويزور أيضا بعض المحلات التي تتميز بلوحات توجيهية قديمة الطراز ، حيث يعرف بعض الأماكن الموسيقية التي تقع خلف المتحف البريطاني ، يزورها عادة في المساء ، عند إقامة بعض الحفلات الموسيقية ، يتدفق العديد من الرجال حيث يرمق قبعاتهم  الكروية  ومظلاتهم المدورة ، أيضا عندما يتناول غداؤه في الحانة ، كانت المشاجب تثبت بالكامل بمعدات باهظة الثمن ، في يوم ماطر تجول في القاعة البيضاء وسط مبنى معماري ضخم جدا حيث تظهر فرقة من الجيش ، كذلك خيول الحراس وهم يرقصون بكثرة مثل طيور داجنة متقلبة غير مفهومة، قرر عند ذلك الولوج للداخل ثم توجه بعد ذلك نحو " ويست مينستر آبي" حيث لم يزر تلك البقعة من قبل .

 

كانت القاعة حينذاك تعج بالسياح الأجانب والناس الذين يخرجون للنزهة أثناء النهار قادمين من المحافظة ، ذات مرة إشترى دليلا إرشاديا صادر بطبعة بنفسجية حمراء يستخدمه الناس عادة في

بريطانيا في كل مكان ، بدءا من الساحة الرئيسية للكنيسة حتى ممر دخول فرقة الكورال ، تشير الخريطة لوجود سبعمئة قبرا للما يسمى بأرض الورد تعود لستة عشر قرنا من الزمان ، حتى إنه أغلق الكتيب،  توجد في كل مكان تقريبا في القاع جدران وأعمدة منحوتة ونصوص في المعابد

الصغيرة وهي مباني ملحقة بالكنيسة تستخدم للصلاة، كما توجد تماثيل ومقابر فخمة ، أثناء العرض الأول للمزاد العلني للأثاث من الدرجة الثانية ، في الممر الضيق بموازاة الجوقة الموسيقية حيث يرقد الموتى خلف بعضهم البعض ، تماما مثلما يتم وضع المرضى أحيانا فوق نقالات الإسعاف في الممر عند غرفة العمليات ، لاحقا في المرمر حيث يرقدون بتوابيتهم الخشبية ، مائلين بأجسادهم للخلف ، تحت تأثير المخدرالنهائي .في تلك اللحظة تخيل ماهية الموقف في يوم الحساب الأصغر ، عندما ينهض الموتى من قبورهم ويتعارفون على بعضهم البعض ، مئات من الأبطال ، النبلاء  والفنانين، هناك النادي الراقي للملكة المتحدة ، حيث تبدو مظاهر الفخامة في المعبد الصغير الذي يقع خلف مذبح الكنيسة العالي ، من بين جمهرة الملوك والملكات يتحرك الناس ببطء ، خصوصا الذين لم يأتوا للإقامة هنا ، عند كرسي التتويج تتوقف حركة مرور الناس بسبب الزحام الشديد .

 

أيضا أصبح مفتونا بالعرش عندما توج كافة السلاطين منذ مطلع القرن الرابع ، خشب البلوط

العتيق ذو الزخرفات البسيطة ، هناك مسند الظهر مشغول بالكامل بالأحرف الأولى ، في القرن

الفريد من نوعه ، لم يكشط أبدا مع شعور حقيقي بعبق التاريخ ، ظل محافظا على الترميمات ، ينتصب أسفل الخشب لوح طيني كبير نقش عليه الحجر الصغير المستدير ، ثم فتح أنطون

الكتيب مجددا ، كان الحجر في الماضي يستخدم كوسادات للرأس ليعقوب الإنجيلي ، وصل إلى

إيرلندا في القرن الثامن قبل الميلاد، عبر مصر وإسبانيا وبعد أربعمئة سنة رحل إلى إسكتلندة وفي نهاية المطاف قرر الإستقرار في بريطانيا حيث يرقد حاليا في تلك البقعة ، كما هي حقيقة

 الملوك التي توجد فقط بالمسرحيات الدرامية لشكسبير ، وتبدو الأساطير التي نسجت حول الحجر حقيقية ومتماثلة .

 

لكن عندما يتظاهر الإيرلنديين حقيقة بأنه تسري في عروقهم دماء ملكية ، سيتأوه الحجر إذا تم تتويجهم فعلا ، ولاشيئ آخر ، إنطلق أنطون بالضحك ثم قال بصوت عالي : هكذا إذن...في تلك اللحظة كانت تقف بالقرب منه إمرأة يافعة ، سألته: ماذا إذن ؟

-  نظر إليها ، وفي تلك اللحظة قرر كل شيء .

-  كانت تلك هي نظرتها، ومضة في عينيها وشعرها ، سمينة ، متمردة ، ذات شعر محمر ،

تدعى "ساسكيا دي خراف" ، كانت تعمل مضيفة في وكال الطيران الدولية "كا.إل.إم" الشهيرة وبعد أن قررا زيارة ركن الشعر ، إرتأت توديعه ، عليها أن تجلب أباها من أحد النوادي التي تقع في شارع جيمس البريطاني الشهير، حيث يذهب كل عام إلى الملاهي المتنقلة في لندن ومن ثم زيارة أصدقائه القدامى من زمن الحرب ، في إحدى الكرات عندما وصلت ساسكيا لإحدى

البنايات ، أنهت بعض المواعيد في أمستردام ، ظهر أحد الجنرالات ماشيا فوق السلالم ، ثم توقف في سيارة كانت تنتظره في الخارج مع سائق عسكري .

 

بعد أسبوع لاحق بمدينة دنهاخ ، كان اللقاء الأول مع السيد "دي خراف" في صالة الجلوس بفندق دي  إنديس ، أبلغ أنطون أسرتها بحذر  بأن أباه كان يشغل في السابق وظيفة سكرتير عام للمحافظ بمدينة هارلم ، لكن أبويه توفيا منذ زمن بعيد ، تحديدا بعد مرور نصف عام ، في ظهيرة يوم قائظ شديد الحرارة أخبر الآنسة دي خراف عن تاريخ أسرته ، حيث كان حماه القادم يعمل سفيرا هناك ، بعد أن سمع ماقاله أنطون صمت ثم حدق عبرالظلال القادمة من الغرفة الجحيم ، حديقة معطرة متدلية بكاملها بأسراب الجراد حيث توجد نافورة صغيرة تحدث حفيفا عموديا ، أقبل للشرفة أحد المساعدين مرتديا معطفا مجعدا حاملا

مكعبات الثلج ، حيث كانت ساسكيا وأمها تجلسان هناك ، بين أشجار السرو والصنوبر يتم رؤية

الآكريبوليس أو المسرح اليوناني من علىبعد ، حتى الأخيار في هذا العالم يحملون بعض الشر

ولكن تبقى هناك أمور أخرى خافية .

 

شارك والد ساسكيا إبان الحرب العالمية الثانية في الهيئة العليا لمنظمات المقاومة ، ومن

خلال تلك الوظيفة ساند الإتصال المباشر مع الحكومة بلندن ، علاوة على ذلك لم يكن متحدثا لبقا في تلك الحقبة ، رغم ما عرفه أنطون وما سمعه من ساسكيا ، ظلت هناك بعض التفاصيل الخافية لم يطلع عليها ،لكن على أية حال لم تكن لديه رغبة في معرفة المزيد، ربما كان

يتوجب عليه الإطلاع على تحقيقات هيئة الإستجواب البرلمانية لكنه لم يفعل ذلك .

 

تزوجا بعد مرور عام على لقائها الأول ، لسوء الحظ لم يتمكن خاله من حضور حفل زفافهما

لأنه قضى نحبه إثر حادث مروري مثير للسخرية وضع نهاية لحياته ، بعد مرور فترة وجيزة على زواجهما حصل أنطون على وظيفة ثابتة وبمساعدة مالية من زوجته تمكن من شراء نصف

المنزل في ضاحية تقع خلف مبنى الحفلات .

 

 

 

 

 

 

(2)

 

في مطلع يناير 1966 أثناء موجة الحرارة الشديدة ، كان من المفترض أن تذهب ساسكيا

لحضور جنازة أحد الأصدقاء من ناحية أبيها ، وهو صحفي مشهور كان يعرفه إبان  ،  سألت أنطون فيما إذا كان يود مرافقتها ، وعندئذ حصل على إجازة ليوم واحد كان يرغب بإصطحاب إبنته ساندرا التي بلغت عامها الرابع.

-  هل من الداعي أن تقوم بذلك أنطون؟ سألته ساسكيا ، الموت لايعني شيئا للأطفال.

-  مثل شعبي سخيف لم أسمع فيه إلا نادرا ، قال هو .

كانت لهجتها تبدو حادة على غير المعتاد ، إعتذر منها وطبع قبلة على وجنتيها ، ثم قررا سويا

الذهاب للشاطئ بعد الجنازة .

كان حماه الذي يبدو كبيرا بالسن مثل قرن ، قد تقاعد مؤخرا ويعيش في منزل ريفي في إقليم

خيلدرلاند الهولندي ، مشهور بالطبيعة والغابات ، كان من المفترض أن يصل بسيارة .إتصلت ساسكيا به وسألته فيما إذا كان يود جلبهما ، كي يكون بمقدورهم إحتساء كوب من القهوة ،لكنه آثر البقاء في المنزل الريفي، كذلك لم يرهما أثناء زيارته الأخيرة لأمستردام ، ظن بأنهما ربما قد تعرضا

للهجوم من قبل المستفزين وهم شباب الستينات الذين ثاروا على النظام والسلطة.، إبتسم ساخرا عندما إعترف لهما بذلك ذات مرة ، على الرغم من

التحديات الكثيرة التي تواجهه يزورهما بين الحين والآخر .

 

إقيمت الجنازة في قرية شمال أمستردام ، أوقف سيارتهما عند الحافة ثم تمشيا وهما يتعرقان

في ملابس الحداد الداكنة في طريقهما إلى الكنيسة الصغيرة ، أما ساندرا فقد كانت مثارة وهي باللون الأبيض وتعاني من مشاكل مع أشعة الشمس، كان الإزدحام في ميدان القرية على أشده ، بدءا من الرجال والنساء إلى كبار السن الذين يعرفون بعضهم البعض جيدا ، عادة أثناء العناق الوفير

يتبادلون التحيات ، كان هناك العديد من المصورين ، من خارج سيارة سوداء من طراز كاديلاك وقف أحد الوزراء، يبدو بأنه نفس الشخص الذي يظهر في نشرات الأخبار بالأيام الأخيرة

وإرتبط أسمه بأحداث الشغب الأخيرة بأمستردام ، أيضا تم الترحيب به بالقبل والضرب على ذراعيه .

-  كل هؤلاء الناس ، حاربوا الألمان ، قال أنطون لإبنته .

-  في زمن الحرب ، قالت بوجه شاحب ، كانت تبدو متحمسة تماما للموضوع ، ثم قررت

تغيير موضع رأس دميتها لجهه اليمين .

 

-  يعتلج في صدره شعور متواصل من التهيج ، قام أنطون بتقبيل الجميع ، على الرغم من أنه

لايعرف أحد ، في حين ذلك تولت ساسكيا الترحيب بالبعض ، رغم أنها تجهل البعض منهم ، في الكنيسة البروتستانتية الجرداء، حيث كان يتم العزف على الأرغن ، ذهبا للجلوس في الصف الفارغ، عندئذ تم حمل التابوت للداخل ، في تلك اللحظة وقف الجميع ثم أرخى أنطون ذراعه على كتفي ساندرا ، وهي تصفر سألت أبيها فيما إذا كان الشخص الجالس هناك مخمورا ،

مشت الأرملة وذراعها بذراع السيد دي جراف ، مكروبة بطبيعة الحال تنظر للناس برأس مرفوعة ، أحيانا بإيماءة وإبتسامة خافتة .

-  جدي ، نادت ساندرا بصوت مرتفع .

-  إلتف برأسه نحوها ثم غمزها بعينه، ذهبا للجلوس في المقدمة إلى جانب الوزير ، أيضا رأى أنطون عمدة أمستردام ، تولى شخص مهم يتمتع بسمعة شهيرة إلقاء خطاب الميت، يبدو بأنه

قضى سنوات طويلة في معسكر الإعتقال، بشقاوة الأطفال ضحكت ساندرا على نبرات صوته ، ثم نظرت صوب أبيها ، كان عظيم الشأن حتى بدا على الرغم من موهبته البلاغية غير قادر على نطق الحروف بصورة  صحيحة ، تماما مثل ديموتنيس وكان رجل دولة يوناني وخطيبا بالغا، ظهر وكأنه تدرب وفمه مملوء بالحصي ، في تلك اللحظة كان أنطون يستمع من غير تركيز ، في حين

ذلك تعرف إلى مقطع جانبي لإمرأة كانت تجلس في الزاوية الأخرى من الممر الأوسط، تحديدا

صفين للأمام ،بشكل أو آخر كان يفكر بالسيف المنحني، الذي غرس من طرفه المدبب في العشب ، كم هو حاد ، بشعها القاتم تبدو في الخامسة والأربعين ، على الرغم من الشعر المنسدل الذي ذاقت به ذرعا ، ظهرت شعيرات بيضاء في بعض الأجزاء.

 

في النهاية توجه الجمع الغفير إلى المقبرة التي تقع خلف الكنيسة، خلال جولة قصيرة في

الطريق ومن ثم بإتجاه ممر مبلط بالحصي، إنشغل الجميع بالحديث ، ثم لوحوا بأيديهم مودعين

بينما مشى البعض الآخر مسرعا للأمام والخلف . كان يبدو جمعا للشمل أكثر منه جنازة .

-  عاد الجميع إلى منازلهم مجددا ، قالت ساسكيا .

-  إذا لم يعلموا  بوصولهم ربما كانوا في تلك اللحظة هنا معنا .

-  من هم .

-  الألمان بطبيعة الحال .

-  تعقب المصورين الوجوه المألوفة لهم مجددا ، بينما وقف عدد من القرويين عند الزاوية

الأخرى ، يحدقون بهم ، للوهلة الأولى يبدو بأن الجميع متفهمين لمكانة الرجل الذي عاش بينهم

طيلة السنوات الماضية ، مجموعة من الشباب  بدرجاتهم البخارية ينظرون بوجوه ساخرة للجمع

 

 

 

 

   

 

 

 

الغفير يبدو جليا بأن شيئا ما يلفت الأنظار في هؤلاء الرجال والنسوة، يتعثر في مشيته حتى قال

بعضهم، إلتزموا الهدوء .

-  بابا.

-  نعم.

-  ماهي الحرب؟

-  مشكلة كبيرة ، عندما تنوي مجموعة قطع رؤوس المجموعة الأخرى .

-  إلى حد ما . أدنى من ذلك ، قالت ساسكيا .

-  هل تظنين ذلك ، سألها أنطون ساخرا .

شكل الدجميع حلقة مغلقة حول القبر ، كي لاترى عائلة ستينفايك شيئا ، بدأت ساندرا بالتبرم

ثم جذبتها ساسكيا من يدها وأخذت بالتجوال .

سمع أنطون من الخلف ساسكيا وهي تقرأ بصوت مسموع للآخرين لإبنتها ساندرا كلمات ظل

محفورة بالذاكرة ، في تلك اللحظة رفع وجهه إلى الشمس الحارقة ، حتى لصقت ملابسه بجسده،

بدوره تجاهل الموقف الآني ، عندذلك بدأت الأرملة قراءة كلمتها وسرعان ماخفتت الأحاديث

الهادئة في الصفوف الخلفية على الفور، لكنه بدا ضائعا في أجواء ذلك اليوم الصيفي الحار

الطيور المحلقة في الأراضي الشاسعة المستصلحة من البحر ، أشبه بعين كبيرة تنظر إلى

الفردوس .

 

عندما ذهب الجمع الغفير إلى مقر القس الكاثوليكي، في نهاية الطابور سنحت لهما الفرصة

لتعزية الأرملة ، ذهبا إلى السيارات التي كانت متأهبة للإنطلاق بإتجاه المقهى بالزاوية الأخرى.

أما الطاولات التي رصت في الخارج فقد شغرت من قبل القرويين ، في الداخل كان الزحام على

أشده ، حيث التدافع قرب دولاب منخفض يوجد به عدد من الصنابير مخصصة لتعبئة المشروبات الغازية والبيرة ، إتزلقت الطاولات ببعضها البعض وفكت أربطة العنق ، سحبت

المعاطف وتم مناداة الجميع لشرب البيرة والقهوة وتناول وجبة مكونة من الخبز والبيض المقلي مع اللحم ، أما الفوتوغراف الآلي فقد كان يعزف أغنية "غرباء في الليل" ، أيضا ولج الوزير

إلى الداخل ، كان يتحدث مع المحافظ بينما كان يخربش على الجانب الخلفي من علبة السجائر

كان هناك العديد من الكتاب المشاهير وأحد المستفزين سيئ السمعة ، من ثم إقترحت عليه ساسكيا الذهاب لمكان آخر ، ولج أباها

للداخل ، بصحبة رجل أو سبعة حيث تعرف أنطون على بعض الوجوه ، ذهب عند طاولة كبيرة بالخلف ، ربما حجزت مسبقا من الواضح بأن زوجته ذهبت مع الأرملة والعائلة لبيت الحداد

عندما رأت أنطون وإبنتها غمزت بعينيها ثم مضت، جلس أنطون قرب طاولة فخمة ، سرعان

ذلك بدأ الجميع بالحديث حول ثلاثة مواضيع في آن واحد ، بينما لعب هو دور المدافع ، دون أن

يكلفه ذلك التخلي عن روح الدعابة التي يتمتع بها ، علامة مميزة لشخص يحتل منصب القائد ظهر رجل بخصلة شعر شقراء ، كذلك رموش شقراوين إنحنى للأمام ثم قال بأنه حقيقة رجعي ، كيف واتته تلك الفكرة في رأسه : مقارنة جبهة تحرير فيتنام بالنازيين ، ماعدا أن الأميركان

لايزالون هم نفس الأميركان ، لكنهم كانوا أميركان الذين تغيروا ويجب مقارنتهم الآن بالنازيين

إتكأ دي خراف مبتسما ، مائلا بجسمه للخلف بينما إحتوى بكلتا يديه وذراعيه الممتدتان عند حافة الطاولة ، كي يتمكن الرجال الجالسين لليمين واليسار بإتجاهه من الإرتكاز للخلف ، بشعره الأبيض الناعم وملامح الوجه التي تنم عن النبوغ ، جلس كرئيس مجلس المفوضين .

-  عزيزي الشجاع ياب ، ظهر أرفع منزلة لكن إنجذب للفور لحصافته وقدرته على الإقناع.

-  نعم ، هل تريد إقناعي بأنني قد نسيت بأن الأميركان حررونا .

-  هذا ما كنت أنوي قوله بالضبط.

-  لأنني لست متأكدا تماما ، على أية حال لم أنسى ، أنت فعلا من نسيت .

-  ماهو بنظرك المسموح فيه؟ قال خراف ساخرا .

-  ما أود قوله بالضبط، بأن الروس تولوا تحريرنا ، بالفعل لم نلمس مظاهر ذلك في الشوارع ، بأنهم هزموا الجيش الألماني بالفعل ، لكن الروس قاموا بذلك ، الآن هم في فيتنام يرابطون في المكان الصحيح .

-  ببرود واضح في صوته قال الرجل الذي يجلس للخلف من صوب الذراع اليسرى للسيد

خراف : 

-  لو نترك مثل تلك الترهات لأناس آخرين .

-  أليس كذلك، قال ياب .. الروس متكافئين ، لكن الأميركان تحولوا لقتلة للشعوب ، كان الرجل

الئي يجلس خلف الذراع اليسرى للسيد خراف يتميز بضحكة رسمية أسفل شاربه الأسود، حيث إتضح بأنه متفق بالرأي مع السيد ياب ، لكنه مشغول في تلك اللحظة بعراك عديم الجدوى،

كلهم شيوعيين قذرين ، قال خراف ذلك وهو راضيا بإتجاه أنطون، رائع يا شياب .

 

بادله أنطون الضحكة ، من الواضح بأن النقاش كان مجرد لعبة ، ولطالما لعب هؤلاء مرارا

وتكرارا.

-  أجل..أجل ..قال ياب ، رائع ياشباب ، لكن منذ عام أربعة وأربعين ياخيريت، لكنك لم تقصد بكلامك بأنك ضد هؤلاء الأوغاد تماما، ولازلت ضد هؤلاء الشباب الرائعين .

-  كان أنطون واثقا ، بأن حماه لايدعى خيريت ولكن "جود فريد ليوبولد بيرمو" من الواضح بأن

حديث الرجال في تلك الجلسة لازال يحمل إسما مستعارا على أساس إكتساب صفة عدم الشرعية ،

أيضا ياب في حقيقة الأمر لايدعى ياب .

 

-  أجل  ماذا تنوي أن تقول؟هزم الأوغاد أليس كذلك؟

-نظر إلى ياب بنية سليمة هل يجب علينا إستبدال الإستبداد بشيء آخر ؟

-  بدأت إبتسامته تتلاشى تدريجيا.

-  القضية ، قال ياب .

-  تذكر أنت ، من الأفضل أن تكون ممتنا لنا ، إذا كنت في الخامسة والأربعين، لن تفصل

من عضوية حزب سياسي كما يحدث الآن، ولكن سيتم وضعك مقابل الحائط ، بالتأكيد في مركزك الحالي، تماما مثل "سلانسكاي" ، بينما أجلس أنا في براغ ، في الحالة يجب تكون ممتنا

في تلك الحالة لسلطة الجيش، أثناء ذلك صمت ياب، من الأفضل دائما أن تكون قائدا في نادي

كرة قدم على أن تكون كومة سماد في التاريخ، أو أن تموت ، ماهو رأيك؟

 

كان الرجل الضخم الجثة الذي يجلس في الزاوية الأخرى للسيد دي خراف ، شاعرا معروفا

مع وجود إنطباع شيطاني في عينيه المنحرفتان، رقع ذراعيه ثم بدأ يضحك .

- حسب علمي سوف يتحول إلى نقاش ممتع.

-  أوه..أجل قال ياب ثم شد ذراعيه للأعلى، أعتقد ببساطة بأنه سينجح بنفس الأسلوب .

-  هل تعرف قوانين سيورد؟ سألهم دي خراف ، رافعا إصبع السبابة ، ثم قرأ الأبيات الشعرية

التالية: 

الشعب الذي يخضع للمستبدين

سوف يخسر أكثر من الجسد والممتلكات

إذن سوف ينطفأ الضوء

 

هل كانت تلك الأبيات الشعرية غير مناسبة لك، قال الرجل بشارب ، حان الآن وقت الدفاع عن

قاذفات القنابل التي ألقيت على القرى، لكن الأفضل هي قارة آسيا، في الحقيقة إبان العلاقات

الأندونيسية ، بالتأكيد سوف تلعب دورا غريبا، مثلا تهزم الهند! أو تولد كارثة سريعة وهكذا تواليك ، وفق رأي يعتبر مقطعا شعريا رديئا، لكن يجب أن نسأله هو.

-  سطر عديم الأهمية ، قال الشاعر : بالتأكيد سمعت عن الإجراءات البوليسية، هي نفسها التي

كلفت سيورد عاما كاملا من حياته،بينما لم تمضي الأمور مطلقا على منوال حسن، منذ فقدنا الهند

بفضل خطة مارشال، عزيزي هانك، قال دي خراف بصوت معسول: أما الأميركان ، فهل تعرف عنهم شيئا ؟

بالنسبة لي لازالوا مذنبين، لأننا هناك لسنا مجبرين على تقديم الشكر لهم، أما الإنقلاب الأميركي فقد تم تمويله بواسطة أموال أصحاب بنوك أمستردام، هكذا إذن كان تمردا في مستعمرة بريطانية،

عزيزي خيريت.

-  كانت تلك خطة مارشال، في الحقيقة سوف ندفع مجددا لآخر سنت، بينما أشك فيما إذا كنا

قد رأينا سنتا واحدا من تلك الأموال منذ القرن الثامن عشر وحتى الآن .

-  إذن حاول مراجعة رأيك ، قال دي خراف .

-  أنا لست شيوعيا، أنا معادي للفاشستية، لكن لأن الشيوعية أكبر عدو للفاشستية، فأنا ضد

الشيوعية ، هكذا إذن .

-  هل تعرف لماذا يقف في خط المعارضة؟ فجأة سأله ياب ، بينما إنتفض للأمام ، هل تعرف

لماذا فعل كل ذلك؟ من أجل الأميرات ، متحدثا بنغمة كما لو أنه يتقيأ.

-  بالتأكيد ، قال دي حراف بإبتسامة عريضة تنم عن إعجاب بالنفس .

-  فاشستي بذئ ، هذا هو أنت ولاشيئ آخر .

-  أخواتي ، سوف أذهب للخارج ..هنا لاأشعر بشهية مفتوحة ، قالت ساسكيا ذلك ثم وقفت،

إلى اللقاء .

بينما ضحك ديخراف ، لقب شريف، لقب شريف، صاح ثم وقف أنطون، في الممر رأى مجددا في غضون لحظة نفس المرأة التي رآها في الكنيسة جالسة وهي تتطلع فيما حولها بينما جلس

حماه في غضون ذلك يضحك بصوت عال، يبدو بأنه تعايش أخيرا مع الموقف الآني ، حيث

شعر ببعض المرح.

-  أنتم ماذا تعرفون عن السر السحري للملكية، هلل بشقاوة، ماهو الأجمل والراقي بالنسبة للروح أكثر من قصر "سوست دايك" في المساء ؟ كل النوافذ تبدو مضاءة، سيارات الليموزين

السوداء التي يقودها سائق من ...وإلى ، تشريفات تدوي في أرجاء المنطقة الزراعية. سادة

يرتدون بدلات الحفلات وفراء السمور اللامع، سيدات طويلات يرتدين مجوهرات متوهجة،

يدسن بأقدامهن على الأرض ثم يعرجن على السلالم متجهات إلى الشرفة، يتم الترحيب بهن من

قبل ضابط شاب ذكي من البحرية ، يوجد في الداخل شمعدان على شكل تاج مقلوب متلألئ،

مجموعة من الخدم بأزيائهم الخاصة يحملون صواني فضية مليئة بأكواب الشمبانيا مصنوعة من

الكريستال، الآن وبعد كل مارأى ربما سيحصل على إبتسامة من العائلة المالكة، طريق بعيد،

خلف الأسوار في رذاذ المطر ، عندما تراقبك المخابرات، ذلك الشعب الجلف ،

 أنت تعني بذلك...اللعنة! قال الشاعر فجأة ، حسب رأينا كان نقاشا مثمرا ، عيسى المسيح!

إذا كنت معتوها مثلك، سوف لن أحصل مجددا على رسالة ورقية، كان اللعاب يسيل من فمه،  حتى كاد أن يصل إلى القميص الأزرق القاتم للسيد دي خراف ، ليس بعيدا عن النوط الكبير رفيع المستوى

المعلق في عروة فتحة الأزرار.

 

- لكن ماذا سيكون رأي الخبراء المهمين حول خطاب الوطن، قال السيد خراف.

- لن أتركك يارجل تتأوه، قال هينك للشاعر الغاضب.

بينما جذب السيد خراف منديل الصدر قليلا من جيب السترة للزينة قليلا، كي يظهر للخارج، ثم أخفى الجرس الأبيض الصغير ، يغرز ياقته الرمادية غالبا بالزر الأيمن نحو الأمام، كي تختفي على شكل قوس أنيق داخل الصدرية ، أيضا ياب عليه أن يضحك، أما الرجل الذي كان يجلس في الزاوية الأخرى من الشاعر ، فهو ناشر ذائع الصيت ، حك يديه بقوة ثم قال مبتهجا: ظهيرة

لاهبة.

-  شعب مكفهر، قال هانك.

إلتف أنطون نحوهم ثم قال بأن الدفء الذي كان يشعر فيه طيلة الوقت في رقبته ناشئ من

العجز الكالفيني المتزمت للوزير، يبدو بأن هذا الأخير قد سمع ماقاله أنطون.

-  ربما كان من أفضل المخلوقات، قال هو.

-  وماذا بعد!

-  سوف أحتسي كوبا من الشراب؟

رفع كأس الجينيفر وهو مشروب كحولي هولندي، ثم تبادل النظرات مع ديخراف وإلتف نحوهم

فجأة غاص الجميع في سكون عند الطاولة، بإستثناء الرجلين اللذين يجلسان يسار أنطون يتحدثان بصوت هادئ مع بعضهما، كما كان يفعلان منذ مطلع الأمسية . في تلك اللحظة نطق أنطون

بالعبارة التالي: سوف أطلق الرصاص أولا على ظهره، بعدذلك مرة في ذراعه وفي بطنه ،

حينذلك أمر بدراجتي بالقرب منه .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

(3)

 

طريق بعيدا جدا في نفق الماضي حيث دوى صوت ستة قنابل ، الأولى الثانية، ثم تلاه أنين وواحدة

أخرى ، كانت أمه تنظر إلى أبيه، بينما ينظر هذا الأخير بين الأبواب ، رفع بيتر مرتديا معطفه

مصباح الكاربد، إلتف أنطون برأسه إلى الرجل الذي كان جالسا بقربه طيلة الوقت، وقبل أن

يشير إليه سأله: هل إنطلقت الرصاصة الرابعة والخامسة؟ والسادسة؟

-   بنظرة عين متلاطمة نظر الرجل الآخر نحوه، ماذا تعرف حول ذلك.

-  هل تقصد بلوخ؟ فيك بلوخ ، ماجرى في هارلم؟

-  إنقضت بضعة ثواني قبل أن يسأله الرجل الآخر ببطء: من أنت ؟ كم هو عمرك؟

-  أعيش هناك ، لقد وقع الحادث أمام منزلنا، أريد القول....

-  لصالحكم ، ثم إشتعل غضبا .

لقد أدرك للفور مايقصد هذا الأخير، لكن فقط على طاولة العمليات كان يرى أنطون بسرعة لون الشخص

حينما يتغير مثلما هو الحال مع جاره، له وجه أحمر مبقع منتفخ، كأنه شخص يحتسي الكحول

بإفراط، كما لو أن الإضاءة تغيرت، بعد مرور ثواني قليلة أصبح شاحبا ومبقعا، مثل العاج العتيق

ثم بدأ أنطون يرتعش قليلا.

-  أوه..أوه قال الرجل الذي يجلس على بعد كرسيين ؟

-  خطأ..خطأ

-  يبدو بأن جميع الجالسين عند الطاولة قد لاحظوا بأن الأمور تسير على منوال جيد، حتى هو

أصبح أكثر هدوءا، علىالفور حل الهرج والمرج في المجلس ثم أخذوا يتحدثون فيما بعضهم، بينما وقف البعض الآخر  هلل دي خراف قائلا بأن زوج إبنته يريد أن يصلح بين الرجلين، لكن الآخر قال بأن عليه  حل المشكلة بنفسه، عندئذ إتجه نحو أنطون كما لو أنه ينوي العراك

قائلا:  تعال معي للداخل جذب معطفه من مسند ظهر الكرسي، ماسكا يد أنطون ثم جذبه من بين

الناس خلفه مثل طفل صغير، شعر أنطون أيضا بيد دافئة لذلك الرجل، يبدو أكبر منه بعشرين

عاما الذي جذبه نحو ذلك الرجل لم يشعر به مع خاله من قبل، كما أن هذا الرجل الذي سحب يده

مثل أبيه، بعيدا من هنا توجها سوية إلى الكافية ، لم يستوعب أحد مايدور في الساحة ثم سرعان ما إنخرط الجميع بالضحك، كان صندوق الفونوغراف يصدح بغنية لفرقة البيتلز مطلعها:

**  كانت ليلة قاسية.

فجأة عم السكون الأرجاء، كان الميدان يومض في الشمس ، تقف هنا وهناك جماعات من الناس ولكن ساسكيا وساندرا لم تشاهدا في مكان ما.

-  تعال، قال الرجل بعد أن نظر فيما حوله .

توقفا عن المجادلة ثم وصلا مرة أخرى قرب سياج من الحديد عند حديقة الكنيسة، محاطة بمقبرة مفتوحة تتناثر من حولها باقات الورد التي تركها القرويين، إطلعا على بعض الكتب فوق الأشرطة الملونة والكارتات عند الممرات وحول القبور الأخرى ، يتقافز الدجاج في الحظيرة المتخمة الأطراف ، ظل الرجل واقفا عند أحد الأرائك الخشبية ، أسفل ظل شجرة بلوط ثم بسط يديه للخارج .

- إسمي كور تيكس، قال هو وأنت ستينفايك.

- أنطون ستينفايك.

بالنسبة لهم أنا مجرد رهينة، قال ذلك بحركة من رأسه ثم ذهبا للجلوس في المقهى بينما جلس أنطون بالقرب منه، لم يتمنى زج نفسه في مثل ذلك الموقف ، قال مابجعبته من كلام على الرغم من ردة الفعل على نفسه ، مثل العصب إستجاب  لنقرة خفيفة لوتر القوس الذي يجذب بشدة للخلف ، بينما تناول تيكس  عددا من السجائر من العلبة، جذب نصف سيجارة للخارج ثم مسكها، في حين حرك أنطون رأسه إلتف نحوه ثم قال له: إسمع دعنا نقف ونغادر ذلك المكان ولن نعود إليه أبدا، لايوجد شيئ نجد له حلا ، على الرغم من مرور عشرين عاما لدى الآن زوجة وطفل ووظيفة محترمة كل شيء يسير على منوال حسن، لكن ماعلي فعله الآن هو إغلاق فمي ، وضع تيكس سيجارة في فمه ثم سحب نفسا عميقا ونظر إليه مقتضب الوجه لكنك لم تغلق فمك ، وبعد وقفة قال: هذا ماحدث أيضا الآن، بالضبط عند الجملة الثانية عبر نحوه دخان مصحوبا بالكلمات .

- هز أنطون رأسه .

- هذا صحيح، قال هو  .

لايمكن أن يتملص من عينيه البنيتين الداكنتين والحزينتين اللتين كانتا تنظران إليه ، العين اليسرى تبدو مختلفة عن العين اليمنى ، ومقلة العين كثيفة ، أما الجفن فقد كان غليطا ، تغلغلت لمحة من عينينه لايستطيع مقاومتها ، تيكس في الخمسين من عمره، لكن شعره الأشقر الداكن المسدل في الزوايا الأربعة حول إذنيه كان رماديا بعض الشيء ، توجد أسفل إبطيه بقع عرق كبيرة ، هناك حيث يجلس الرجل الذي قتل بلوخ في

تلك الليلة من شتاء الجوع ، شتاء عامي 1944 و 1945 ، هبط عليه الآن مثل شبح .

- لقد إعترفت بشيء لاتود سماعه ، قال تيكس ، لكنك على أي حال سمعته، عندئذ

قلت شيئا لاتنوي سماعه، الآن تلك هي الحقيقة ولذلك نجلس معا الآن. أعلم أنك كنت

حاضرا ، كم كات عمرك حينذالك؟

- في الثانية عشر.

- هل تعرفت عليه، ذلك الوغد؟

- رأيته بمفرده، قال أنطون ، بينما مصطلح الوغد يقصد بلوخ كان يطنطن في أذنيه بشكل غريب ومؤكد. 

- نعم، من الطبيعي جدا ، كان يأتي بالقرب منكم أحيانا ، وأنا كنت أدرس مع إبنه في نفس الصف، بينما قال هو ، لم يفكر بالشاب الذي يعرفه من الماضي ولكن الشاب الذي ألقى حجرا على مرآته قبل عشر سنوات خلت .

- هل يدعى أيضا فيك؟

- أجل .

- لديه في الحقيقة إبنتان، كانت الإبنة الصغرى في ذلك الحين بالعاشرة من عمرها ,

- بالضبط أكبر من إبنتي الآن .

- كما ترى ...إذن تلك ليست ظروفا يسيرة .

أصبح أنطون ممسوسا بشيى أشبه برعشة خطيرة، شعر بالقرب منه بشيء غريرى قاسي الملامح،

 لاأحد يعرفه أو ربما بسبب الرجل ذو الجروح أسفل نتوء الخد، يجب أن يعترف الآن؟ لكنه لم

يفعل ذلك، لايريد أن يوقظ فيه الإحساس بأنه سيهاجمه ، إضافة  إلى أن تيك سمع عن تلك الأخبار ، يبدو جليا بأنه يجلس قرب أحد ، ألقى ذلك النوع من التخمينات خلف ظهره منذ زمن بعيد .

- هل أقول لك شيئا ، أي نوع من البشر كان بلوخ؟

- ليس من الضروري أن تخبرني بذلك؟

بالنسبة لي مهم جدا ، له كرباج بعقدة معدنية وضفائر ، حيث يضرب جلد بشرتك وعلى مؤخرتك العارية ويلكزك أسفل ظهرك مقابل المدفأة المتوهجة، ثم يدخل خرطوم الحديقة في مقعدك ويتركه يرش في الداخل حتى تتقيأ البراز للخارج .

أعرف كم من البشر قضى على حياتهم وربما أبعد من ذلك طاردهم حتى الموت في ألمانيا وبولندا، حسنا: إذن يجب التخلص منه، هل أنت متفق معي على ذلك؟ عندئذ صمت أنطون: نعم أو نعم؟

- أجل، قال أنطون.

- حسنا، لكن من الناحية الأخرى نحن نعلم بطبيعة الحال، بأن بعض الدوريات

 سوف تتجول عادة في المنطقة .

- سيد تيكس، قاطعه أنطون ، أفهم جيدا .

- بالنسبة لك سيد خايس.

- أدرك جيدا ، بأنك جلست تدافع عن نفسك لدى مواجهتك لي؟ لن أسقطك بالتأكيد من حساباتي.

- أنا لاأدافع عن نفسي وكذلك لست ضدك.

- من إذن .

أجل هذا أيضا أجهله ، قال وهو متضايقا غير صبورا ، على أية حال ليس ضد نفسي أو ماشابه ذلك. ربما أنا لست موجودا، سحب الزناد بإصبع السبابة، أطلق رصاصة على عقب السيجارة حتى وقعت على العشب ثم نظر إلى حديقة الكنيسة، هل تعرف من هو موجود؟ الموتى...الموتى الأصدقاء. إذا أردت أن تؤكد شيئا يدور حول بلوخ ، فهذه لغة متقدمة ، في تلك اللحظة ظهرت سحابة صغيرة للأمام بمحاذاة الشمس، حتى بدت الألوان على القبور فجأة كأنها منافذ للتوبة والإستغفار، في تلك اللحظة حيث تغسل الذنوب هناك أمام الضوء ، تساءل أنطون مع نفسه فيما إذا كان مستعدا لتقبل الأمر الواقع، شعر بالرجل الذي يجلس بالقرب منه على الأريكة، ربما قدم من شيء مبهم أو ربما بسببه  شعر بجزء من العنف ، عندئذ ضربه كي لايكون هناك مزيد من الضحايا ، ضحية ماذا تعني بكلامك؟ بالتأكيد كان هو ضحية والآن يعيش لكن في نفس الوقت خامره شعور بأن الأمر في الحقيقة يدور حول شخص آخر .

 

- أشعل تيكس سيجار أخرى.

- حسنا إذن من كان يعرف بأن الدوريات قادمة، ثم ستشعل النيران في منزل ما ، وسوف تتم تصفية المختطفين ، هل يجب أن نترك كل شيء خلف ظهورنا؟

عندئذ لم يتفوه بشيء آخر ، نظر إليه أنطون.

- بعدذلك هل تريد أن تجيبك؟

- بالتأكيد.

- ذاك لاأستطيع الإجابة عليه ..ذاك لاأعرفه.

- إذن من الأفضل لك: الإجابة بالنفي، عندما قلت بأن عائلتك كانت ستعيش إذا لم نتولى تصفية بلوخ، هذا صحيح إذن. ذاك أمر سهل ولكن المزيد من ذلك فلا أتقبله ، إذا قال شخص آخر بأن عائلتك كانت ستبقى على قيد الحياة لو إستأجر أباك منزلا آخر، في شارع آخر هذا صحيح  تماما ، ربما كنت جلست الآن مع شخص آخر ، إلا إذا كانت الواقعة قد حدثت في شارع خر ، ربما كان بلوخ قد عاش في مكان آخر ، هذا نوع من الحقائق حيث نقف نحن عاجزين عن فعل شيء ، الحقيقة الوحيدة أن نفعل شيئا، أي تتم تصفية الجميع من خلال صاحب المهمة وليس من قبل شخص آخر ، بلوخ  بواسطتنا وعائلتك بواسطة الأوغاد، إذا إكتشفت بأنه كان من المفترض عدم قيامنا بتلك المهمة، يجب أن تكتشف ذلك بنفسك، الأفضل لو لم توجد البشرية،  على الأقل من منظور تاريخي ، وإلا لن يتم موازنة العشق، الحظ والطيبة في العالم إزاء موت طفل ما ،  على سبيل المثال هل إكتشفت مثل تلك الأمور من قبل؟

نظر أنطون مشوشا على الأرض ، لم يفهم تماما ولم يفكر بتمعن في السابق بمثل تلك التفاصيل، في حين لم يفكر تيكس أيضا بمثل تلك الأمور.

- إذن نحن قمنا بذلك... نحن إكتشفنا ذلك.

- هل وازنت الأمور جيدا بشكل عقلاني؟ سأله أنطون فجأة

بينما ألقى تيكس سيجارته أمام قدميه ولفها بحذاءه خارجا، لكن تبقت بعض قصاصات الورق حيث الحصي تتحرك ببطء، لم يتمكن من إيجاد إجابة للسؤال ، نحن نعلم بأنه كان محتملا أن يتم حرق أحد المنازل الأربعة، بناء على ذلك تصرف السادة بمرونة، نحن لم يكن لدينا أدنى علم بالمنزل الذي سيحرق ، لقد إخترنا تلك البقعة لأنها كانت بإعتقادنا الأهدأ، ولأنه كان أفضل طريق نستطيع الوصول إليه ، وعلينا الهروب بسرعة لأن هناك الكثير من الغوغاء لازالوا على قائمة الإنتظار .

- إذا كانوا أهلك من تعرضوا لذلك الحادث، قال أنطون ببطء قد عاشوافي تلك المنازل ، هل ستقتلهم إذن؟

- وقف تيكس ثم قام محاولا تعديل بنطلونه الفضفاض مرتين وإلتف حوله .

- لا..لا اللعنة، قال هو .. بالطبع لا ، ماذا تقصد بكلامك؟ تحديدا  لن يكون مصيرهم مثل أشخاص أعرفهم، لكن بالنسبة للمختطفين هل تعرف في تلك الليلة ، كان شقيقي الأكبر، وأنا أفهم بأنه أختطف هو الآخر ، هل تود سماع المزيد؟ ما الذي إكتشفته أمي في تلك الليلة؟ كان بإمكانك سؤالها، أو

تحاول معرفة عنوانها؟

- أرغم أنطون نفسه على عدم النظر لعينه اليسرى ، أنت تنظر إلى كما لو أنني كنت المذنب...اللعنة كنت أنا في الثانية عشر من عمري ومشغولا بقراءة كتاب عندما حدث ماحدث .

 - ياله من قدر أحمق، ماحدث لمنزلكم تلك الليلة.

نظر إليه أنطون إنتحى جانبا ، في واقع الأمر ماحدث ليس في منزلنا، قال هو.

- أدار تيكس رأسه ببطء قبالة أنطون

- أستميحك عذرا ، إن ماحدث كان في منزل الجيران ، حيث يقع قرب منزلنا، فرد تيكس ساقيه ثم وضعهما فوق بعضهما، منثنيا، نظر إلى حديقة الكنيسة .

 كانوا جيرانا طيبين أفضل من صديق قادم من مسافة بعيدة، قال هو بعد مرور برهة  زمنية ، أذهله شيئ ما في نفسه، ربما نوع من الضحك، أي صنف من الناس كانوا هؤلاء ؟ أرملة مع إبنتها، بحار  ثم بدأ تيكس يومأ وقال:

- أشكرك .. أجل هذا جائز بطبيعة الحال، أحيانا يساعد الحظ أحد الأيادي !

- هل هذا جائز؟ سأله أنطون ، بينما داهمه على الفور شعور بأنه كان سؤالا طائشا إلى حد ما .

- هل يجوز ذلك .. هل يجوز ذلك.. ردد تيكس تلك العبارة، هذا جائز في بغداد ، إسأل القسيسة، التي هامت على  وجهها هناك في مكان ما ، حسب وجهة نظره أنا أؤيدهم، بعد مرور ثلاثة ثواني بالضبط: حدث كل شيء قرب منزلكم .

- أنا أسألك ، قال أنطون، لأن أخي حاول في ذلك الوقت إبعاده عن منزلنه ووضعه أمام منزل آخر أو إعادة وضعه مرة أخرى، هذا أجهله وحينئذ وصل رجال الشرطة .

- عيسى المسيح، أخيرا فهمت ماحدث تماما ! صاح تيكس .

- نظر إليه أنطون بدهشة .

- كيف تعرف بأنه كان يحمل مسدسا.

- أجل ، ماذا تظن؟ لأنني كنت شغوفا بسماع الأمور التي حدثت بعد الحرب.

- كان هذا مسدس بلوخ .

- يالها من ظهيرة نافعة ، قال تيكس بهدوء .

- ثم سحب نفسا من سيجارته نافخا الدخان عبر زاوية فمه نحو الخارج .

- من عاش في ذلك المنزل القاصي ؟

- عجوزين متقدمين بالسن.

- بيد مرتعشة صوبها نحوه، الفقوس مثل التمساح تماما ، ذات مرة قال تلك العبارة لإبنته ساندرا لكنها لم تضحك، يبدو بأنها كانت متفقة معي .

- نعم، قال تيكس إذا كان أخاك قد أراد إعادة وضعه مرة أخرى ، ربما  كان سيندلع بطبيعة الحال عراك، من ثم قال فورا: إلهي ، إلهي ، إلهي، يالها من عقد متشابكة ، حمير كبار ، هذا هو أنتم ، جميعكم .

- هل قمتم غدوة ورواحا بنقل تلك الجثة، إذن ماكان سيحدث في تلك الليلة حينذاك؟

- بطبيعة الحال ننقلها إلى الداخل ، قال تيكس مدمدما، كان الأحرى بكم نقله لداخل منزلكم .

- مرتبكا نظر إليه أنطون بالطبع إنها بيضة كولومبس ، قبل أن يتكلم واصل تيكس حديثه :

ماذا تريد أن تقول ، لقد سمعوا طلقات من مكان ما ، في الحي ، لكنهم لم يتعرفوا على مصدرها ، ماذا برأيك أنتم فاعلين في تلك اللحظة، إذا كانوا قد رأوا شيئا في مكان ما في الشارع ربما لم يفكروا على الفور بالهجوم  قام حارس البلاد مسبقا  بإطلاق النار على شخص ما أو شابه ذلك، ربما كان أحدكم جيران ل(إن.بي.سي) الحزب الشيوعي الهولندي، وهو الذي خطط لكل هذا ؟

- لكن ماذا كنا سنفعل بالجثة؟

- حسب علمي هناك الكثير مايجب فعله في مثل تلك المواقف، مواراتها على الأنظار على سبيل المثال أسفل ألواح الأرضية، أو دفنها في الحديقة، أو الأفضل إلتهاما، أو محاولة طهوها بمعاونة الجيران ثم تناولها كوجبة. كان شتاء الجوع أليس كذلك؟ مجرمي الحرب لن يتم وضعهم في خانة أكلة لحوم البشر .

في تلك اللحظة ذهل أنطون بشيء أشبه بالضحك ، كان والده سكرتير عام الحافظة ، الذي قام بطهو مفتش الشرطة ثم أكله، يالها من نكتة الجستابو ليس جاهزين للنقاش أو تظن بأن مثل تلك الأمور لن تحدث أبدا؟ حاول نسيان كل شيء حدث ، لن يكون بمقدورك التفكير وأنت مذهولا أو فاقد العقل، فيما إذا حدثت أوربما سيحدث شيء أكثر جنونا من هذا .

 

كان الناس يمشون بإتجاه القبر أو يفدون من أمكنتهم ، يتطلعون إلى الوقت الذي إنقضى،  بإتجاههم جلس رجلين على أريكة حجرية أسفل شجرة، أحدهما كان أكثر شبابا من الآخر ، بينما كان الآخرين جالسين في البار لمدة طويلة ، يواسي كلا منهما الآخرعن صديق الماضي ، تتداعى ذكرياتهم ، هل تعرف تلك المرة بأنه إذا  رافقوهم سيصمتون خوفا وخجلا .

لقد تحدثت ببساطة متناهية ، قال أنطون، فيما بعد لن نفكر بمثل تلك الأمور، ولكنك لاتنفك عن

التفكير بها دوما ، كنا جالسين في المنزل عند الطاولة نقرأ، عندنا سمعنا الطلقات .

- ربما ستداهمنا الشكوك على الفور .

- نعم بالتأكيد ، ثم ننخرط فيمابعد بفرقة عراك ، أبي كان سكرتير عام المحافظة ، لم يتركب خطأ أبدا، يكتب فقط مايفعله الآخرين ، في حقيقة الأمر لم يتبقى أمامنا مزيد من الوقت لفعل شيئ، على

الرغم من ...قال هو، بينما نظر فجأة للأعلى ، يقلب في الأوراق ، في بادئ الأمر كان نوعا من

العرااك ...كما هو الضوء ، فجأة شعر بحركة خفية في الظلام الداكن ، صرخ في الممر ، كان يبدو بأن بيتر سقط بين الأغصان، شيء بمفاتيح ثم إختفى مثل جذاذة من حلم ، يتذكرها الناس مع مرور

الأيام .

 

أصبح مشغولا بالمدعو تيكس، بكعب حذاءه طبع أربعة شقوق عمودية في الحصي ، كي تبدو الأرض السوداء عارية تماما .

- إسمع، قال هو   توجد أربعة منازل ، أليس هذا صحيح .

- أجل .

- وكنتم تعيشون في المنزل الثاني لليسار .

- هذا نعرفه تماما .

- فتشت مرة واحدة عن تلك البقعة.

الأبطال يعودون دائما إلى مكان أعمالهم البطولية، ذلك معروف جيدا على الرغم من ذلك أستطيع القول بأنني كنت الوحيد الذي فعلها على أية حال ماذا يعني لك هذا الرصيف ..حسنا لاأعلم تماما فيما إذاكان مسجى أمام منزلكم ، لكنه أمام أي منزل للجيران ألقي أولا، هذا أم ذاك؟

- هذا ، قال أنطون ثم أشار بحذاءه للمنزل الثاني لليمين .

- أومأ تيكس ثم نظر إلى الخطوط..

- آسف لكن هناك على أي حال سؤال، لماذا قام البحار بوضعه أمام منزلكم ، وليس هنا عند الجيران الآخرين؟

- نظر أنطون مجددا إلى الخطوط.

- ليس لدي أدنى فكرة، هل سألت نفسك ذات مرة.

- ربما كان لديه في الأغلب أسباب أخرى ، هل يكره أحدكم؟

- هذا أجهله تماما ، لكنهم يكرهون الجيران الآخرين، الذي يتجاهلون الجميع .

- حاولت دوما معرفة السبب؟

- سأله تيكس ثم نظر إليه بإستغراب، بالنسبة إليك ربما لايوجد فرق إن عرفت السبب أم لا؟

- لايهم...لايهم ، أعني بأنه ليس لدي رغبة لمعرفة المزيد حول تل الأمور مجددا، ماحدث ..قد حدث وكل شيء إنقضى، حتى لوفهمت ماحدث ، كانت الحرب ، شجار كبير ، عائلتي قتلت وأنا عشت  ثم نلت الرعابة من خالي وخالتي وسارت الأمور في الفلك المناسب وهذه كل الحكاية ،

قمت بقتل ذلك المعتوه على الفور، فعلا..فعلا، ربما لن يسمعوك هناك..هناك يجب أن تؤكد صحة ماقلت لإبنك، بالنسبة لي ليس من ضروريا ، لكن لماذا نطالب بمزيد من التوضيح حول تلك القضية،؟ هذا ماأعنيه بالضبط، ومافعلته؟ إنه التاريخ، التاريخ الأثري.

منذ ذلك الحين كم مرة تساءل مع نفسه؟ ربما حدث مرة أخرى في نفس اللحظة بينما نجلس هنا نتحدث، هل لديك الشجاعة الكافية لتضع يدك فوق النار ، ليس في نفس اللحظة في مكان ما، منزل تشتعل فيه النيران، بقاذفات اللهب؟ في فيتنام على سبيل المثال؟ من أين واتتك مثل تلك الأفكار؟

عندما رافقتني منذ لحظات للخارج ، ظننت بأنك سوف تنقذني من الخطيئة، لكن لم يحدث ماتوقعت، على الأقل لاتبدو شريكا معي مطلقا، حسب علمي ليس بمقدورك تأدية تحية وداع الحرب، لكن الزمن يمضي، أو يداهمك الندم حول فعلتك.

 

يبدو بأنه تحدث بسرعة، مع هذا ظل هادئا لكن بنفس اللحظة داهمه شعور غامض بالهيمنة على زمام الأمور كي يتمكن من هزيمة الطرف الآخر في الحال، غدا سأعاود الكرة كرة أخرى، كما لو أنني

 مرغم على ذلك، قال تيكس بدون أن يتردد لحظة واحدة بإتخاذ القرار، ربما غدا سأعاود الكرة مرة أخري، لدي مجموعة كبيرة من الرعاع،  تمادوا كثيرا، التعامل معهم لايزال من أمنيات النفس الخالصة، لكن تلك الفعلة التي قمت بها عند الرصيف،  هل تنطبق عليها نفس الفكرة، حدث شيء هناك ، وضع يديه على حافة الأريكة ثم ذهب ليجلس في مكان آخر .

- أستطيع القول بأنه في نهاية المطاف كان من الأفضل لو أن الأمور إتخذت منحى آخر .

تقصد لأن أبواي قضا نحبهما بالقرب من هناك؟

- لا قال تيكس بشدة، أعذرني لأنني تفوهت بذلك، ذلك أمر لايمكن تخيله أو توقعه ، حدث ذلك لأن شقيقك حوصر وهو يحمل مسدسا أو ربما لسبب آخر مجهول تماما، لاأعلم ، من المحتمل لسبب آخر، قال أنطون بدون أن يلتفت حوله، لأن أمي هاجمت القائد الألماني، صمت تيكس وظل ينظر للخارج، عندئذ إلتف نحو أنطون وقال: أنا لاأجلس هنا كي أوجع قلبك بحديث ذكريات الحرب، وحسب علمك هذا النوع من الناس أعرفه جيدا، لكن في ذلك الوقت لم أسمع به، ذاك يذهب في كل إجازة إلى برلين ومن المستحسن أن تعلق لوحة هتلر أعلى فراشهما، كان بالأحرى القيام بشيء آخر في هارلم، في تلك اللحظة لمع شيء في عينيه، أبويك وشقيقك أولائك الرهائن  ليسوا هم الوحيدين، الذين فقدوا حياتهم، لست الوحيد كما هو معلوم الذي أطلق الرصاص على بلوخ، كنا إثنان، في ذلك الوقت كنت منشغلا بالأنس مع شخص ...دعني أقول...صديقتي، لاتهتم حاول النسيان.

 

حدق فيه أنطون، ويديه أمام وجهه إنتحى جانبا ثم بدأ ينتحب، لقد ماتت في تلك اللحظ ماتت أمامه، في الحادية والعشرين من عمرها، بعد ذلك في نفس اللحظة ظهرت أمامه كما لو أنها تعني شيئا هاما بالنسبة إليه، طويلة في الحادية والعشرين، إختفت بالظلام، بدون أن تخطر في باله، لأنه كان من المفترض أن يسألها إذا كانت قد عاشت أم هناك أخ يفتش عنها مباشرة في الكنيسة، وبعد ذلك في الكافية إستوعب الأمر جيدا، الآن منذ لحظات ، لهذا السبب ذهب لزيارة هذا القبر، حيث ليس بمقدوره فعل شيء.

 

- شعر بيد تيكس تربت على ذراعه.

- الآ ماذا أنجزنا؟

- أخذ يديه بعيدا كانت عيناه تبدوان جافتان.

- كيف كانت نهايتها؟ سأله أنطون.

- قبل ثلاثة أسابيع من التحرير تم تنفيذ حكم الإعدام بها عند التلال، حيث ترقد هناك في قبر شرفي .

- بحق السماء ماالذي يجذبك بتلك القصة؟

- لأنني أعرفها، قال أنطون بصوت خافت لأنني تحدثت معها، كنت أجلس معها في تلك الليلة بنفس الزنزانة.

- غير مصدق نظر إليه تيكس .

- كيف تعرف، بأنها كانت هي المقصودة؟ ماذا تدعى؟  بالتأكيد لم تكشف حينذاك عن هويتها.

- لا لكنني أعرف بالتأكيد.

- هل قالت شيئا، مثلا بأنها متورطة بالهجوم؟

- حرك أنطون رأسه.

- لا مرة أخرى لا ، لكنني أعلم بالتأكيد .

- كيف إذن، اللعنة قال تيكس بشدة ، كيف كانت تبدو؟

- هذا أمر أجهله، كانت ليلة حالكة شديدة السواد.

- بعد ذلك فكر تيكس هنيهة.

- هل تتعرف عليها إذا رأيت صورتها؟

- أنا لم أرها، تيكس ولكن أود رؤية صورتها.

- ماذا ستقول إذن؟ يجب أن تتذكر شيئا.

- رفع أنطون ذراعيه للأعلى.

- أود معرفة ذلك، كان ذلك منذ زمن بعيد..كانت جريحة .

- أين.

- لاأعلم.

- أصبحت عيني تيكس رطبتين.

- بالتأكيد هي، قال هو إذن إعترف من هي ‍ ربما قام بلوخ بتصفيتها في اللحظات الأخيرة، عندما كنا نقف عند الزاوية، عندئذ رأى أنطون دموع تيكس ، هل يجب أن يبكي هو الآخر؟

- ماذا تدعى. سأله.

- تروس، تروس كوستر.

- كان الناس عند حافة القبر ينظرون إليهم من زوايا أعينهم، ربما إندهشوا عما يجري، رجلان عاقلان يسترسلان في أحزانهم حول مفقود ميت، ربما كانو في الحقيقة أشبه بأشخاص ذو تصرفات طفولية .

- أو..هم موجودين هناك، أولائك الحمقى.

- ذلك صوت حماته، أقبلت مع ساسكيا وساندرا عبر السياج، قامتين سوداوتين تمشيان على الحصى

الصغير اللامع، طفلة ترتدي الأبيض صاحت ساندرا، بابا‍ تركت دميتها تسقط ثم تناولها أنطون،نهض و أحنى جسمه للأمام وإلتقطها بين ذراعيه ، بعينين كبيرتين نظرت إليه ساسكيا ، شعر بأنها مشوشة قليلا، مرتاح البال نظر إليها ، لكن أمها التي

أقبلت بعصاها السوداء اللامعة وحقيبتها ذات المقبض الفضي لم تدعه يعالج الأمر بسرعة.

 

- في تلك اللحظات الصعبة تبكيان؟ سألته وهي غاضبة، بينما كانت ساندرا وهي منتفضة من رأسها تنظر إلى وجه أبيها، أظن بأن وجودي غيلا مقبول فيه بالنسبة لكما، هل بمقدوركما التوقف عن ذكر تلك الحرب العقيمة؟

هل جعلت زوج إبنتي يصاب بالجنون، خايس؟ أجل ، أجل أنت بالطبع مجددا، جعلتهم يسمعون ضحكتها الغريبة الساخرة حيث تحرك جانبي خديها الكبيران ، هذا أمر لايسر الحاضرين هنا إطلاقا، كنتما تقفان مثل فيلان كبيران، محاصران، تحديدا عند المدافن لذلك إنقضى كل شيء.

- تعالوا جميعكم معي.

- إستدارت نحوهم ثم مشت عائدة، بعد أن أشارت بعصاها للدمية الملقاة على الحصي بدون أن تضيع لحظة واحدة بالشك، أذعن الجميع لتعليماتها الصارمة.

لاتتشبث بالتأكيد بمبدأ الإحتمال، قال تيكس بالتأكيد بمبدأ الترجيح، قال تيكس بضحكة غريبة حيث إتضح بأنه متفق مسبقا مع السيدة دي خراف، عندئذ نظرت إليه أنطون ثم قال: "ملكة ويلهيلمينا" بينما أخبرته ساندرا بأنها ذهبت مع أمها إلى منزل الفقيد وحصلت هناك على كوبين من الرانيا وهي ليمونادة بطعم البرتقال، ثم عادا لميدان القرية، هناك مشى الجميع وكان الكافية خاوية، وقفت أمام الباب سيارة بعداد، كان السائق واقفا قرب الباب الخلفي، إنشغل الجميع بالبحث عن أنطون لكن

لم يحاول أحد معرفة السبب، بينما إنطلقت ساندرا مع جدتها إلى الكافية لجلب السيد دي خراف، قالت ساسكيا والدمية بيديها بأن ساندرا يجب أن تؤكل شيئا، وهذا ماإقترحته عليها أمها بأن تذهبان سوية لتناول الغداء في مكان ما بالخارج.

- لاتتحرك إبقى في مكانك لحظة ، قال تيكس.

ظل أنطون ساهما شعر بأن تيكس كتب شيئا على ظهره، أثناء ذلك نظرت ساسكيا مجددا نحوه بلمحة مثل التي سبقتها، ثم أغلق عينيه كي تنتظم الأمور من جديد بينما مزق تيكس ورقة من أجندته، طواها ثم وضعها في جيب صدر أنطون ، وهو صامتا ناوله يده ثم أومأ صوب ساسكيا وذهب إلى الكافية,

 

عند حافة الرصيف حاول ياب تشغيل دراجة البرومر عندئذ نجح في ذلك ، أقبل الوزير مع السيد دي خراف للخارج ثم تناول السائق قبعات السادة بيده وفتح الباب ، لكن الوزير ذهب  بإتجاه السيد ياب ثم صافحه.

- إلى اللقاء ، ياب.

- حسنا..قال إلى اللقاء في المرة القادمة.

 

 

 

(4)

 

أرادت ساندرا الجلوس قرب جدها وجدتها في السيارة  مشيا خلف بعضهما عبر طريق داخلي صغير ومتعرج متجهان للمطعم، هذا فهمه أنطون ، بالتأكيد لن يصاب بتشوش مع ساسكيا وبمقدوره التحدث معها حول ماحدث ، لكنه لم يفعل ذلك، جلس وهو صامتا خلف المقود، لقد تعلم في مثل تلك الحالات بأن يتصرف معهم مثل الأشخاص الذي عاش معهم إبان الحرب، يسأل في حالة واحدة فقط ، فيما إذا كان هناك نوع من مؤتمر المصالحة أو ماشابه ذلك لكن كل ماحدث ليس صحيحا، بشعور يداهمه كما لو أنه جالس في حمام ساخن لوقت طويل، حاول التفكير بتمعن وروية حول ماقاله تيكس لكن يبدو بأنه لم يفهم بعد مايتوجب فعله، في حقيقة الأمر يبدو بأنه لايوجد شيء يستطيع أن يفكر فيه بتمعن، حينئذ تذكر الورقة، تناولها ثم فتح بأصابع إحدى يديه الورقة المطوية، يوجد عنوان مع رقم تليفون.

 

- إبحث عنه؟ سألته ساسكيا.

- ثم أعادها إلى جيبه وفرد شعره جانبا.

- لاأظن ذلك، قال هو.

- و لاتحاول إلقائها.

- نظر إليه مبتسما.

- لا ، لن أتخلص منها، لا.

بعد مرور دقيقة أو ربما عشرة وصلا للمطعم، في الحقيقة كان يبدو منزلا ريفيا أنيقا، حيث  بنيت في الداخل مزرعة لها غطاء من الزجاج أو البلاستيك، كانت مظلمة وفارغة يتناول الناس طعامهم خلف ظلال البستان حيث الجرسونات يخدمون الزبائن ببدلات السموكنج.

- أريد بطاطا، صاحت ساندرا لدى قدومها من السيارة الأخرى وهي محمولة.

- بطاطا ، كررت السيدة دي خراف ثم رددت مجددا نفس الصوت كما لو أنها تتقيأ ، يخال لي بأن هذا أمر مألوف ، أرجوك ساسكيا: هل تستطيعين تعليم تلك الطفلة الصغيرة بأن تلك البطاطا التي تسمى بوم فريتس سيئة المذاق؟

- أتركي تلك الطفلة اللطيفة تتناول البطاطا، قال السيد دي خراف، كما لو أن لديه شهية لتناول بوم فريتس أيضا.

- أريد بطاطا.

سوف تحصلين على البطاطا، قال دي خراف ثم وضع يده على قمة رأسها مثل القبعة ... هل تفضل بيضا مقليا أم بيضا مبعثرا ؟

- لا أومليت.

-  حاولي نطق كلمة بابا ، قالت ساسكيا ، تستطيعين ذلك بالتأكيد؟

- جلس دي خراف عند مقدمة الطاولة ثم وضع يديه مجددا مع ذراعين منبسطتين عند حافة الطاولة، عندئذ ناوله الجرسون قائمة الطعام، ثم سحبها براحة يده جانبا.

- سمك وبطاطا مع بيض مقلي لتلك السيدة النبيلة ،  وكوب بارد من شراب

الشابليس ، مخلوط من الخارج.

 

إذا رأيتك بهذا الزي بالتأكيد سأتذوق نغمة نوتتي الموسيقية أفضل من ذلك، يجب أن ينتظر طويلا كي تظفر زوجته بإختلاج قصير وتضع المنشفة الورقية على حجرها، أظن بأنكم سمعتم بتلك الطرفة التي تدور حول الكاتب الشهير ديكنز، عشية أعياد الميلاد  كان يقيم عشاءا لأصدقائه ،  حيث أشعلت النار ، أضيئت الشموع

فجأة سمعوا في الخارج أسفل النافذة في الثلج متشردا وحيدا يضرب قدميه بشدة على الأرض باحثا عن الدفء ، بعد مرور دقائق قليلة صاح "أوه ..ياله من شتاء" إتضح فيما بعد بأن الكاتب إستئجره كي يستمتع الضيوف بتلك الليلة . نظر ضاحكا إلى أنطون الذي كان يجلس قبالته، بطبيعة الحال كانوا ظرفاء وذلك لمساعدته بالتخلص من الحالة التي يمر بها ، لكن عندئذ رأى لمحة الفرح في عينيه تتلاشى، وضع  منديل الورق بالقرب من صحنه ثم حرك رأسه ووقف ، في تلك اللحظة وقف أنطون أيضا ثم تبعه، عندما أرادت ساندرا القيام من الكرسي، قالت لها السيدة دي خراف .

- لاتقومي.

عند حافة الجدول المليء بعدس الماء وهو طحلب مائي، ظلا واقفين في الأرض المزروعة المحيطة بالمراعي الخضراء .

- الآن كيف حالك، يا أنطون.

- لابأس يا أبي.

- هذا اللعين فاقد العقل خايس، الأحمق رقم واحد يتحدث الآن عن زمن الحرب كأنه كان على أهبة الإستعداد للشهادة ولم يتنازل عن شيء، إن فمه قد ختم، بالله عليك كيف تجالسه.

- هذا بالتأكيد ما أقصده ، قال أنطون.

- نظر إليه دي خراف متسائلا.

- أجل، علاوة على ذلك ، عندئذ فهم مايقصد أنطون من كلامه .

لذلك إتفقتما ، أقصد إن مقبض السكين كان معكم دائما، مقبض السكين كرر دي خراف تلك العبارة ثم أومأ برأسه ، حسنا ، قال هو بإيماءة ، أنت تتحدث  حول لغزما لكن هذا هو أسلوبك بالتعامل مع الأمور بأسلوب واضح .

- ضحك أنطون.

- لم أفهم تحديدا ماذا تقصد.

- أجل .أجل لكن من يريد أن يفهم؟ لكن الهدف الرئيسي أن تقبض عليها بيدك، ربما يصادفك الحظ يوما ما ، ماحدث ظهيرة اليوم لقد قمنا بإبطال مفعول المشاكل، لكنها ظهرت مجددا، لقد سمعت ذلك من جميع الزوايا ، قبل عشرين عاما ظهر ما يسمى بفترة "الكمون" وهي الفترة مابين الإصابة بالعدوى وظهور المرض ، تلك الحالات حسب علمي ظهرت أيضا في أمستردام .

- لقد فسرت الأمر بأسلوب آخر، يبدو بأنك تعاني في مكان ما من مشكلة.

- أجل ..قال دي خراف محاولا إزالة حصوة من مقدمة حذائه الأسود التي إنحشرت بالأرض نتيجة للأعشاب الضارة والعشب الشائك، عند ذلك لم يفلح بإزالتها، نظر إلى أنطون ثم هز رأسه، دعنا نعود للطاولة، يبدو لك بأنه ليس الحل الأفضل؟

بعد أن غادر آل دي خراف بإتجاه أراضي خيلدرلاند  ذهبت ساسكيا وأنطون إلى غرفة الحمام بإنتظار دورهما، ثم قدما مجددا بثياب الصيف، بعد كل تلك التغيرات بالمظهر توجها لأحد الأحياء قرب البحر، بدا رقراقا ومبهجا حتى الأفق، لأنه يوم مدرسي مألوف إزدحم الشاطئ بالأمهات مع أطفالهن الصغار، بأقدامهم العارية مشى الجميع على الرمال، على الأرض اليابسة الجافة حيث تبدو قطع من الصدف والمحار أثناء تدفق المد في طريقه إلى التفرعات النهائية من المياه، بعد مرور لحظات قليلة أصبحت المياه باردة ،أما ساندرا وساسكيا فقد تجردتا من ملابسهما على الفور إنطلقتا نحو البحرة الفاترة وهي بركة ماء صغيرة أمام أول تل رملي في قاع البحر ، بينما إتشغل أنطون بترتيب موضعهما الأول حيث بسط مناشف اليد، روايةبوليسية للأسفل حزمة قش، سطل ومغرفة ثم جلس متأهبا واضعا ساعته في حقيبة ساسكيا، بعدذلك ألقى نفسه تدريجيا في المياه العميقة.

 

خلف التل الرملي الثاني، حيث لايشعر بوجود أرضية أسفل قدميه، أصبحت المياه باردة حقيقة، لكنها برودة غريبة غير مرغوب فيها، لم تجعله يشعر بالنعاس، إن لمعان المياه العميقة المميتة جذبه، رغم ذلك ظل يعوم بالقرب من المكان ، على الرغم من أنه لم يبتعد إلا مسافة مائتي متر عن الشاطئ، إنقطع إتصاله عن الأرض، كان الشاطئ ساكنا في تلك اللحظات، ثم إمتد لليسار واليمين ، كما لو أنه إنسان آخر عن السابق، التلال، الفنارات البحرية التي تضاء في الليل لإرشاد السفن إلى الميناء، المباني المنخفضة بهوائيات مرتفعة، شعر فجأة بالتعب والوحدة.

 

بدأ فكه السفلي يخفق سريعا ثم عاد أدراجه سابحا، كما لو أنه يود النجاة من خطر يهدده وراء الأفق، أصبح البحر دافئا تدريجيا، بمجرد أن شعر بالأرض، بدأ بالسير في المياه غير العميقة عند ساسكيا وساندرا كانت المياه دافئة مثل حمام مائي، هناك

ذهب كي يستلقي بأكمله للخلف، عند خط التقاطع بين سطحين منحدرين ، نشر ذراعيه ثم تنهد عميقا.

- إنها باردة بعيدا من هنا، قال هو.

عاد إلى الشاطئ ثم جذب منشفته قرابة متر للخلف، على الرمال البيضاء الحارة

جاءت ساسكيا كي تجلس بالقرب منه ثم نظرا سوية إلى ساندرا التي كانت تنظر من مسافة قريبة إلى فتاة في نفس عمرها، كانت مشغولة ببناء قلعة من الرمال ، لاحقا إنشغلت معها وهي صامتة، كما لو أن الأخرى تتظاهر بأنها لم تلاحظ شيئا.

- ماهو شعورك؟ قالت ساسكيا.

- وضع ذراعه حول كتفيها.

- هل أجلس بعيدا عنك.

أنا إستلقيت بعيدا عن هنا، ذهب كي يستلقي على بطنه، الشمس تبهجني وضع

 وجهه في تجويف ذراعه ثم أغلق عينيه، شعر برجفة شعاع يدغدغ ظهره ثم هرول، عندئذ شعر بيدي ساسكيا وهي تدعكه، ذهب مجددا ليجلس، نظر إلى ساسكيا التي وضعت ساندرا بحجرها كي تدلكها بدون أن يلاحظ هو شيئا ، كانت الشمس ساخنة جدا، في عرض المياه أسفل قماش الشراع المشدود ظهر شابين وهما يعزفان على آلة الجيتار، أطفال صغار يمشون بشقاوة داخل وخارج البحر، يضعون أسطل المياه في الحفر، متحمسا بوجهات نظر واثقة، ظل صامدا ، تناول كتابه محاولا القراءة، لكن ظل رأسه كان الورق يلمع بدون نظارة شمسية.

 

بدأت ساندرا تئن، ثم رافقتها أمها للمياه، عندئذ أقبلتا ماشيتان وهما تتصببان عرقا بإتجاه الحشد الذي يبعد عنهم مسافة قليلة، لاحقا أقبلت ساندرا وهي تبكي إلى

أباها نحاول جذبه ، بينما إنشغل الشباب بجذب مدوسة بنفسجية وهي سمكة هلامية تعيش في البحر من فصيلة الأسماك المجوفة، عثروا عليها بالصدفة .

 

بعزم ورثته من أمها بدأت ساسكيا تبحث عن أمتعتها، أولا ستذهب للقرية، للتبضع مع ساندرا ثم يغادر الجميع لاحقا ، تلك الطفلة متعبة، أولا الكنيسة ثم الجنازة لاحقا بيت الحداد، وهي مقرفصة مشطت شعر ساندرا الجاف، التي كانت في ذلك الحين تحرك ساقيها الصغيرتين.

- دعنا نذهب من هنا على الفور.

- لا..لا إبقى أنت هنا، وإلا سوف يستغرق الأمر طويلا، نحتسي شيئا ثم نعود لإصطحابك.

نظر إليهم عن كثب ثم لوح لهم مرة أخرى، لكن بدون أن ينظرا نحوه وهن متعبتان، أسرعن الخطى وعندئذ توارين عن الأنظار ، أما هو ذهب كي يستلقي على ظهره ويلمع من العرق ثم أغلق عينيه.

 

تراجعت الأصوات تدريجيا على الشاطىء في طريقها إلى قشرة كروية كبيرة أشبه بقبة سماوية مثل نقطة واسعة إستلقى في وسط فضاء وردي فارغ محاولا الهروب بسرعة من العالم الذي يحيط به، بدأ شيء ما يدق للأسفل، لكن لاتوجد أرضية، تلك الدقات إصطدمت بالفضاء نفسه، حل الظلام ثم غيم شيء مثل نقطة حبر تسقط في كوب ماء ، إنه الدمج المنتفخ، ليس دمجا، الحركة البلازمية، تغيير الهيئة نتيجة

لتغيير هيئة الشعر والذقن والملابس نتيجة لعملية جراحية، يد شاحبة تتغير إلى وجه أستاذ جامعي بذقن ونظارة تثبت على الأنف بدون أذرع، ثم إلى فيل سيرك برداء خاص موضوع في عربة ريفية، كان الإصطدام صادرا من قطار في ساحة تخزين قطارات السكك الحديدية، يمضي القطار عبر موسيقى مهلهلة، حبوب متطايرة ، كل الأشياء أصبحت سوداء في تلك الليلة المتقطرة للأسفل، من خارج أرياش خوذة الفارس يتطاير لهب مرفرف للأعلى، صمدت جميع الأشياء بقوة ثم ظهر الضوء

جليا، باب ضخم من الكريستال الوردي لايلمع، لكن الضوء نفسه يلمع ، يوجد بالأعلى ملاكان لطيفان بذيلين من أوراق مفصصة، أيضا من الكريستال، أغلق الباب بواسطة الصولجانات المعدنية المبنية و المنصهرة المطلية باللون الوردين يبدو بد كل تلك السنين بأنه لم يتعرض شيء للتلف ، هو الآن في منزل "باوتنروست" على الرغم من أنه في نهاية المطاف ذهب للداخل، لكن الغرف ظلت خالية، كل شيء بني يبدو غير واضح المعالم مع وفرة مختلفة من المنحوتات، التماثيل و الزخارف، يتدلى السكون بمشقة أسفل الماء، كما لو أن أحدا يحاول منعه، مشى عبر الغرف، التي تحولت لصالات، فجأة مع شعور بالحنين للماضي، وقف على مرأى الزاوية الخلفية من غرفة الدراسة الصغيرة الخاصة بأبيه، لكن حيث كان الحائط مائلا في الماضي، الآن تحول إلى جناح زجاجي، أشبه بغرفة أو شرفة ذات جدران زجاجية أو حديقة شتائية مع نافورة صغيرة وواجهة لولبية حجرية بيضاء من معبد إغريقي، إستلقى على الأريكة بسرواله الداخلي فقط، فتحت أبواب الشرفات الواسعة حيث أمسيات الصيف الدافئة، كانت الغرفة مضاءة بواسطة الإضاءة

الخافتة ومصابيح الشارع، الآن من السهولة عليه رؤية الحروق في وجهه وصدره والزاوية الأمامية من ساقيه، على الرغم من أن الجلد الفاتح لم يندمل بسرعة، أصبح كل شيء أحمر كما لو أنه ضرب ببشاعة، عندما حركته ساندرا ليستيقظ نام لأكثر من نصف ساعة، أثناء النوم ترتفع الدورة الدموية ببطء بينما في الشمس تتسارع كي تزيح الحرارة بعيدا، يعاني من ألم حاد في رأسه يكاد أن يفلقه لكن يبدو بأنه إختفى كلية عند الأريكة الخلفية من السيارة، عند الظل الرحيم حتى شراب النبيذ الئي يتناوله عند الغداء كان مشكوما فيه .

 

من مسافة بعيدة تتدلى إرتجاجات مرورية متواصلة لكن في الشارع لاتسمع سوى أصوات الناس الجالسين عند شرفات منازلهم يثرثرون أو أسفل الرصيف ، مسافة أبعد توجد بعض المنازل حيث يلعب أحد الأطفال بصفارته الخشبية، لأن ساندرا م تستطع النوم وضعتها ساسكيا بعد تناول الطعام في فراشها الكبير ثم إسترخت بجانبها حتى داهمها النعاس.

 

وهو متعبا كان يتمعن بنفسه، فكر بتيكس أصبح كل شيء في حياته جليا، سواء في زمن مبكر أو متأخر، وتم معالجة جميع المسائل ووضع النقاط على الحروف كم من السنين إنقضت على آخر زيارة قام بها لعائلة بومر ، سنة أو خمسة عشر ،

سنين كثيرة مضت منذ عام 1945 وحتى اليوم، يرقد السيد بومر الآن من غير شك في تابوته للأبد، في هارلم لم يحاول الذهاب إلى  هناك مجددا، و الله وحده

يعلم أين هو معلق الآن، وماذا فعل، ربما أصبح مدير شركة في "دين هيلدر"

أما الأمر مع تيكس فكان مختلفا تماما، لكالما بكيا سويا.

 

كانت المرة الأولى التي يبكي فيها لماحدث معه ولكن ليس من أجل أبويه وبيتر ولكن لموت فتاة لم يرها أبدا، تروس..تروس ..كيف؟ جال بفكره بعيدا نحو أمر ما محاولا تذكر إسمها الأخير، لكنه لم يفلح قتلت عند التلال... هناك دماء على الرمال، أغلق عينيه محاولا إستحضار غموض الزنزانة التي قبع فيها مع الفتاة في تلك

الليلة أصابعها التي إمتدت برفق تتحسس وجهه لقد وضع يديه قبالة وجهها ثم نظر بأعين كبيرة بين ثنايا أصابعها، تنفس عميقا ثم وضع راحة يديه خلف ظهرها، كان عليه القيام بذلك، كان خطرا، لم تسر الأمور معه على منوال حسن، يجب أن يذهب للفراش، حرك ذراعه وحدق مرة أخرى نحو الخارج، يحتفظ تيكس بصورة لها، هل يجب أن يزوره ويتعرف عليها جيدا؟ في الماضي كانت صديقته وحبه الكبير ، وأمر بديهي أن يكون هو الأولى بها، ومنه حصل على الرسالة الأخيرة بشانها، لكنه لايستطيع تذكر معالم وجهها ، لكن هل يريد ذلك فعلا؟ هل يستحوذ عليه  هذا الموضوع لدرجة كبيرة في تلك اللحظة، ولكن على الرغم من كل تلك الأمور لايستطيع أن يقلل من شأنه، لم يبذل جهدا في محاولة تذكر ملامح وجهها ، هل تبدو قبيحة، جميلة أو جذابة، غير جذابة ، لكن كان هو بذاته ولم يكن شخصا آخر، بينما لم يتبادر إلى ذهنه إفتراض واحد بشأنها، مجرد إحساس أو شيئ مثل الأطفال الكاثوليكيين الذين يرافقهم ملاك حارس.

 

الآن حدث التالي، سار قليلا ثم أخذ يفكر بأمر قليل الأهمية، كأنه يلعب بالأرجوحة أو بهلوان سقط من إرتفاع عالي ويسقط في الشبكة، نهض من وضع الإستلقاء للأمام، ثم نظر بركبتيه إلى الصورة، حيث كان طيلة الوقت يحدق بها بدون أن يفهم ، وضعت الصورة داخل خزانة مصنوعة من خشب الماهوني ومطلية بلون نحاسي تضم مجموعة مقتنيات الآلة السداسية ، عند الشفق العميق وهي الفترة بين الضوء والظلام كان من الصعوبة التمييز بين الأشياء لكنه بدون أن يرى بوضوح، فهم بأن ساسكيا ترتدي فستانا أسود اللون يصل لركبتيها، أما بطنها منتفخة من ساندرا، التي ولدت بعد أسابيع قليلة، ليس حقيقة بأنه لم يفترض بأن تلك المرأة الشابة هي تروس نفسها بشحمها ولحمها، في نهاية المطاف كشف السرأخيرا عندما تصور بأنها نفس المرأة وليست أخرى، مثل ساسكيا تقريبا ، نفس لمحة العين الأولى عندما تعرف عليها ظهيرة أحد الأيام عند حجر يطلق عليه سكون، كانت ساسكيا عبارة عن صورة من خيالاته، كان يحتفظ به بين ثناياه منذ كان في الثانية عشر من عمره بدون أن يعرف مسبقا مكنونه، ثم تحول لشيء مرئي ليس ذلك التخيل ولكن أشبه بعشق فوري ، إن الحقيقة الموثوقة يفترض أن تكون الآن إلى جانبه وتنجب منه ولدا.

 

وهو في غاية القلق بدأ يذرع الغرفة ذهابا وإيابا ، ياترى أي نوع من الأفكار؟ربما كانت حقيقة أم لا ولكنها أشبه بشيء حقيقي ، هل كان منجذبا لساسكيا بفعل شيء يجهله؟ كانت في المقام الأول شخصا يعنيه أمره، ماذا كانت تفعل ياترى عند التلال حيث أعدمت هناك رميا بالرصاص ومنذ زمن بعيد كانت مناضلة معارضة هالكة لامحالة، إذ لم تكن هي ، بل شخصا آخر تصوره في مخيلته، إذن في تلك الحالة لن يكون مشغولا بإنهاء زواجه، إذن لن تتوفر لديه الفرصة، لأنها لم تكن شخصا آخر، إذن سيكون بالتأكيد مشغولا بقضية مقتلها، من الناحية الأخرى إذا كان تلك حقيقة ، إذن سيكون في تلك الحالة غير متواجدا مع ساسكيا لو أنه في تلك الحالة لم يلتقي بتلك الفتاة بمركز الشرطة ولن يكون بمقدوره التفريق بين المرأتين، نستطيع القول بأنه يوجد نوع من الفانتازيا بينهما، على كل حال ساسكيا لاتشبه تروس، لأنه يجهل في الحقيقة كيف تبدو تروس، وإلا كان تيكس في حقيقة الأمر مشغولا مع ساسكيا لكنه لم يوليها المزيد من الإهتمام، في نهاية المطاف ساسكيا تشبه تروس فقط في خيالاته التي إستدعاها أنطون، لكن ياترى من أين جاءت تلك الخيالات؟ ولماذا كانت تحديدا تدور حولها وليس بخصوص إنسانة أخرى؟ ربما

تنحدر من منبع كبير، ربما كانت تلك المرأة التي إستوحاها فرويد في صورة أمه عندما كان بالمهد .

 

ذهب للوقوف عند الشرفة ثم نظر للأسفل لكن بدون أن يرى شيئا، كما لو أنه سمع بالمستشفى بأنه سوف يأتي زميل جديد في اليوم التالي يدعى ....، لديه  تصور مسبق دوما عنه أو عنها، لم تكن تلك التخيلات صحيحة مطلقا، أيضا نسي للفور

إذاكان قد رأى الشخص المقصود به، لكن من أين جاء ياترى؟ سينجو أيضا مع الكتاب المشاهير والفنانين ، كما لو أنه حصل للمرة الأولى على صورهم أسفل عينيه،

ينتقل أحيانا من دهشة لأخرى، حيث تبين بأنه إفترض تصورا مسبقا حولهم، من غير إدراك أو وعي، توصل لذلك، بعد أن رأى صورة جعلت إهتمامه بالعمل يفتر،

بالنسبة لجويس فقد تغلب عليه، ليس لأنه كان قبيحا ولكن لأن سارتر كان أقبح ولكن مجرد صورة جميلة جعلت إهتمامه يتزايد، من الواضح بأن تخيلاتهم تبدو أصح من الحقيقة أحيانا .

 

بعبارة أخرى لايوجد شيء مضاد بأن ساسكيا تشبه تصوراته حول تروس ، كانت تروس مجرد خيال يناديه، حيث تبدو ساسكيا وكأنها مطابقة للمواصفات وكل شيء في وضع منتظم ومستقر، لأن ذلك الخيال ليس لتروس ولكن له هو، ياترى من أين أقبل وظل غامضا بدون جدوى تذكر، في حقيقة الأمر ربما كان الأمر برمته  مقلوبا على بعضه أو العكس، تعرفت عليه ساسكيا من النظرة الأولى، بقلبها وربما تخيلها لأسباب مختلفة بعيدا عن الأخريات، رأى تروس أيضا على نفس الشاكلة،

 في تلك الحالة كانت تروس بطبيعة الحال التي فعلتها ظلما، لذا كان من واجبه عدم إكتشاف هويتها ولكن في حقيقة الأمر كيف كانت تبدو، هي نفسها: تروس كوستر أصبح أكثر برودة من مسافة بعيدة تدوي صفارات الإنذار لسيارات الشرطة ، يبدو بأن شيئا ما قد حدث مجددا في المدينة، مثل الذي حدث قبل عام ، كانت الساعة تشير للحادية عشرة والنصف،قرر الآن الإتصال يتيكس ثم ذهب للأعلى لغرفة النوم، كانت الستائر لاتزال مفتوحة والبطانيات أزيحت بعيدا، ساندرا مستلقية وفمها مفتوحا ، نائمة أسفل غطاء السرير أما ساسكيا فقد ظهرت وهي مرتدية نصف ملابسها، إمتدت ذراع على بطنها، في ذلك الصمت الدافئ يشعر بنعاس كامل ، ظل يتطلع ، يخامره شعور مبهم بموازاة شيء مهلك يكاد يلامسه، يبدو له كإرتباك عديم الجدوى، أو نسيج أفكار متوتر أو تخيلات مشدودة ، ظهرت مجتمعة إثر ضربة شمس، يجب أن ينسى وينام أيضا .

 

لكن بدلا من ذلك ذهب إلى معطفه، الذي علقته ساسكيا على أحد الكراسي وبإصبعين تناول الورقة من جيب صدره، بذلك الإحساس المبهم لايزال مشغولا بشيء لايسره أبدا .

 

 

 

 

(5)

في أي وقت تشاء ، قال تيكس عندما سأله أنطون متى سيأتي مجددا لزيارته عندئذ أبلغه بأنه يعاني من ألم حاد بالرأس ، في اليوم التالي عليه العمل حتى الساعة الرابعة عصرا، لذلك إتفقا على اللقاء لاحقا، أي في الساعة الرابعة والنصف، لاتزال

 الحرارة شديدة ، شعر بمشقة إثر الإرهاق والتركيز الزائد في العمل، لذا كان سعيدا يأنه سيتمكن أخيرا من التنزه في الخارج عند" نيوزايدس فوربروخ" كما أنه لازال يعاني من حروقا طفيفة في وجهه وصدره اللذين لفحتهما أشعة الشمس . تولت ساسكيا  هذا الصباح دهنه بالكريم ، في ذلك الحين كان يفكر بهدوء فيما إذا كان سيخبرها بموعده مع تيكس أم لا، عند شارع "سابو" إحتشد طابور من عربات الهجوم المباغتة الزرقاء تابعة لرجال الشرطة، يبدو بأن التوتر يخيم على المدينة لكنه أصبح شيئا مألوفا في تلك الأيام، بدليل أن المحافظ والوزير كانا يقومان بجولة تفقدية في تلك اللحظة، يعيش تيكس بميلة واحدة خلف قصر دام الشهير ، بمنزل صغير يتم الوصول إليه فقط عبر الشاحنات، يوجد على الواجهة من الأيام الخوالي حجر نقش عليه حيوان خرافي يصور سمكة بمنقار وكتب للأسفل : كلب النهر .

 

من بين اللوحات الكثيرة إستغرق أنطون هنيهات قبل أن يعثر على الإسم من بين الأسماء المنقوشة لمكاتب مختلفة، شركات تجارية، عامة وخاصة ، كتبت بقلم الرصاص على ورقة وغرزت بدبوس أسفل الجرس ، حيث ضغط ثلاث مرات حتى فتح الباب، رآه أنطون ثملا على الفور، كانت عيناه تبدوان مائلتان ووجهه مبقع أكثر من البارحة، ولم يحلق ذقنه، يوجد ضباب خفيف رمادي فوق فكيه يصل إلى مستوى القميص المفتوح، تبعه أنطون إلى ممر عالي طويل من جص متشقق إلى رقائق مثل قشر الجلد، عجلات رابضة، دزينات، أسطل، ألواح تتدلى حتى النصف مع بعضها، قارب مطاطي منفوخ خلف الأبواب يسمع صوت آلات الطباعة وراديو ، درج أثري مصنوع من خشب البلوط، بحلقة مقوسة تظهر بالممر ، يجلس رجل عجوز مرتديا معطف بيجاما رجالي ببنطلون مخصص للمنزل ، في تلك اللحظة كان يعبث بمجداف زوجي منزوع.

- هل قرأت الصحيفة؟ سأله تيكس بدون أن يتطلع إليه.

- لا ليس بعد.

- عبر أحد الأبواب في نهاية الممر ، بالمنزل الخلفي وصل إلى بهو صغير في نفس الوقت يستخدم كغرفة نوم، غرفة للمكتب ومطبخ للخدمة يوجد فراش مفكك وطاولة للكتابة، مغطا بالورق ، رسائل إشعارات حسابية، صحف مفتوحة، مجلات بين هذا وذاك كوب قهوة ومطفأة سجائر ممتلئة، وعاء مربى مفتوح وحذاء، إرتعب أنطون من مجموعة الأشياء المخزنة التي لاتتناسب مع بعضها، لايستطيع تخيل هذا المنزل تماما مثل ساسكيا،  كما يوجد مشط وقفاز يدوي فقط على المكتب ، كذلك

 قدور وأواني ،صحون غير مغسولة، حقائب كما لو أنه واقف في نقطة ما مستعد للمغادرة، في أعلى منطقة حوض الغسيل توجد نافذة مفتوحة تطل على فناء المنزل الداخلي الفوضوي، حيث تصدح الموسيقى، تناول تيكس صحيفة مفتوحة من فراشه طواها وبعد أن قلبها مرات عدة على هذا النجو عثر بالنهاية على مقالة بارزة في الصفحة الأولى:

 

ربما ستجذب إنتباهك تلك المقالة، قال هو ثم قرأ أنطون العنوان التالي:

ويلي لاخيس مريض جدا  ومفرج عنه.

فهم أنطون أبضا بأن لاخيس كان قيادي بارز في مايسمى "إس.دي" أو مايطلق علي الجستابو في هولندا، من خلال ذلك المنصب كان مسؤولا عن تنفيذ ألوف من عمليات الإعدام وترحيل مئات الألوف من اليهود، بعد الحرب حكم عليه بالموت وقبل سنوات قليلة حصل على العفو، حينذاك تظاهر حشد كبير من الناس .

- ما رأيك بالمقالة المنشورة؟ سأله تيكس .

لأنه مريض جدا ، ذلك أفضل لنا ياويلي الصغير، يجب أن تعلم بأنه كان ناشطا في ألمانيا، في غضون ذلك يبدو بأن الأمل تجدد لدى الناس وأصيب بالمرض،

 لكنه يبقى عيبا بسيطا ، كل هؤلاء السادة الإنسانيين بكل تفانيهم للبشرية ، كلفوا

 العديدين أرواحهم، أخيرا مجرم الحرب أقعده المرض، ذلك الجبان الحقير، أطلق سراحه بسرعة، هذا الفاشستي ، لأننا لسنا فاشستيين، فنحن نحتفظ بأيدينا نظيفة، ضحايانا أصبحوا الآن مرضى، يالهم من أناس حاقدين أليس كذلك، هؤلاء المعادين للفاشستيين ، حتى أنهم ليسوا بأفضل منهم.

 

هذا يعني بأنك ستكسبهم إلى صفك، إنسى ذلك ، من هم المؤيدين الكبار لذلك العفو؟ كل هؤلاء الناس ، أيضا أصحاب الأيادي النظيفة، أبناء الحرب ، الكاثوليكيين بطبيعة الحال ، لم يتحول إلى روم كاثوليكي بدون ثمن، لكن إذا صادفته في الجنة ، أفضل أنا بدلا من ذلك الجحيم، نظر تيكس إلى أنطون ثم تناول الصحيفة من يده ، هكذا إذن قمت بوضعها هنا؟ دعنا نرضخ للأمر الواقع ، بأن لون وجهك أحمر من

العار، أبويك وسقيقك وقعوا جميعا ذات يوم تحت رحمة هذا السيد .

-  ليس أثناء حطام اليوم.

ذلك الحطام؟ تناول تيكس سيجارة من فمه، تركها مفتوحة كي يتسرب الدخان ببطء، إذا وقع هذا الرجل في دي سوف أقطع رقبته، حتى لو تطلب الأمر بسكين جيب..ذلك الحطام ، كما لو أن الأمر يتعلق بالجسد،ألقى الصحيفة على المكتب ثم سحب بقدميه قنينة فارغة من أسفل الفراش ، فجأة نظر إليه بضحكة مرغمة، لكن على أية حال ،

الآن تعتبر أنت مساعد البشرية المعذبة من خلال وظيفتك الحالية ؟

أليس كذلك.

- كيف تعرف ذلك؟ سأله أنطون مندهشا.

لأنني في ظهيرة اليوم قمت بالإتصال بذلك الشرير حمام، يجب علينا

معرفة مع من تتعامل، بينما بقي أنطون ينظر إليه، حرك أنطون رأسه، في حين بدأت ضحكة تتسلل من فمه ببطء .

- لاتزال الحرب قائمة، أليس كذلك؟

- بالتأكيد، قال تيكس وظل ينظر إليه يمينا ، بالتأكيد.

شعر أنطون بضيق من النظرة الثاقبة للعين اليسرى ، هل يلعب الآن تلك اللعبة التي تدور حول من يرمش عينيه أولا، ثم إنجرف بعينيه للأسفل.

- وأنت ؟ سأله هو بينما كان يتطلع حوله، أنا كنت بمنتهى الغباء عندما إتصلت بشخص ما ، لكن قل لي ماذا تفعل بشأن كسب الرزق؟

- أنت ترحب بخبير الرياضيات الموهوب.

- رشقه أنطون بضحكة.

- خبير رياضيات وتترك مكتبك بتلك الصورة فوضويا.

- تلك الفوضى من الحرب، أنا أعتاش من مؤسسة أربعين-خمسة وأربعين التي أنشأت من قبل السيد (أ)ز. هتلر الذي حررني من الحساب بدونه لازلت أذهب للمدرسة كل يوم، من أريكة النافذة تناول

 زجاجة ويسكي ثم سكب لأنطون كأسا بصحة مشاركتنا الأسى وتخلصنا من مخلفات الحزن، قال ذلك ثم لكزه.

- في صحتك.

لم يكن لدى أنطون أي شك بأن ذلك الويسكي الفاتر سوف يساعده على التماسك، لكن لم يمنعه من الشراب، كان تيكس ساخرا أكثر من البارحة، ربما ذلك نتيجة للمقالة المنشورة في الصحيفة، أوربما من الشراب أو أنه خطط لذلك مسبقا، لم يطلب منه الجلوس ، بسبب أو

 آخر وجد أنطون الموقف مؤثرا ، لماذا يجب على الناس الجلوس دائما؟

كليمنصو دفن رأسيا، والكؤوس بأيديهم وقفا في الفضاء الصغير بمواجهة بعضهما البعض، كما في حفلة كوكتيل.

- في حقيقة الأمر كنت أعمل سابقا في الحقل الطبي، قال تيكس.

- أف؟ من هو رفيقك؟

- تستطيع أن تسميه .....

- أخبرني، قال أنطون شعر في تلك اللحظة بأن في الأمر شيئا بشعا.

- كان ذلك في المعهد النووي، في مكان ما بهولندا ، أستطيع القول بأن المسؤول وضع تحت تصرفنا عملا ذو أهداف نبيلة، حيث تجرى بعض العمليات وتنفذ أحكام الإعدام وهكذا تواليك.

- ذلك معروف بنسبة قليلة.

- يجب أن لاأعرف  تلك المعلومات، لن تعرف أبدا متى يكون ذلك ضروريا مجددا، يبدو أكثر من مصحة داخلية، مجموعة من الخونة يعملون في حلقتهم، يتجسسون وهذا نوع من المعضلات ، في الأسفل

داخل القبو أولائك حصلوا على حقنة من الفينول، إلى يمين القلب بإبرة طويلة، لاحقا قدم عدد من الشجعان يرتدون الأبيض عند منطقة حوض الغسيل المبنية من حجر الجرانيت وتم تقطيعهم على هيئة مقاطع عرضية، يوجد هناك حمام سباحة كبير بنموذج مثل طريق زراعي ممتلئ بالأيدي والآذان والأعضاء الذكرية، أحشاء البطن ، من الصعوبة وضع المعدومين مع بعضهم سويا، كلهم ضحايا العلم، هل تفهم جيدا

ما أقصد. نظر إلى أنطون بتحدي.

- أجل، أستمتع ليس من أجل نصف سنت.

- إذا كانت مصلحة جيدة..قال أنطون.

كان الأوغاد خائفين من ذلك المعهد، من الأفضل لو أنهم لم يأتوا إلى هناك، بالنسبة لهم كان يتحرك هناك مثل الشبح.

- لكن بالنسبة لك ، فالأمر مختلف.

يوجد هناك في الأسفل صف من الخزانات بأدراج مزدوجة، درج أو خمسة أدراج لكل خزانة، وفي كل درج توجد جثة، هناك قضيت ليلة في منزل "خيليخن" عندما كان لزاما أن أتوارى عن الأنظار .

- و؟ هل نمت جيدا؟

- كما لو أنني وردة.

- لدي سؤال ، تيكس؟ 

-  قل ماعندك أيها الشاب، قال تيكس بضحكة معسولة.

- ما ذا تريد أن تصل إليه؟ أحيانا ليس من المفروض أن أظل في طور النمو أو ماشابه؟

- ليس من الضروي، هل سمعت، لقد حصلت على نصيبي ولايوجد مخلوق يعرف ذلك أكثر مني...ظل تيكس ينظر إليه حتى تناول جرعة من الكأس، أود أن تعرف جديا مع من تتعامل، واصل النظر إليه ثم تناول بعدذلك قنينة الشراب، تعال إلى هنا دع الباب مفتوحا كي أستمع إلى التلفون.

 

مشى خلف تيكس على السلم نحو الطابق السفلي، حيث يوجد ممر آخر والمفتاح بيده فتح تيكس أحد الأبواب، الذي يؤدي مدخله إلى فضاء منخفض، للوهلة الأولى لم يفهم أنطون طبيعة المكان، كان متشائما عبر النوافذ العلوية لاح ضوء أسود ، حاول أنطون تغطيته عبر ضوء خافت لسلسلة أنابيب النيون، حيث ظل مسلوب الإرادة ومحدثا طقطقة، مع شحنة من الإنفعالات البفسجية المفرغة في النهاية، ألواح بيضاء تالفة مقابل الجدران، لايوجد مايشير لوجود مطبخ لأهل المنزل في الماضي، بموازاة السقف المنخفض حيث تمتد أنابيب التدفئة السميكة ونختلف خطوط الأنابيب الأخرى، في الوسط توجد طاولة خشبية ومنفضة سجائر ممتلئة، أمام الحائط الطويل توجد أريكة حمراء مهترئة ذات نسيج ذو ملمس ناعم مثل القطيفة ، إضتفة لذلك توجد خزانة كتب من طراو غربي قديم، بمرآة في الباب، ودراجة قديمة، يبدو المكان مثل مخبأ أو مقر رئيسي تحت الأرض، كأنه ينادي على شخص ما،  أيضا يوجد هنا وهناك كارت ممزق، ثبت بشريط لاصق على الحائط بمواجهة الأريكة، والكأس بيده مشى أنطون جانبا، بوصلة من ألمانيا ، وضعت بالزاوية السفلية اليمنى، مغطاة بالأحمر وموجات مدية زرقاء،كأن تحركات هجومية غير ملونة قدمت من فرنسا وروسيا متجهة إلى برلين، حيث تقابلت ببعضها هناك، بإستثناء شمال ووسط ألمانيا وغرب هولندا، ظلت عيناه معلقتان حول البحر ، لم يبقى من الأزرق المتلاشي سوى بصمة حمراء فاتحة شابحة من لسان، قبلة من شفاه ملونة مطبوعة، إلتف دائريا، بساقين ملتفتان ببعضهما جلس تيكس على الأريكة يحدق فيه.

- هكذا إذن، قال هو .

لماذا علق هذا الكارت؟ لايوجد حنين سامي للحرب، لكن لأن صورة فمها لاتزال ماثلة؟ هل الطابق السفلي مكان تذكاري؟ ربما لايوجد هناك أي فرق بينها وبين الحرب، أو ربما كانت الحرب معشوقته ، لذلك لم يتزوج بعدذلك. بالإضافة  عندما ذكرها بمقت، ربما تذكر في نفس الوقت "تروس كوستر" في ذلك الوقت كان

محظوظا. بلاوعي جنح برأسه على الرغم من أن بمقدوره الجلوس مرتكزا، مشى نحو الأريكة كي يجلس إلى جانب تيكس ثم نظر اليه مجددا إلى فمه، الذي يعلو البحر الشمالي، يبدو كما لو أن قمة وجهه كانت أسفل المياه، عندما كان شابا بالحادية أو الثانية عشر كان مبهورا بالناس في هارلم وهم يسيرون أشبه بخريطة هولندا وقد تم وضعها أسفل ميكروسكوب ، كما فعلها هو في الحديقة، تخيل نفسه منحنيا فوق ميكروسكوب...أوليفيا الجميل ، هناك لمست شفتيها الورق عندما كانت تثبت الكارت، وهو يسمع أخبار راديو إذاعة لندن، بينما تحدثا عما سيفعلانه بعد التحرير، بالقرب تناهى له صوت الشعب الهوائية لتيكس وهي تنتقل من موضع لآخر، وسيجارة بشفتيه سكب لنفسه مرة أخرى، ثم ظل صامتا، لم يصادف أنطون مثل ذلك الشعور بالتحدي مع رجل آخر ،ربما ينطبق الأمر على تيكس أيضا،سمع من الخارج بهدوء أغنية سلسة  من برج النواقيس في الكنيسة، نظر إلى دراجة خاصة بركوب الرجال بمتراس ومقعد غير مألوف هذه الأيام، يسمى سابقا "تيري".

 

- عندئذ لمح الصورة.

- تشبه نموذج البطاقة البريدية، من الزاوية السفلى للخلف يوجد كابل كهربائي مشدود ليس بعيدا عن خريطة البلاد، أخذ قلبه يخفق، مترددا حدق بوجهه، ربما بعد عشرين عاما من مكان بعيد سينظر إليه،  بعد مرور ثواني قليلة رمق تيكس بطرف عينيه، ثم أجال بنظره نحو الدخان الذي ينفخه للخارج، وقف ثم مشى ذاهبا.

كانت ساسكيا هي التي تنظر إليه، بطبيعة الحال ليست ساسكيا حقيقة لكن إمرأة أخرى تشبهها، لها نفس نظرة عين ساسكيا، مثل التي إلتقاها للمرة الأولى في "ويستمينستر آبي" فتاة ودودة غير جذابة، مابين الحادية والثالثة والثلاثين من عمرها، جذبت الضحكة فمها قليلا للزاوية اليمنى من وجهها، مما أضفى عليها إنطباعا كونيا، تنورتها الخجولة محكمة الإغلاق، محاكة من الأمام بمهارة بفتحة في الكم الفضفاض، ذات شعر متموج سميك يصل لذراعيها، من المحتمل كان أشقر قاتما لكن يصعب رؤيته، من الصورة ذات اللونين الأبيض الأسود ، توجد عند الحافة إضاءة شديدة ، تنكمش وتتقافز ومضات الضوء المتوهجة حول رأسها أمام الخلفية الداكنة.

- كان تيكس واقفا بقربه.

- هل هي دي.إر؟!

- لابد أن تكون هي.. هي نفسها.. قال أنطون بدون أن يجيل بعينيه عن الصورة. خرجت أخيرا من الظلمة إلىالنور بنفس نظرة ساسكيا، تذكر تخميناته في الأمسية الماضية، لكنه كان مثارا جدا  كي يستوعب درجة التشابه الغريب بينهما، لم يمنحه تيكس الفرصة المناسبة لتوضيح  بعض الأمور كما لو أنه حتى هذه الساعة بكل اليأس الذي يتملكه ظل مسيطرا على الموقف. فجأة سحب ذراعي أنطون ثم حركهما ببعضهما، مثل معلم وطفل ناعس العينين.

- أخبرني ماذا قلت أيضا؟

- لم أعد أتذكر المزيد.

- هل تحدثت بشأني؟

- لاأعرف المزيد، قال تيكس.

- حاول أن تتذكر، اللعنة صاح بصوت عال ، فجأة لازمته نوبة سعال، جرفته بزاوية حتى كاد أن يتقيأ تقريبا. ظل واقفا ويديه على ركبتيه عندئذ إتجه منقطع الأنفاس نحوه، قال أنطون: لقد رحلت، قال تيكس كنت أريد مصارحتك بذلك، لكن الشيء الوحيد الذي كنت أعتمد عليه، محاولة تذكر بأنها تحسست وجهي تلك الليلة، هناك حيث سال منها الدم، وكت أعرف بأنها جريحة، كنت في الثانية عشر، تفهم ذلك بالتأكيد ، لم أعد أعرف كيف كان صوت أبي يدوي في أذني، منزلنا إشتعلت فيه النيران، أبي وشقيقي إختفيا ، تلقيت صدمة كبيرة، عانيت من الجوع، قبعت في زنزانة مظلمة أسفل مكتب البوليس.

- مكتب البوليس؟ قال تيكس ثم نظر إليه بفم مفتوح أي مكتب بوليس تعني؟

- صمت تيكس فاقد الأمل مرخيا ذراعيه.

- هناك جلست ومن ثم ..عيسى المسيح...هناك كان بمقدورنا إنقاذها وإخراجها من هناك، وأنا في السجن كنت أفكر بهارلم.

ظهر أنطون بنفس اللحظة كما لو أنه يعد خطة في رأسه لمهاجمة مكتب البوليس في هيميستيدة، ثم إنعطف بعينيه جانبا مشى غاضبا ذهابا وإيابا ، كان طريقا أبديا، إختفت من العالم كله، إكتشف في نفس اللحظة بأنهم كانوا يجرون تجارب مع "إل.إس.دي" عند  الممر في الجامعة، بطبيعة الحال ربماضرب جمجمته بشيء ما، يعلم بأن أشخاص التجارب الجدد مرحب بهم على الدوام، ربما سيظهرون لو أن تيكس أخبره بذلك، ربما سيصاب بالجنون بما فيه الكفاية كي يقاضيه، لأجل ذلك يجب أن يسلم بالأمر الواقع لكنه لايريد ذلك ، لم يعد يشعر بشيء يريد أن يدفن ، ذلك الماضي الكيميائي إضافة لذلك تتزايد الإحتمالات بأنه لن يظهر كلية، لكن شيء آخر، أشياء غير متوقعة، لن يستطيع السيطرةعليها.

- ماأعرفه، قال هو بأنه يحمل بين ثناياه قصة طويلة في مكان ما،

- عن ماذا؟

- هذا لم أعد أعرفه.

- عيسى المسيح ‍ صاح تيكس ، شرب كأسه حتى فرغ تماما ثم عدل ياقته كما لو أنه مدير في الغرب جالس حول طاولة مفاوضات، هذا نسيته، هذا نسيته...ظب أنطون واقفا.

- من الأفضل ، قال هو سوف أربطك بشدة بكرسي ، يوجد ضياء في وجهي وتريد النيل مني ، لا..وألف لا...

نظر تيكس إلى الأرض.

- حسنا قال هو بإيماءة، حسنا ..لم يعد أنطون ينظر للصورة، كيف تبدو تروس كوستر وجهها لم يمحى من ذاكرته الدقيقة.

- هل كنتما متزوجان؟ سأله.

- سكب تيكس كوبا لنفسه، ثم جاء بالزجاجة إلى أنطون.

كنت متزوجا،نعم لكن ليس بها ، كان لدي زوجة وطفلين، بنفس عمرك ربما أصغر قليلا  لكنني كنت أحبها ، وهي لم تحبني لقد تركت أسرتي من أجلها، لكنها كانت تضحك إذا قلت لها أحبك، تجد ذلك تصرفا طفوليا، هذا ماأتذكره جيدا، لأننا قمنا بكثير من المسائل سويا وأخيرا كما ترى فأنا رجل مطلق ، بدأ يتحرك جيئة وذهابا من القلق مثل الدب الأبيض، تقاطع بنطلونه يتدلى منخفضا، بينما في الزاوية الخلفية من قدم البنطلون تتدلى الحواشي، فكر أنطون: هذا كل شيء حول المعارضة، رجل نصف مخمور، تعيس، مهلهل في الطابق السفلي، ربما يظهر كي يدفن أصدقائه، بينما مجرمي الحرب تم إطلاق سراحهم ولم تعد الحوادث تثير إهتمامه.

- قصة طويلة..قال تيكس ، نعم، هناك كان قويا في قصصه الطويلة، هذا المعتوه‍ من الرائع أن نجلس سويا نثرثر فيما لايضر وينفع، كانت تدور تلك الحكايات دوما حول الأخلاق، أحيانا حول ماجرى بعد الحرب، لكنه لم يتحدث كثيرا ، قال مرة واحدة بأنه عندما يفكر بأمر الحرب يبدو كما لو أنه كان في حفرة سوداء كبيرة يتطلع هنا وهناك، وعندما يتعلق الأمر بالأخلاق فإنه يسترسل كثيرا، ذات مرة سألتها: إذا إقترح عليك أحد رجال "إس.إس" خيارا حول من يقتل أولا: أباك أو أمك بتنويه غريب بأنه إذا لم تقل شيئا سيقتلهم جميعا، لقد سمعت بمثل تلك الأمور، قال ذلك  ثم ألقى عقب السيجارة في المطفأة، سألتني ماذا سأفعل إذن، قلت بأني سوف أزرر معطفي الرسمي ، أبي ، أمي، أبي ، أمي...إزاء تلك الوحشية تستطيع تصور وجود البلادة فقط، لكنها لم تقل شيئا، شخص تقدم بمثل هذا الإقتراح لايؤتمن عليه بكلمة، ربما أطلق الرصاص عليهم إلي حد الموت، لكن إذا قلت على سبيل المثال: أبي،" إذن ربما تطلق الرصاص على أبيك حتى الموت، ثم تقول بعدذلك، بأن هذا ما أردته، بالنسبة لها كان ذلك هو الأسلوب، برغبة مؤكدة، هذا كان أفضل بالنسبة إليها، هذا أمر رائع ..أجل رائع، جلسنا ليال طويلة نتحدث حول أعمالنا البطولية التي قمنا بها سويا، يجب أن تتصور كيف يبدو كل هؤلاء الذين حكم عليهم بالإعدام.

- هل حكم عليكم بالإعدام؟ سأله أنطون؟‍‍

- الآن يجب أن يضحك تيكس.

- بطبيعة الحال..لست أنت؟ ذات مرة ذهب إلى مكان بعيد، كان يتوجب عليه العودة لمنزله في منتصف الليل، بعيدا جدا في ساعة الذروة، حينها مكث في الظلام حتى شروق الشمس،في مكان ما ضالا في الشارع، إنحنى أنطون برأسه للخلف، كما لو أنه سمع من مسافة بعيدة صوتا يعرفه، بشرة خافتة، تلاشت سريعا، حتى شروق الشمس في مكان ما بالشارع، تحديدا كما لو أنه قد حلم ذات يوم بأمر ما.

 

- كان ضائعا كلية، يجب أن تعرف كيف يكون عندذلك معنى الظلام؟

- أجل ، قال أنطون ، كنت أريد حينذاك أن أظل طيلة الوقت مبحرا بالنجوم، أومأ تيكس لكن يبدو بأنه يسمع بصعوبة ماقاله أنطون.

فكر جليا حول مثل تلك الأمور، كان أصغر مني بعشر سنين، لكنه يتمعن مليا بالأمور، أكثر مني، على العكس من ذلك أبدو أنا مثل الكفيري الإفريقي من قبائل البانتو التي تقطن جنوب إفريقيا، رياضي غبي، ذات يوم تخيلت إختطاف مجموعة أطفال من "سيسي-إينكوارت" وإستبدالهم بمئات الناس الذين ينتمون إلينا، كيف أنتزع تلك الأفكار من رأسي؟ ماهو ذنب هؤلاء الأطفال فيما جرى؟ أجل... ماهو ذنب هؤلاء الأطفال؟ ليسوا بطبيعة الحال مجرد كرة، عددهم قليل تماما مثل الأطفال اليهود، الذين تم تصفيتهم في فرقة تمشى على الأقدام، ليسوا كذلك تماما، ولهذا يجب أن تعرف جيدا من هو الضعيف والهش ومن ال قوي، إذا كانوا هؤلاء أطفالهم ، وبطبيعة الحال أطفالهم،  إذن يجب أن تتعرف عليه من خلال أطفاله، ماذا سيحدث مع هؤلاء الأطفال،إذا لم تتم الصفقة التجارية بنجاح؟ أجل، إذن ستكون نهاية هؤلاء الأطفال وخيمة، بدون ألم يذكر ، في المعهد النووي بطبيعة الحال، خارج زوايا عينيه أطلق لمحة قصيرة  مقابل أنطون ثم قال: أجل ، آسف يا أخي ..أنا أستمتع بنصف سنت.

- قلت ذلك للمرة الثانية

- أف، أجل إنها حقيقة؟ قال تيكس متعمدا بدهشة محبوكة بمشقة، لابالطبع ، حسنا دعتا نكف  عن النقاش  ويكون نصف السنت خارج التداول، هل أنت متفق معي ؟ إذن لن تسير الأمور على منوال جيد، فاشستي ضد فاشستي، تلك هي أدواتي لأنك لاتفهم لغة أخرى، ذلك أنوي إستخدامه لحملة دعائية للأسلحة، لكن في اللغة اللاتينية هذا تعرفه جيدا، مثل الأبجدية ،  كيف يكون فاشستي ضد فاشستي..كرر أنطون، هذا لايجوز في قاموس اللاتينية، الوجوه تعني "مجموعة بلطات" ، حزمة بلطات بمواجهة حزمة بلطات، هذا لايعني شيئا، فهمتها إذن،قال تيكس: لم ترى تروس كذلك شيئا، بالنسبة لها يجب أن آخذ حذري، بأن لاأتغير عليها أبدا، لأنه بهذا الشكل سوف تنتصر في نهاية المطاف، أجل كانت فيلسوفة، ستينفايك، لكن فيلسوفة بمسدس.

في تلك اللحظة التي قال بها تلك الكلمات، مشى بموازاة الخانة الكتانية ثم إنحنى وسحب درجا وفتحه، وضع مسدسا كبيرا على الطاولة ومشى نحو الأمام، كما لو أن شيئا ما قد حدث في تلك الساعة، فزعا نظر أنطون إلى الآلة السوداء المنطفأة، التي وضعت فجأة ، يلمع نوعا من التهديد في الأفق، بحيث تبدو الطاولة وكأنها تحترق، نظر للأعلى.

- هل هذا هو مسدسها.

- أجل هذا مسدسها.

- متوترا وضع هذا الشيئ على الصفحة، مثل بقايا آثار حضارات غابرة من ثقافات أخرى، محفورة في الخشب تنطلق من ضوء النهار.

- هل أنت متورط بقتل بلوخ؟

أصبت الهدف، قال تيكس بينما ظل واقفا ومصوبا إصبع السبابة بإتجاه أنطون ، نظر هنيهة إلى المسدس، رأى أنطون رويدا...رويدا بأنه يتخيل شيئا آخر، كنت مشغولا بغباء تلك الليلة، قال ذلك وهو غير واثقا، كأن الخير والشر قد إجتمعا سوية عندما مشينا يدا بيد ، هناك عند الرصيف الذي تقيم فيه، ببطء شديد، مثل عاشقين صامتين، أستطيع القول، بناء على ، هذا ماحدث تماما ، حاولنا تجاوزه ثم نظر إلينا هنيهة قائلا: أيضا صباح الخير، عند ذلك صاحت توروس  ثم تركنا ،

 ضحك قليلا مجددا، لاحقا إنطلقت أنا أولا، ربما أراد بأن أتخلص منه على الفور، لكنه كان رقيقا، كان علي ترك المقود بيد واحدة، كي أخرج المسدس من جيبي، وعندئذ بدأت رويدا...رويدا أتوارى عن الأنظار، أطلقت عليه الرصاص في ظهره ولاحقا في ذراعه وبطنه لكنني رأيت في حقيقة الأمر  بأنه شخص عديم القيمة، عندما سقط على الأرض ، كنت أريد معاودة الكرة مرة أخرى، لكن مسدسي إرتطم محدثا دويا عاليا، قدت دراجتي بسرعة كي أجهز مكانا لتوروس، عندما تطلعت حولي رأيتها ترتكز بحذاءها على الرصيف، تشير برفق إلى لوحة كتفيها،كانت تبدو ضائعة تماما، تخفي رأسها بين ذراعيها، أطلقت الرصاص مرتين ثم وضعت المسدس في جيبها وقادت دراجتها بسرعة،يبدو بأنها كانت واثقة من موته. لكنني رأيت بأنها لم تصوب المسدس كاملة، صرخت، بأنها يجب أن تمر من هنا ثم بدأت تعدو بأقصى سرعة، عندئذ أطلقوا عليها الرصاص، ولسوء الحظ أصابوا الهدف، في مكان ما  بظهرها.

 

كان يبدو كما لوأن المسدس كان ثقيلا على الطاولة بحيث أن أنطون إنجذب معه، إلى عمق الماضي ، كما لو أنه نسي تماما  ماحدث، حيث مثل الدور في الزنزانة لاحقا، تذكر بوضوح تلك الأمسية الأخيرة التي قضاها في المنزل، الطلقات ثم مغادرة الرصيف مع جثة بلوخ، كان يعرف دوما بوجود أناس مسبقا في نفس المكان، توضحت الحقيقة الآن، الصراخ، الذي سمعه كان صادرا ليس من بلوخ إذن، لكن من تيكس، أقسم بأنه كان صراخا نابعا من خوف شديد.

بدأت المطفأة التي بقرب المسدس تشتعل من غير لهب.

- عندئذ ؟ سأل هو؟

- عندئذ...عندئذ...عندئذ...قال تيكس ، بينما قام برقصة غريبة الأطوار وعندئذ ظهر فيل ذو خرطوم كبير ينفخ القصص نحو الخارج، لم يتمكن من مواصلة الحديث، حاولت وضعها على حمالة الحقائب، وبعد ذلك حاولت إخفائها في مكان ما بين الأعشاب، لكن عندذلك جاء الأوغاد ثم أخذت إمرأة بالصراخ من النافذة، تشير إلى مكان وجودنا ، ناولتني مسدسها وقبلة وهذا كل شيء، ثم أطلقت الرصاص قليلا وهربت، كم تمنيت الإهتمام بتلك المرأة في مكان ما، قبل أن تنتهي الحرب لكنني فشلت، كانت لاتزال تمشي في مكان ما مثل جدة حبيبة، تناول المسدس من الطاولة ثم وضعه بيده مثل قطعة أثرية قديمة أو جوهرة غالية الثمن، مع هذا كنت أود التحدث معها، مساء الخير ياسيدتي ، كيف حالك؟كل شيء بخير؟ هل الأطفال بخير؟ وضع إصبعه حول الزناد ثم تفحص المسدس من جميع الزوايا، تستطيع

 إطلاق النار علي الآن ، هل تعلم ذلك؟ بعد الحرب كنت أنوي تسليمه إلى حماك أو أصدقائك،  أستحق العقوبة الآن، تستطيع الإحتفاظ به كتذكار، لكن يجب أن تنظف ماسورة المسدس ولكنني هناك صرفت النظر، لن تعرف أبدا فيما إذا ظلت فيه طلقة واحدة سأطلقها حتما، قال هو ثم نظر لأنطون للمرة الأخيرة، وضعه جانبا ثم وخز إصبعه وهو مستمتعا إسمعني؟ بكى قليلا ، شعر بأنه بلا كيان مثل أم تدلل طفلها، فعلت توروس نفس الشيئ هناك، يبدو بأن عينيه تدمعان، لكنه لم يبكي، هل تعرف قال هو من غير إنقطاع، رأيت فيلما حول رجل تتعرض إبنته لعملية إغتصاب ثم تقتل، يسجن ذلك الرجل ثمانية عشر عاما ويحلف بأنه سيقتله فيما إذا أطلق سراحه في حالة تخفيف العقوبة، أو حصل على شهادة حسن سير وسلوك ثم العفو، أليس كذلك؟ والصمام في جيبه وقف ذلك الرجل خارج مدخل السجن بينما جلست أنت طيلة اليوم تشاغلني وتتحدث معي، في نهاية المطاف أطلق عليه النار وأرداه قتيلا، لأنه فهم بأن الآخر معدم فقير وضحية الظروف ، رن الهاتف في الأعلى، ثم إتجه ببطء نحو الباب، أنهى تيكس قصته: الطلقة الأخيرة، ظل الرجل ساهما، ثم رأيت الرجل الآخر هاربا مع حقيبته نحو ممر الغابات، بعدذلك ظهرت فوق وردة  نقطة بيضاء تقدمت للأمام، إنها النهاية. في تلك اللحظة فهمت للفور شيئا واحدا مؤكدا، على أية حال على الرغم من حذاقة ذلك الرجل ، كان الأحرى عليه إحضار مسدسه، ثم إطلاق الرصاص على الآخر في ظهره، لأن الفتاة لم تقتل بسبب الظروف لكن بسبب ذك الشقي، وإذا أنت لم ترتكب ذلك، إذن سأقسم لك بأن جميع الناس الذين وقفوا تحت رحمة الظروف العفنة يجب أن يعيشوا كمغتصبين أو قتلة، أنا قادم......

 

- خفت حدة السكون في الطابق السفلي، لكن العنف الذي نادى فيه تيكس ظل معلقا مثل صدى غير مسموع، كانت تسمع فقط طقطقة رقيقة لصمام النيون، وظهره بإتجاه المسدس ذهب أنطون للجلوس عند حافة الطاولة، ثم نظر بشفتيه إلى بحر الشمال، يبدو بأنه يريد أن يضغط على لسانه لكن لم تتملكه الشجاعة، الصورة ، نظر ضاحكا إلى الوجه مجددا، حيث كان ينظر إليه دائما، بدون أن تحرك عينيها، مئات من الناس يستطيعون النظر دائما كما ينظر الجميع في نفس اللحظة إلى الصورة، ولن يتقدم بهم السن وربما لن يروا نفس تلك الصورة، بنفس لمحة عين ساسكيا ، نظرت إليه في الظلمة، مرت به وهي ذاهبة في طريقها ، منذ لحظات قتل مجرم في الهزع الأخير من الليل، عرف أي نوع من التعذيب تلقته قبل أن تعدم عند التلال الرملية، وضع يديه على وجهه، حيث تحسسه ثم أغلق عينيه، العالم هو الجحيم، فكر هو ، أجل الجحيم ، كما لو أن الجنة ستستقر غدا في الأرض، ورغم كل ماحدث في الماضي ، لن تظل الأرض فردوسا، لن تتحسن الأمور ابدا، إن الحياة في الكون كانت خيبة ، عثرة كبيرة، وكان من المستحسن لو لم تظهر للوجود، وبعدذلك لن توجد مزيد من الذكريات، حول صرخات الموتى وسوف ينتظر العالم مجددا.

 

فجأة شم رائحة عفنة ثم فتح عينيه، من خارج المطفأة إرتفع عمود دخاني أزرق مستقيم للأعلى، تخلص من بقايا الويسكي على الركام الملتهب، لكن ذلك جعل الرائحة تتصاعد، رأى في زاوية بأعلى حوض الغسيل مربع الزاوية المنخفض حنفية المطبخ، لكن عندما أراد رفع المطفأة للأعلى، إحترقت أصابعه، والكوب بيده توجه نجو الحنفية، ثم ترك المياه تتدفق فوق أصابعه، لاحقا ألقى الكوب فارغا على مطفأة السجائر، تشكلت عجينة سوداء كثيفة قذرة...تموج الدخان مقابل بطانة أرضية السقف، بعدذلك حاول بلاجدوى تحريك النوافذ المرتطمة ثم خرج من الطابق السفلي، وهو ماشيا في الممر فكر بالمسدس على الطاولة، يبدو بأنه نسي المفتاح بالقفل،أغلقه ثم ذهب خارجا على السلالم.

 

وقف تيكس في الخارج ينظر إلى غرفته ثم وضع السماعة على خطاف التعليف ثم خرج يصيح في الخارج مع صوت سيارات الإطفاء ، هنا المفاتيح، قال أنطون ، إنها تتعفن بالداخل ، إن المطفأة تشتعل.

- لم يلتف تيكس من حوله.

- هل تتذكر أنت ذلك الرجل، سأله، ذلك الذي كان جالسا بقربي ليلة البارحة في المقهى؟

- أجل بالتأكيد، قال أنطون، هذا هو.

- هذا الرجل في الناحية الأخرى، هو نفسه الذي كنت أتحدث معه .

- إنه رجل غامض كما يبدو لي.

- لقد حاول الإنتحار.

- شعر أنطون بأنه لايستطيع سماع المزيد

- لماذا؟ همس بصوت خافت، على الرغم من ذلك  لايريد أن يهمس.

- لقد إحتفظ بكلمته، قال تيكس ، لم يعد تحمل أكثر من ذلك، ومن ثم حصل لاخيس على العفو وهو في الثانية والخمسين من عمره، والآن يطلقون سراحه ، هكذا إذن لكننا ضحكنا فحسب، كان خائفا من أنه سيصبح إنسانا خرافيا يبلغ عمره 969 عاما وهو داخل السجن. ظل أنطون ينظر إلى ظهر الرجل لحظة من الوقت، حينئذ إلتف خارجا من الغرفة ثم إختفى الرجل العجوز الذي يرتدي معطف البيجاما القصير خلف الباب ، إنطلق من جهاز المذياع صوت خافت: "ورود حمراء للسيدة الزرقاء" .  

     

 

 

 

 

 

الواقعة الأخيرة 1981

 

(1)

 

 

عندئذ...عندئذ...عندئذ إنقضى الوقت ، عموما هذا الأخير ألقيناه خلف ظهورنا

قلنا في أنفسنا ، لكن ما الذي لم نفعله بعد للجؤجو أو مقدمة السفينة ، حسب مفهومنا اللغوي فإننا نرتكز بوجوهنا نحو المستقبل ، أما الماضي فهو خلف ظهورنا ، هكذا يمارس الآخرين نفس التجربة ، أيضا يوجد المستقبل أمامه ، أما الماضي فهو خلفهم ، بالنسبة لخصائص النفس الذاتية ، فإن الحاضر عبارة عن سفينة ، تسير في بحر وعر ، تتولى مقدمتها جرف أمواج المستقبل ، بالنسبة للأشخاص المذعنين طواعية يوجد مسبقا ما يسمى بالرمث أو الطوف ، يطفو فوق النهر بهدوء مع التيار ، مع كلا الإفتراضين يوجد بطبيعة الحال شيئ غريب على اليد ، لأنه فيما إذا تحرك مع الزمن ، بالتأكيد ستكون حركة الزمن الثاني ، بهذا الأسلوب يتبين للوجود عدد من الأزمنة ليس لها عد أو حصر ، مشهد من نوع خاص يثير إستياء المفكرين، ولكن إفتراضات جذب الشعور ، في الوقت الحاضر تجذب مرة واحدة القليل من الفهم ، لكن من يكون المستقبل أمامه وخلفه الماضي

كأنه يقوم في حقيقة الأمر بشيء غير مفهوم مختلط ، يحتفظ له بالوقائع بشكل أو بآخر يكون حاضرا في المستقبل في لحظة زمنية موثوقة يصل إلى الحاضر ، حتى يحصل في نهاية المطاف على الهدوء والسكينة في الماضي ، لكن لايوجد شيء في المستقبل ، إنه فارغ . في اللحظة

 القادمة حيث يفنى البشر ولايعود شخص ما بوجهه إلى مكانه ، بينما في الوقت الحالي يلمح خلفه شيئا : هو الماضي ، مثل المحفوظ بالذاكرة ، لهذا السبب تحدث الإغريق حول المستقبل ، قائلين : لم نضع الجميع بعد خلف ظهورنا ! حسب تلك المقولة يكون أنطون ستينفايك إغريقيا .

 

أيضا وقف بظهره نحو المستقبل ووجهه نحو الماضي ، يفكر بتمعن حول الزمن ، على سبيل

المثال ماذا فعل ، يرى وقائع ليس مصدرها المستقبل ، لكن عبر الحاضر في طريقها نحو الماضي ، لكنها خارج الماضي تتطور في الحاضر ، في طريقها إلى المستقبل المشكوك فيه ، بالإضافة لذلك في كل مرة يجب أن يقوم بتجربة ، مثل التي قام بها خاله في  غرفة العلية (الصندرة) ، حياة مصطنعة ، أحد الحلول تتمثل بإحضار كوب من الماء توجد به رطوبة لزجة ، حيث إحتفظت أمه في بداية الحرب ببعض حبات البيض ثم ترك مادة سلفات النحاس البلورية تسقط في قعر الكوب، بلورات من الأزرق الذي لاينسى ، لمحها مجددا في مدينة بادوا ، عند فريسكو من جهة خيتو ، حيث بدأ الدود بالتشكل ثم ينمو غلاف أسموزي وهو تبادل يحدث بين سوائل مختلفة الكثافة ، تفصل عن بعضها البعض بغشاء عضوي حتى يتجانس تركيبها ،تتورم مجددا ، هناك في غرفة العلية وهي حجرة تحت السقف العلوي ، تنجذب أغصان زرقاء لفترة طويلة ، بواسطة الشحوب المقفر، لكوب الماء .

 

يتذكر رحلة شهر العسل في مدينة بادوا مع زوجته الثانية ليسبث ، كان ذلك تحديدا عام 1968 بعد مرور عام على إنفصاله من زوجته الأولى ساسكيا ، درست ليسبث تاريخ الفن وإشتغلت لبعض الوقت بالقسم الإداري التابع لإحدى المستشفيات المغالية في العصرنة ، حيث كان يعمل

هو في نفس الوقت ، كان غير سعيدا لكنه يكسب جيدا ، تزوج أبيها قبل الحرب بمدة قصيرة وعندما كان شابا غادر للعمل كموظف إداري في الشركة الهولندية-الهندية ، حيث أرسل من قبل اليابانيين لإحدى المعسكرات ، كما إشتغل في طريق السكك الحديدية "بيرماس" ، لكن إذا تحدث

معه أنطون حول تجاربه إبان الحرب يكون جوابه دائما  بالنفي ، أما ليسبث فقد ولدت بعد زمن قصير من عودته إلى وطنه، وليس لها علاقة من قريب أو بعيد بما حدث له في الماضي ، على الرغم من أنها لم تذهب معه إلى أندونسيا أبدا، ولاتسري في عائلتها دماء أندونيسية ، ملامح

وجهها تميل إلى الشرق  كذلك حركاتها ، ذات مرة سألها أنطون فيما إذا كان جوهر الحقيقة ينطبق على مزاعم ليسينكو، ربما حمل ذاك الأخير صفات وراثية مكتسبة .

 

بعد مرور عام على زواجهما ولد إبنهما الأول أسماه بيترتيمنا بشقيقه  ، بينما بقيت ساسكيا وإبنته ساندرا في المنزل القديم ، إشترى هو منزلا في جنوب أمستردام ، كانت تحيط به حديقة ، عندما يحتضن ولده بين ذراعيه ، يعلم جيدا بأن إبنه بعيد جدا كل البعد عن أجواء الحرب العالمية الثانية ، التي تختلف عن الحرب العالمية الأولى ، لكن بالنسبة له ماذا تعني الحرب العالمية الأولى ! أقل من حرب أبونسيسية ، وهي الحرب التي دارت بين أكبر قوتين حاكمتين في بلاد اليونان أثينا وسبارتا وكانت حربا طويلة ومنهكة ، أدرك بأن ذلك ينطبق أيضا على ساندرا ، لكن لم يخطر  في باله مسبقا مثل ذلك الفكرة على الإطلاق .

 

 

 

 

 

 

أصبح يقضي إجازاته في توسكانيا الإيطالية وإشترى هناك منزلا قديما يقع عند حافة قرية ، في حي يدعى سينا ، إشتراه بمبلغ زهيد وطلب من مقاول محلي إعادة بناؤه ، تشكل الركن الخلفي بإتجاه التلة البارزة ، بموضع أو آخر بقيت الكتلة الصخرية ظاهرة على شكل شريط بني أصفر مائل ، ثم أصلح الشرخ الموجود في الحائط الحجري  هناك بسط يديه منشرحا ، يخامره شعور بأنه سوف  يمسك بشدة على الأرض بأكملها في غرفته ، أيضا في أيام الميلاد يركبان سويا سيارة ماركة ستيشن ومنذ ذلك الوقت يعيش حياته من إجازة لأخرى ، كما لو كان جالسا

في شرفته خلف ظلال شجرة الزيتون، يطل نحو الخارج حيث التلال الخضراء مع مروج النبيذ، أشجار السرو، الدفلي وهي جنيبة حمراء اللون تستخدم للزينة ، تنمو في تلك البقعة كما توجد هناك أبراج مربعة الشكل تتمايل كما لو أنه في بلاد العجائب ، ليس هذا الجمال فحسب ، لكن في لحظة عميقة من الزمن أشبه ببانوراما من عصر النهضة حيث يبدو المشهد التالي أشبه بديكور من الحضارة الرومانية القديمة ، في جميع الأحوال من مسافة بعيدة إختفى في

مدينة هارلم بصعوبة ، في شتاء حرب عام 1945 . في الأربعين من عمره بدأ يجول بأفكاره ، ماذا لو يستقر هنا دوما ، مثلما خرج شقيقه بيتر من المنزل ذات يوم حيث كانت توجد أربعة منازل ، لأنه على أي حال يجب أن يمضي إلى مكان ما في إجازة نهاية الأسبوع ، إشترى مزرعة صغيرة في قطاع خيلدرلاند الهولندي ، حيث تشرف عليها أسرة زوجته الأولى ،  كذلك بمقدور ساسكيا وإبنتها ساندرا قضاء بعض الوقت فيها ، أيضا تأتيان في الإجازات إلى منزله بتوسكانيا،  تزوجت ساسكيا من عازف هوبو، أصغر منها قليلا مشهور دوليا ويمتلك روح

 دعابة مثل الأطفال ، يلتقيان سويا في منزلهما ، كانت عائلة دي خراف نادرا ما تذكر هذا

 الزواج ، لكن ساسكيا كانت تود  أحيانا الإبتعاد عن صديقاتها وهن مجموعة من الفتيات اللاتي يرتدين تنورات مثنية وأحذية مسطحة وشالات مصنوعة من الحرير حول أعناقهن ، كذلك عقود اللؤلؤ، غير واعيات ذهبت مرة بمعية  ثلاثة أطفال للإحتفال معهن بإجازة في إيطاليا ، بدا واضحا وجود شيئ أشبه بالتفاهم ، لايزال قائما بين ساسكيا وأنطون ، مما كان يثير غيرة ليسبث

 بسرعة، لكن زوج ساسكيا كان يضحك دوما وعلم جيدا بأن ذلك التفاهم سوف يؤدي إلى طلاقهما ذات يوم ، تعتبر ليسبث الإبنة الصغرى من بين أربعة ، كانت تستوعب جيدا ما يدور حولها ، في نفس الوقت تعتبر بشكل أو بآخر قائدة الحضور ، لذا كان يطلق عليها الجميع لقب ماما ، مما جعل أنطون يشعر لحد ما بالرضا والإمتنان .

 

يبدو بأن الصداع أخذ بالتلاشي على الرغم من تقدمه بالعمر ، لكن في عامه الأربعين عانى بصعوبة على مدى عام كامل من أمور مختلفة، شعر بالتعب والكآبة وكوابيس الليل التي تقلق

منامه ، لدى إستيقاظه تداهمه في الحال مشاعر من الغضب والقلق مجتمعة كلها لاتسره، المنازل

الأربعة ، وساندرا التي تركها تعاني الأمرين من الإنفصال وكل شيئ ، عندما تسقط ورقة الخريف يبدو دوما شارد الذهن وتائها فيما يدور من حوله ، كأنه يكتشف في تلك اللحظة بأن مريضا سيموت بين يديه ، فجأة يتحول البشر إلى فضلات ثم يسير كل مخلوق في طريقه، يمضي الجميع صامتين وتغلق الأجهزة ، بإحدى يديه جذب في فمه شريحة من اللحم ، وفي اليد الأخرى جذب قبعته ثم مشى متثاقلا ، مائلا برأسه قليلا، خرج من غرفة العمليات ، بينما ذهب إلى إيطاليا في يوم قائظ ، فجأة إندلعت أعمال شغب ، أخذت بالتصاعد ، ويبدو بأن نهاية تلك الأشهر المقلقة قد شارفت الآن على النهاية .

 

لأن جزار القرية ليس لديه  شيئ آخر سوى لحم العجل ، ذهبت ليسبث صباحا مع بيتر إلى

سينا ، تتولي عادة بنفسها عملية التسوق في المدينة ، كي تتجول بين شرفات المقاهي على رصيف طريق كامبو الثاني ، الذي يظهر على شكل محارة مقلوبة  لامثيل له ، شيد منذ قرون طويلة ، يظهر عدم وجود تطور في فن العمارة ، لكنه في ذلك الصباح شعر بتوعك وآثر المكوث في المنزل ، جلس يقرأ ثم نظر بغتة للسكون الذي يحيط به ، وقعت عينه على الولاعة البيضاء الملقاة على الطاولة على شكل حجر نردة، حصل عليه من عائلة ليسبث ، مضطربا بدأ يسير من غير هدى بين الغرف ذات الطلاء الأبيض ، ذهب إلى السلم الملفوف يمشي بخطوات غير منتظمة للأعلى ثم توقف ، في تلك اللحظات حاول الجلوس لكن حالته إزدادت سوءا حتي إنه توقف فورا ، لكن ماهو الأسوأ؟ كان يشعر بألم ليس له موضع ، لاتوجد حمى ، كل شيئ منتظم ، فجأة إنقلبت الأمور رأسا على عقب ، كان يتمنى عودة  ليسبث وبيتر على أحمر من الجمر ، يجب أن يعودان في الحال ، قال مع نفسه ، شيئ يجهل مكنونه ، مشى بعجالة إلى حافة الشرفة ، لكنه إختفى بشدة في الطريق الزراعي الذي يقع خلف التلة ، بالقرب منها طواحين هوائية محطمة  ذهب للداخل ، عبر الباب الأمامي نحو الخارج ثم تسلق خطوات المنحدر متجها إلى الشارع ، عندئذ وقف في مكان مرتفع عن السطح ، ربما سيمشي أولا في أرجاء المنطقة لكن سيارته كانت غير موجودة في المكان المخصص لها .

 

 يبدو الميدان نسبيا بدون أشجار كبيرا بالنسبة للقرية، كما ظهر وكأنه رش للتو بالمياه المغلية، يمشي أحد المسنين مع زوجته المسنة مرتديان الأسود، هناك عند الظلال السوداء للكنيسة حيث جلس عدد من المسنين ، لكن الرجل وزوجته مشيا بإتجاه الشمس مثل إسطبلين متفحمين في الضوء الساطع . في تلك اللحظة بينما كان واقفا هناك كأن جبلا موحشا إرتفع مثل موجة مد ثم إنهار عليه فانيا ، قفز الدرجات حتى النهاية، ضرب الباب الأمامي حتى أغلقه خلفه، ثم نظر مرتعشا فيما حوله ، كانت الجدران الساكنة التي إلتصقت بالجبس الأبيض تصرخ من بياضها الناصع في وجهه، بندول السلم، المتاريس الخشبية غير المصقولة ، تحولت كل الأشياء إلى خطر داهم، أشياء جامدة في جمجمته، إنكسرت الكتلة الصخرية بفعل الكلس ثم إنفلق بإتجاه رأسه، ويديه

أمام صدره ذهب إلى الشرفة ، أشجار السرو في كل مكان على التلال، حيث تشتعل نار سوداء ، لاحظ بأن أسنانه تصطك مثل طفل صغير خرج للتو من البحر ، لكنه عاجز عن فعل شيئ ، شيئ أشبه بالعالم ، الخنافس لاتحدث فيه أزيزا شديدا ، مشى لاهثا في طريقه إلى المنزل ذو القرميد الأحمر ، في الأعلى فتح بشدة مرآته القديمة على شكل ولد صغير ذو عين سوداء من حجر النرد، أدرك بأن عليه السيطرة على الموقف الآني، كي لاينمو بسرعة فوق رأسه ، ذهب للجلوس على الكرسي الأيمن ، وهو كرسي إيطالي صغير ذو مقعد مجدل، أخفى أنفه

ولسانه بين يديه ثم أغلق عينيه محاولا الإسترخاء .

 

-  هكذا إذن حائر ومرتجف أشبه بتمثال من أزمنة الزلازل ، عثرت عليه ليسبث لاحقا، عندما رأت رمشة في عينيه، لم تسأله فيما إذا كان من اللازم إحضار الطبييب أم لا لكنها فعلت ذلك ، نظر أنطون إلى بيتر وحاول أن يضحك ، عندئذ وضعت ليسبث حقيبة التسوق الممتلئة على الطاولة، في الأعلى توجد علبة إنفلت منهاالورق طوتها على شكل وردة ثم أخرجت قطعة اللحم

الحمراء .

-  وصل الطبيب في الحال ، بعد كشف دقيق ومطول ، أعطى أنطون حقنة ، في الحقيقة هؤلاء البشر لايستغربون  حول مثل تلك الأمور ، بعد الحقنة نام خمسة عشر ساعة  ، صباح اليوم التالي إستيقظ منتعشا قليلا، توجد وصفة من حبوب الفاليوم يستخدمها فيما إذا ساءت حالته مجددا ، لكنه مزقها على الفور ، لأنه إعتاد  تمزيق الوصفات الخاصة به، لكن يعرف بأنه سيقضي بقية حياته بتناول الحبوب فيما إذا بدأ بذلك الآن ، منذ ذلك الحين تكررت نوبات المرض مرات عديدة  ولكن أقل حدة ، في نهاية المطاف تلاشت كما لو أنها تخوفت من الورق  الممزق ، حيث تم إبلاغهم بهوية الزعيم .

 

بالنسبة إليه ظل منزله ومنظر الشرفة مشهدان لن تنساهما الذاكرة ، بعد الظهر يبدو بأنهما فقدا

خصوصيتهما ، مثل وجه جميل شوهته الجروح ، إنقضى الزمن أصبح شعره رماديا مبكرا ، لكن ليس أصلعا مثل أبيه ، بينما يخفي مظهره الخارجي للناس الكادحين بشدة بنفس الدرجة مثل طبقة البروليتاريا ، ظل مرتديا المعاطف الإنجليزية والقمصان الخارجية المربعة الشكل بربطة

عنق ،  رويدا ..رويدا  بلغ درجة من العمر بحيث لازال يتعرف على المسنين الذين يعرفهم

عندما كانوا كبار السن ، مثلما هو الآن .

 

كان إكتشافا مثيرا للغاية ، حيث ينظر أيضا للمسنين والشباب بعيون أخرى ، أولا نفسه ، ذات مرة سيتقدم به العمر أكثر من أبيه وذلك منحه شعورا بالإثم ، يريد أن يوبخه ، في الماضي

لم يعتد على إستخدام الأمثال الشعبية مثل :ماحدث قد حدث أو " الأفضل هو عدو الخير"

أو أن إمتلاك حاجة يعبر عن نهاية للضحك، لقد بلغ مرحلة من العمر ، بحيث يعتبر إستخدام مثل

تلك الأقوال ضرورة أو تعبيرا عن وجهة نظر أو في حالة التعبير عن شعور ما تجاه شخص أو

حالة معينة . إكتشف بأنه ليس من السهولة إستخدام كليشيهات مخجلة مبسطة ، لكنها إشارة لخبرات حياتية تتوارث من جيل لآخر ، غالبا حول حقائق عقيمة ، لاتشير إلى حكمة مقتحمي الفردوس، لأن هؤلاء ليسوا بحكماء ولم يسمع بهم من قبل ، عادة يتجنب ئلك .

 

بعد موت خالته وضع صورتها المأطرة على مكتبه بالقرب منها صورة خاله ، ولم يضعها في

أحد منازله ، لكن في غرفة مكتبه بالمستشفى ، في النصف الثاني من سنوات السبعينات توفي

حماه دي خراف، حضر جنازته عدد قليل من الناس مقارنة بالجنازة السابقة ، كان هينك حاضرا بشاربه الذي أصبح رماديا وأيضا ياب بخصلة شعره التي أصبحت   بيضاء تماما ، لكن الوزير والعمدة توفيا تماما مثل القسيس والشاعر والناشر ، كذلك تيكس لم يره بعد ذلك أبدا ، لكن عندما تم إبلاغه بالوفاة ، علم الجميع بأنه لازال على قيد الحياة ولم يسمع عنه أحد طيلة السنوات الأخيرة، بعد مرور أسابيع لاحقة توفيت حماته، توجه حينذاك لمحرقة الأموات إلى جانب ساسكيا

وساندرا وزوجها ، رأى التابوت يتلاشى تدريجيا في السرداب مع النار ، إندهش  عدما رأى عصاها السوداء اللامعة بالزر الفضي لكنها لم توضع على الغطاء كما لو كانت جنرالا عسكريا.

 

على الرغم من الفترات الزمنية المتباعدة ظلت الحرب دائما معضلة عصرية، من خلال الكتب

الجديدة والبرامج التلفازية ، منذ زمن بعيد بدأت رويدا تؤخذ طابعا جديدا مثلما يتندر عليها الناس

بين الحين والآخر ، في مكان ما خلف الأفق ، أصاب الصدأ الطريق الذي حدث فيه الهجوم على بلوخ حتى تحول إلى حادثة غامضة، لم يفهم أحد ماجرى حينذاك أكثر منه ، شبح مرعب من زمن قديم، عنندما بلغت ساندرا عامها السادس عشر أرادت ذات يوم أن تكتشف كيف كانت

نهاية جدها وجدتها وعمها ، بينما ظنت ساسكيا وليسبث بأنها فكرة فاشلة، لكن أنطون لم يكن لديه أي مانع في ذلك، في ظهيرة يوم سبت من شهر مايو إصطحب ساندرا إلى مدينة هارلم ، عبر الطريق ذو الأربع مسارات بموازاة الأحياء التي لاحدود لها، مع مباني عالية بعدة أدوار ،

مرورا بالطريق العلوي الذي يتألف من ثلاثة طوابق، كما لو أنه إبتلع مركبا كبيرا للرحلات،

منذ قرابة ربع قرن لم يقم بزيارة لذلك المكان ولم ترى ساسكيا وساندرا تلك البقعة أبدا ، أجل تلك البقعة إنطلق ضاحكا ، كانت أسنانة المصابة بالتسوس محشوة بسن ذهبي، حيث كان منزله

مشيدا بالماضي ، يوجد في الوقت الحالي بالمنتصف منطقة مزروعة بالنجيل مسيجة بعوارض

خشبية، كوخ أبيض منخفض يعود طرازه لزمن الستينات، مع نوافذ عريضة، سطح مستوي

وكراج مبني ، تنتصب فوق السياج لوحة كتب عليها "للبيع" رأى في الحال منزل آل بومرس

وقد أعيد بناؤه، للأسفل توجد مساحة كبيرة وفي الزاوية الجانبية توجد نافذة علوية ، أيضا

توجد في الحديقة للمنزل الأيمن الذي يعود لآل آرتيس لوحة ، نقش عليها إسم كاتب العدل،

لايوجد منزل من المنازل الثلاثة لازال يحمل نفس الإسم القديم، لقد شعر بمشقة بالغة وهو

يتذكر جميع تلك التفاصيل، لكن أي منزل ياتري هو " فيلخيليخن وأيهما روستنبيرخ، بإستثناء

الجيران القدامى وهم آل كورتفخ الذين عاشوا في منزل نويتخيداخت، أيضا عند الجوانب

الأربعة، للمنازل الأربعة بنيت مجموعة من الأكواخ ، بينما بني خلف الأراضي الزراعية

حي جديد بشوارع، من الناحية الأخرى من المياه حيث المراعي تمتد حتى أمستردام، فجأة ربض قطاع من المدينة بإتجاه الشمس ، إلى جانبه مباني بطوابق ، مكاتب وشوراع مزدحمة وواسعة،  فقط مع مستوى الماء تنتصب بعض المنازل القديمة، أبعد من ذلك توجد طواحين الهواء.

 

أخبر ساندرا كيف كانت تبدو تلك المنازل في الماضي ، لكن يبدو بأنه عاجز عن تخيلها ، لأنه

 لم يستطع تعليمها ماذا يعني شتاء الجوع ، بينما حاول أن يشرح لها كيف يبدو الجانب الآخر

من الشارع، حيث يوجد نصب على شكل عظام سمكة ، وكيف يبدو منزل باوتنروست، البيت القديم ذو السطح الزجاجي وغرف بارزة نحو الخارج، يتأمله الآن مثل شبح رآه بشكل آخر

ساهما ، ثم جاء رجل مرتديا بنطلون سبايكر، أما النصف العلوي من جسمه فهو عاري، ظهر

بارزا خارج الشاليه، أو ربما يساعده في مكان ما. يقول أنطون بأنه ترك إبنته ترى على الطبيعة

محل سكناه في الماضي، حيث أخبرهما الرجل بأن بمقدورهما التجوال بهدوء في الداخل، كان الرجل يدعى ستومل، نظرت سندرا إلى أبيها سائلة: بالتأكيد لم يكن هذا هو المنزل الذي عاش

فيه أباها، لكن أنطون عض شفتيه ثم أغلق عينيه حيث إرتأى أن يتركها وشأنها، رأى بأن مشاركة

السيد ستومل لها في أحزانهما ربما تكون دليلا لمشتري تحت التمرين، عندما تجاوزا المكان

 صوبا أعينهما بإتجاه منطقة الرصيف لكن لم يعد بوسعه الآن تحديد المكان بالضبط.

 

أيضا كان كل شيئ في الداخل واسعا ومضيئا، ياترى أين كان المدخل في الماضي، الصالون،

غرفة الطعام مع الطاولة أسفل المصباح، كل تلك الأشياء المتلاصقة والقاتمة ، حيث تفترش الأرض سجادة ذات لون أزرق فاتح حتى مطبخ المعيشة المطلي من الزاوية ، هناك البيانو الأبيض من الزاوية الأخرى. في زاوية ما إنبطح  شابين على بطنهما يشاهدان التلفاز، بينما تراءى الضوء الخافت لغرف النوم في الجناح عند الزاوية الخلفية، قال له ستومل بأنه إشترى المنزل قبل خمسة أعوام خلت لسوء الحظ ونظرا للظروف الإقتصادية ، فهو مجبر على بيعه و مستعد لتقبل الخسارة مشيا إلى الحديقة التي كان يحيط بها في الماضي سياج يتسلقه بين الحين والآخر ، لم يعد له وجود الآن الجيران الجدد في المنزل السابق "نويتخيداخت"  يتألفون من رجل

كبير بالسن ذو بشرة برونزية اللون وسيدة هندية ذات شعر أبيض جلسوا  أسفل مظلة خفيفة

للوقاية من الشمس، إستغرق وقتا قبل أن يدرك بأن ذلك الثنائي الشاب لهما ولدان صغيران،

بإهتمام بالغ حاول أن يتوصل لذلك الإستنتاج، عندذلك ظهرت إمرأة قدمت نفسها على أنها

السيدة ستومل، بترحيب وفير قدمت لهم شيئا من الشراب  ثم شكرها أنطون على الجولة الإرشادية كما ودع السيد ستومل و صافحه مودعا، مسح بسرعة جانبا  من بنطلونه ، محاولا تخفيف الرطوبة

الشديدة . متأبطا ذراع إبنته مشى متوجها إلى النصب التذكاري في نهاية الرصيف . تم إستبدال ممر الصيد بدعامات خشبية ، أما نبتة الرودندرون الوردية فقد نمت حتى صارت أشبه بجدار ضخم مغطى بباقات ورد سوداء، حيث ظهرت سيدة مصرية وهي تدافع عن نفسها . مذهولة نظرت ساندرا إلى إسمها الأخير المنقوش على اللوحة البرونزية. من الواضح بأنها لم تفقهم مطلقا مايدور من حولها ، بينما نظر أنطون في المقابل إلى الإسم المدرج أسفل إسم أمه يدعى "ييه تيكس" تذكر جيدا بأن تيكس قال له يوما بأن شقيقه الأصغر كان من ضمن المخطوفين لكنه لم يذكر شيئا عنه ، هو أنطون رأسه ثم سألته ساندرا عن الخطب: قال لها لاشيء .

 

 ماهو التالي ، شرفة ممتلئة لمطعم يقع في هاريلئيمر هاوت، في الماضي كان الجراج المخصص لمركز القيادة في الماضي ، أيضا يوجد في نفس البقعة مبنى مصرفي، أخبر ساندرا للمرة الأولى  حول تروس كوستر، التي قضى معها ليلة الذي يقع أسفل مركز الشرطة في جادة هيمستيدة عندما كان طفلا صغيرا، وفي نفس الوقت فكر بأنه لم يأتي إلى هنا من قبل، الآن سنحت له الفرصة لإسترجاع ذكريات الماضي لم تعي ساندرا لماذا يتحدث أباها بلطف حول تلك المرأة، يبدو أحيانا بأن الذنب لم يكن ذنبها، حول كل ماحدث ، شعر أنطون بإجهاد متزايد، حرك رأسه قم قال: "كلهم مذنبين" لكن ماذا فعل هو ، في نفس اللحظة أدرك واثقا بأن توروس كوستر هي من قالت له في الأغلب حرفيا، ، وبعد مرور خمسة وثلاثين عاما تقريبا تناهى له صوتها مجددا، خافتا ..بعيدا جدا، كأنها تقول له: يظن بأنني لاأحبه .

 

أنصت متوترا لذلك الهاجس لكنه ظل صامتا، لم يتردد مجددا، أصبحت عيناه رطبتان، كل شيء مثلما هو، لم يختفي، الضوء والسلام بين شجر الزان الشاهق المعتدل الطول، شريط الأشجار الصغيرة حيث كانت تربض الدبابات إبان الحرب . هنا توقفت الشاحنة عندما كان مع شخولر والسماء تمطر إبرا ثلجية ، شعر بيد ساندرا تربت على ذراعه ثم وضع يده على كتفها بدون أن يجرأ للنظر إليها، ربما كان سيبكي حينها، سألته ساندرا بصوت خافت فيما إذا كان قد زار قبرها ذات مرة ، ثم إقترحت عليه أن يقوما بذلك سويا .

في حي الزهور أرادت ساندرا أولا شراء باقة ورود حمراء من جيبها الخاص، لكنها قدمت من الخارج بباقة بنفسجية، تقريبا زرقاء، أما الورود الحمرا فقد بيعت كلها ، توجها بعدذلك إلى المقبرة التي تقع عند التلال الرملية قرب البحر ، أوقفا السيارة إلى جانب السيارات الأخرى التي كانت واقفة ثم مشيا عبر ممرات ملتوية للأعلى بإتجاه العلم الذي كان يرفرف من أعلى التلة، لايسمع سوى طين الحشرات عند الأعشاب الوفيرة، لفيما بعد تمايل العلم .

 

في زاوية لليمين محاطة بسور توجد بضع مئات من القبور في أرض مسورة قائمة الزاوية منسقة بحيط بها حصي صغيرة، بدون بقع ممشوطة ، ظهر رجل حاملا خرطوم الحديقة يستعد لرش الأرض ، هنا وهناك يهتم  كبار السن بالأزهار حول القبور،أويجلسون بهدوء يتحدثون على الأريكة، أيضا خلف الظلال يوجد جدار مرتفع مع أسماء ونصوص من البرونز حول مجموعة من الأشخاص، لم يتعرف أنطون على أحد من تلك القائمة،  حينذلك أدرك ماينتظره، ربما سيرى تيكس هنا، سألت سانردا البستاني عن مكان وجود قبر تروس كوستر ، بدون أن يتذكر أشار إلى أرض محاطة بسور حيث كتب النص التلي:

كاترينا خيرت راودا كوستر

ولدت 16-9-1920

توفيت 17-4- 1945

وضعت ساندرا وردتها الزرقاء على الحجر الرمادي اللون ثم ظلت تحدق بالقبر وإلى رفرفة العلم في السكون والحبل مقابل عمود الكهرباء، كانت الموسيقى حزينة ، هناك للأسفل عند الرمال حيث تبدو الظلمة داكنة أكثر من الماضي، فكر أنطون ..نظر حوله للأرض المسورة المنسقة حيث تغيرت فوضى الحرب ، فكر : يجب أن أذهب لزيارة تيكس ، كما لو يريد أن يوهم فسه بأنها تحبه. لكن في ظهيرة اليوم التالي عندما  توجه إلى ناحية "نيو زايدس فوربيرخ وال" ظهر جليا بأن "دي أوتر" قد تحطم منذ زمن بعيد، لأنه عند سور الحديقة الأخضر القابل للكسر كان يوجد ورق مطبوع ملتصق ببعضه وعنما لم يجد رقم تيكس في دليل الهاتف تركه جانبا .

 

بعد مرور عامين تحديدا في 5 مايو سنة 1980 شاهد بالصدفة برنامجا شارف على النهاية يدور حول ذكرى شهداء الحرب ، شخصية رمادية بلحية بيضاء وملامح

 مؤثرة ووجه محطم، أخيرا تذكر وجهه لأنه تم التركيز على إسمه: كور تيكس.. معارض، إبتعد أخيرا عن ذلك الهراء، قال لأحد الأشخاص الذي كان جالسا على أريكة بالقرب منه، كان مجدر حطام كبير، في حقيقة الأمر لا أود سماع المزيد ، في مقابل ذلك رأى أنطون من حين آخر سيارات صغيرة بيضاء تستخدم لنقل البضائع، كتب عليها بحروف حمراء: "فيك بلوخ للأدوات الصحية " بي.في".

 

 

 

(2)

 

مثلما هو البحر عندما تلقي السفن التائهة بحمولتها وماتبقى منها على شاطئ البحر في نهاية المطاف يقبل لص البحر يجمع مايستطيع جمعه حتى بزوغ الشمس، كما إنكشف في أمسية حرب عام 1945 مرة واحدة في حياته، في النصف الثاني في يوم سبت من شهر نوفمبر عام 1981 إستيقظ

يومها بألم في ضرسه يصعب إحتماله، حاول تخفيفه بأي شكل من الأشكال، في التاسعة صباحا إتصل بعيادة طبيب الأسنان الذي تولى معالجته منذ  عشرين عاما لكن دون إجابة، بعد تردد إتصل

برقم خاص،  ذات مرة نصحه طبيب الأسنان بتناول حبة أسبرين.

 

بما أن اليوم ليس لديه مشاغل ، سيذهب لاحقا للمشاركة بالمظاهرات.

- يشارك في مظاهرة؟ أين وضد من؟!

- ضد التسلح النووي.

- لكنني أتلوى من الألم.

- كيف بمقدوري ذلك في آن واحد؟!

- لدي بضعة أيام لتجهيز نفسي.

- لماذا  لاتأتين مسبقا؟

- أنا موجود حاليا في ميونيخ، من أجل حضور مؤتمر ما.

- هل يفقه زملائك في قسم التخدير شيئا حول ألم الأسنان، في الحقيقة يجب أن تشارك بالمظاهرة؟

- عفوا؟ من فضلك وفري كلامك، هذا لايعني لي شيئا.

- هو كذلك؟ ألم الأسنان حسنا ، يجب أن تنصتي جيدا.

اليوم سوف أشارك بمظاهرة للمرة الأولى في حياتي، أنا مستعدة لمساندتك في أي لحظة تشاء لكن بشرط واحد أن تساعديني أنت أيضا.

- سوف أفعل كل ماتطلبه، مصلحة أو عمل ، إذا ساعدتني.

- في الساعة الحادية عشر والنصف، يجب أن يكون في عيادة الأسنان، في الحقيقة لم تكن الممرضة المساعدة موجودة، ربما تتظاهر هي الأخرى، لكن سوف يراها هناك حتما.

بعد قضاء إجازة نهاية الأسبوع في خيلدرلاند، قضى بعض الوقت في ألمانيا، لذلك لم يأتي مباشرة، قال لزوجته ليسبث بأنه يود الذهاب مع بيتر فقط،  لكنه هناك لم يهتم كثيرا بهذا الأمر ، عندما

قدمت الممرضة الصحن له كانت توجد ورقة فلتر  خاصة بجهاز إعداد القهوة، في الوسط يوجد غصن زهرة جاف بني اللون، بطول سنتمتر واحد، مع كوب قهوة صغير ينتهي بخبزة صغيرة مستديرة الشكل.

- ماهذا؟

- عود قرنفل يجب أن تضعه في ضرسك، هذا يفعله الناس في الهند دوما،  عندما ضغط  عود القرنفل على ضرسه، ترقرقت الدموع من عينيه ووجد الأمر مبالغا فيه.

- تعال ، تون ، لاتضعه هكذا.

- لسوء الحظ لاتوجد فتحة في ضرسي، ولاأعرف ماهي العلة لكنني على أية حال سوف أتناوله.

يبدو بأنني لم أنجح في مضغه وهو مغلقا، مشى من جهة بيتر متجها للمنزل وفمه مفتوحا من الألم مثل تمثال خشبي فاغر الفم  معلق أعلى باب الصيدلي، فكر بالمظاهرات السلمية ، حيث ينوي الإنضمام إليها لاحقا، قرأ شيئا عنها، ربما سيصبح أكبر حدث في أوربا.

لكن لم يخطر في ذهنه فيما إذا كان سيشارك فيها أم لا، لكنه يعرف مسبقا ماسيحدث لاحقا  مثل النشرة الجوية، أو ماشابه، السنة الألفية بعد الثالثة، الغضب العشري سيندلع تماما مثلما حدث قبل ألف عام خلت، القنابل الذرية أصبحت شيئا مروعا ويجب أن لاتستخدم الآن إلا في الأغراض السلمية، إذا ألغيت بعض المسائل المتشابكة سيتم إستخدام الأسلحة النووية مجددا، من ناحية أخرى شعر بعدم خطورة

التحذير الذي أطلقه الرجل العجوز في أميركا، من الممكن أنه تخيل نشوب حرب ذرية في أوربا، ربما تكون محصلة لمايحدث ، تكهن رجل مسن بذلك في روسيا، وأنه لايوجد جدال حول ذلك الأمر ،لأنه بجميع الأحوال سوف  تدمر أميركا في حالة نشوب حرب ذرية، لكن من المعروف بأن الأسلحة الذرية يجب الخلاص منها، شرب شاي البابونج الذي أعدته ليسبث لاحقا، جالسا على

الأريكة حاول إستثمار الوقت بقراءة خطاب سري ، هل تعرف آلهة الشمس شرحا واضحا لذلك الحطام؟ ستة أحرف ، كان يبدو بأنه عاجز عن التفكير فيما إذا تمكن من تثبيت الأضراس ببعضها، كان يجيل النظر بماحوله على الرغم من أنه واثق من عدم صعوبته، لم يقف أمامه شيء، لحسن الحظ كانت عيادة الأسنان قريبة من منزله السابق وعند الساعة الحادية عشر قرر الشهاب مشيا على

الأقدام، كان باردا ومنفعلا مع وجود الألم كما لو أن مسمارا في فكه، يمشي في شوارع مزدحمة، من مسافة بعيدة إستدارت طائرة هيلكوبتر ، بالإضافة لذلك لاوجود للسيارات والترامات،  من الواضح بأن مركز المدينة مغلق ، وهو طريق حكومي سريع يتم إنشاؤه وصيانته على نفقة الدولة وليس البلدية، كان معبأ بالناس الذين كانوا يسيرون في نفس الإتجاه حاملين في الأغلب لافتات مغروزة ، أيضا مع وجود بعض الأجانب رأى مجموعة من الرجال ذو ميول حربية يرتدون عمامات، سراويل فضفاضة وأحزمة نحاسية، حيث تظهر فقط المسدسات والسيوف الكروم، مفرقين ربما يكونون من الأكراد المبعدين، يضحكون ويغنون بمشية صحراوية مرنة خلف لافتات كتب عليها نص عربي ، يسيرون بخطى منتظمة ويدعون للجهاد أو الحرب المقدسة، لم يسمع بها أحد من قبل هنا، سرعان ما إمتلأت الشوارع مثل الذي رآه في أواخر شهر مايو من عام 1945، أحلام كبيرة تحلق في جميع الإتجاهات إلى ميدان المتاحف ، من المحتمل أن ينضم لاحقا إلى تلك الصفوف البشرية ، مما ساعد على إشتداد الألم في سنه ، ماذا سيفعل هؤلاء الناس فيم إذا إندلع الرعب ، كما لو أن المستفزين يزاولون أعمالهم، في الوقت الآني كل شيء محتمل في أمستردام ، على الرغم من أن الطائرات العمودية كانت تنتشر في الأجواء لحسن الحظ ليس هناك أثر لرجال البوليس.

 

وصل إلى عيادة طبيب الأسنان ، إتصل أولا لكن لم يفتح الباب، على الرغم من أنه كان يرتعش بردا أو ماشابه ذلك ثم إنتظر عند الرصيف، هذا الحدث لايمكن أن يفوت آلهة الشمس رع  ، وهو حائر أخذ يردد بعض الكلمات غير المفهومة، راكيت، رافائيل، يتكلم بسرعة بدون توقف ذلك من عمل الآلهة؟ يجمع شيئا مبعثرا ! كانت تلك أدوات الكتابة الخاصة بآلهة الشمس، حيث حيث وضعت شروحاتهم  في

 المخطوطة ، من بعد مسافة تحركت جماعة من الناس في سيل متواصل نحو شارع جانبي ،  ثم وقف ، عندئذ  بعد مرور دقائق قليلة وصل طبيب الأسنان ماشيا بقدم مدببة يتأبط ذراع زوجته ثم

ضحك.

- تبدو منتعشا من الخارج!

- أجل ، ماعليك هو سوى الإبتسام، قال أنطون، هل أنت الطبيب المعالج الوسيم، خيريت يان الذي يبتز مرضاه !

كل شيء في خدمة البشرية، كلهم في سبيل روح أبوقراط، إرتدى للمناسبة بدلة صياد إقطاعي، معطف أخضر من نسيج صوفي مضاد للماء، وللأسفل ينطلون أخضر للصيد وججوربين خضراوين داكنين  حذاءه الخشبي كان واضح المعالم أكثر من السابق، عندئذ وصلا لغرفة المعالجة ، ثم رن التليفون.

- أوه ..لا أليس كذلك ، قال فان لينيب ، ليس بعد.

كانت تلك ليسبث لاتزال أمنية بيتر أن يرافقه للمظاهرة،  أخبره أنطون بأن يأتي بالدراجة إلى هنا وينتظره في الخارج، ألقى الطبيب معطفة فوق مكتب مساعدته.

- دعنا نرى ماهي علتك، صديقي ، أي منهم؟

- بينما ذهبت زوجته لغرفة التواليت، لم يستطع تحمل الألم أكثر من ذلك، وجه المصباح على فمه ثم تحسس بإصبعه الضرس، إرتد الألم للفور في رأس أنطون، تناول ورقة رمادية اللون، وضعها على الضرس ثم قال: بأن عليه وضع فكيه على بعضهما بحذر ، ثم يحركهما غدوة ورواحا برفق، نظر مرة أخرى ثم أخذ المثقاب من الفك.

- تبعا لصلاحيات المهنة، قال أنطون سوف أحسب الأسعار بحقنة واحدة، هل أنت مجنون ليس باليد حيلة، إفتح فمك ، طقطق أنطون أصابعه، بينما نظر بإتجاه شعره الأشيب المصبوغ،  بغضون

دقيقتين أو ثلاثة حدثت واقعة من الألم والضوضاء الشديدة، حيث قال له فان لينيب:

إغلق فمك.

- المثير أنه كان أمرا محتوما، تراجع الألم مبتعدا خلف الأفق، كما لم يكن له أثر أبدا

- كيف يكون ذلك بالله؟

- علق فان لينيب المثقاب ثم رفع ذراعيه للأعلى.

- حمل زائد لايطاق يبدو بأنه إرتفع قليلا للأعلى، مسألة العمر، إغسل فمك ثم غادر .

- هل أنت مستعدة؟ سأل زوجته مستغربا، عندما دخلت الغرفة.

- مرجحا فكر هو، قال فان لينيب بضحكة مائلة، يبدو بأن موعدنا لم يعد قائما، لكنه لم يرتكب خطأ .

في تلك اللحظة كان بيتر في الخارج بإنتظاره، قال أنطون: هل تعرف حقيقة ، خيريت-يان ، بأن

تلك هي المرة الثانية التي تحاكمني فيها بجريمة سياسية؟ الإختلاف الوحيد هو أنك فكرت بنفس الإفتراض للمرة الثانية!

- متى كانت المرة الأولى؟

عندما إكتشفت بأنني طوعيا يجب أن ألتحق بالخدمة لصالح كوريا في الصراع الدائر بين أرض المساء المسيحية والبرابرة الشيوعيين. بينما ضحكت زوجته لذلك التعليق ، نظر إليه فان لينيب على مدى ثواني قليلة وهو صامتا، بعدذلك إنطلق صوت من المكبرات من بعض الشوارع للأمام.

- هل تعرف ماحدث معك ستينفايك؟

أنت تملك ذاكرة جيدة..أنت..أنت من هو المبتز، في حقيقة الأمر أنا لم أصبح شيوعيا إطلاقا، عندما تفكر بذلك. كيف يكون الأمر ؟ ربع فلورين وهي وحدة عملة هولندية سابقة تساوي25 سنت لايمكن أن تكون أبدا 10 سنت، لكن تلك الأسلحة النووية تظل تشكل تهديدا خطيرا للبشرية، يجب أن تعتبرها كنوع من الهجوم قادم من الفضاء الخارجي على سبيل المثال، يستخدمون البشرية فقط لأغراضهم،  كل موجة تسلح جديدة تخلق ردة فعل لدى الطرفء المناوئ الذي يتخذ موقفا محددا، كل طرف يلقي المسؤولية على الطرف الآخر، بلا هوادة ويراكمان تلك الأمور نفسها، في أحد الأيام سيتوقفان بالتأكيد مثل منزل بلا إحصائيات عندئذ لايمكن تفاديها، مؤكدا مقل حقيقة بأن آدم وحواء ذات يوم أكلا من شجرة المعرفة ، كان

 من الأفضل تغيير إتجاه تلك التفاحات.

 

هز أنطون رأسه إيجابا ، أدهشه بالفعل تفسير فان لينيب لوجهة نظره  ، أصبح أطباء الأسنان مجانين تحديدا، هذا عموما معروف بالأوساط الطبية، ربما في حقيقة الأمر توجد علة ما، وصل بيتر ثم أقفل دراجته بالقفل، بينما نظر أنطون أسفل خشخشة طائرة هيلكوبتر إنطلقت من مسافة بعيدة، مستغربا قال في نفسه فجأة: ربما حول مايدور في المدينة الآن.

 

يبدو بأن الدفعة الأخيرة التي وصلت لمكان الإجتماع المشترك لم تتمكن من التقدم للأمام، أسفل بالون أسود على شكل نموذج صاروخ  قريب  إنطلق محدثا أزيزا، من مبنى الإحتفالات حتى متحف رايكس ، إصطف عشرات الألوف بل مئات الألوف مع لوحاتهم، يبلغ عرض الشعارات الي يحملونها من عشرة أمتار بينما لايزال الناس يتهافتون من جميع الزوايا في الشوارع العريضة، من مكبرات الصوت إلى الأشجار ومصابيح الإنارة، إهتزت الأرض بفعل خطاب رنان على منصة من بعد مسافة، لكن المشهد الآني تركه يبدو لامباليا لمايقوله، ماحدث معه فجأة، وجود هؤلاء الناس، حضورهم المؤثر، كان وهو إبنه من بين هؤلاء الناس،يبدو بأن الطبيب فان لينيب أصبح بعيدا عن المرأى، لكنه لم يحضر كي ينأى بنفسه عن هذا المأزق،لاحقا أصبح بعيد المنال، مثلما فرعين صغيرين وقفا  بين صفوف الناس، يشعر كأنه منجل يحلق فوق رؤوسهم، بيد أن صعوبة النفس التي داهمت أنطون من الرعب المحيط به لم يعد لها وجود، لايقف بالقرب منه سوى بيتر وإمرأة ريفية مسنة ترتدي وشاحا شفافا فوق تسريحة مجعدة، شاب ضخم بجاكيتة جلدية بنية اللون بياقة من الفور يزينه شارب كبير وسالف جزء الشعر المجاور للأذن وإمرأة شابة مع طفل صغير نائم محمولا بقطعة قماش على صدرها، من بين الشعارات التي تندد بخطر الأسلحة النووية ، فجأة قرأ ماهومكتوب على لوحة صغيرة:

 

- يوب: نحن نقف هنا ، أشار نحو بيتر ثم أخبره من يكون يوب.

عبر مكبرات الصوت أعلن بأنه بالنصف ساعة الأخيرة ستنطلق ألفي حافلة باص داخل أمستردام، يعني هذا بأن سيتدفق مئات الألوف من الناس ، تهااليل، تصفيق، تم إبلاغ المنادي بتدفق مئات الأوف من الناس خارج المحطات، كما وصلت العديد من القطارات، أما مداخل الطرقات حتى ميدان المتحف فقد أغلقت جميعها، فكر أنطون بأن صوت هؤلاء الناس سيصبح أكثر حدة، صوت الناس له علاقة بوجود الأسلحة النووية، قبل أربعين عاما خلت، كان من المحتمل حدوث شيء، لكن ماحدث على سطح الأرض كان مروعا أكثر وغير قابل للتفسير وأكبر من إستيعاب البشر، كم ظل ياترى واقفا هناك، لكنه أدرك لاحقا ، رأى بيتر رفيقه بالمدرسة، ودعه ثم توارى عن الأنظار، في تلك اللحظة فكر أنطون بالمخابئ التي لم يعد لها وجود، ومركز القوة المسلحة الألمانية عند الفلل سابقا، حيث توجد القنصلية الأميركية حاليا، والمفوضية التجارية الروسية ونادي إجتماعي عمومي،كان الساسة يهللون ، الأخرين يصفرون وفي نهاية المطاف بدأ يتحرك قدم بقدم حتى وصل إلى التجمهر، يبدو جليا بأن الموكب العسكري الرسمي لم يصل لكافة الناس، لأن المظاهرات إنتشرت في زوايا مختلفة بالمدينة، بدون شيء مثير داهمه شعور غريب بالسعادة

سابقا كان شيئا حالما تآلف مع شيء من الماضي البعيد... البعيد بل قبل الحرب، لم يعد في وعيه، لكن فكره موجه نحو هؤلاء الناس، على الرغم من الثرثرة يغلف المكان سكون جلل، بدا كل شيء مختلفا ربما لوجودهم الآني: ليس هو فقط لكن المنازل بنوافذ، حيث تتدلى مفارش الأسرة هنا وهناك، إذا سلم بقضاء الله في تلك المدينة، حيث السحب الرمادية الكثيفة، الرياح، التي تتعقب البالون الصاروخي ذهابا وإيابا ثم هز رأسه وقفز فورا للأمام، شكرا للمستقبل.

عند زاوية في الميدان تحولت المظاهرة إلى سيل عارم، أولا كانوا يريدون التوجه

 إلى مخارج النقاط الرئيسية ، ضحك بأسلوب مهذب مستئذنا ، تركهم يعبرون عما يجول بأنفسهم، فجأة إنتابته ثورة غضب، أصبح الناس غير مهذبين إطلاقا، عندما يفكر كيف كان هؤلاء وكيف أمسوا، ربما هم نفس البشر ولم ينتابهم أي

تغيير، يجب أن يشكر فان لينيب، لأنه كان حاضرا هنا، ذهب ماشيا على قدميه ثم نظر فيما حوله ذهابا، فجأة رأى ساندرا ، نادى عليها بصوت عال ، كانا يلوحان بالأيدي ويناوران بإتجاه بعضهما.

 

لاأصدق عيناي ‍ صاحت ساندرا من على بعد مسافة...رائع جدا، بابا‍ ثم قبلته على خده ووضعت ذراعها بذراعه، ماذا حدث معك؟

كنت أظن بأنني الوحيد الذي أجبر على المشي هنا، لكن تدريجيا تحولت إلى متطوع، مرحبا باستيان، صافح صديقها:شاب ذكي يرتدي بنطلون جينز سبايكر وحذاءين رياضين ، كوفية فلسطينية حول عنقه، وخاتم ذهبي في أذنه اليسرى لم يجده أمرا مزعجا، لكنه يظل أب حفيده المقبل، عاشت ساندرا في غرف مختلفة لكنها منذ عدة أسابيع تقيم معه في مبنى مقتحم بواسطة الجماعة يقع في طريق مسدود بسبب وضع عوائق، بعد أن أخبرهم أنطون بآخر التطورات جلسوا سوية، قال باستيان: لن تصدق بأنك الوحيد هنا الذي يطبق التعليمات، يحف هنا مثل حفيف ورق الشجر، يجب أن تتطلع فيما يدور حولك.

ظهرت مجموعة من الجنود ، تم إستقبالهم بالتصفيق الحار والترحيب، رأى أنطون مجموعة من الناس، بمشهد بدلاتهم الرسمية لايستطيعون كبت دموعهن التي تنهمر مثل باقة ورد ثمينة، أصبح هؤلاء الجنود المنتصرين محاصرين برقصات الشباب والفتيات، لم يفهم أنطون شيئا، هل أجبر هؤلاء الشباب على المشاركة؟

إلتقت عيناه بإمرأة مسنة، نظرت إليه ، كأنها تعرفه منذ زمن بعيد، مريضة بالطبع، ثم أومأ غامضا وملئ بالألغاز، لا ياأحمق إنه هناك أشار باستيان إلى رجل بسترة جلدية قصيرة، قام بإلتقاط بعض الصور لرجال الشرطة.

- هل تفكر في ذلك الأمر فعلا؟‍

- في الحقيقة يجب أن نتخلص من تلك الكاميرا باسرع وقت ممكن.

- نعم ، يجب أن تفعل ذلك بأسرع مايمكن، قال أنطون، هناك ينتظروننا ، شيئ ما يعكر صفو تلك المسألة.

- سوء الحظ بطبيعة الحال، قال باستيان بضحكة مصطنعة، أثارت إستياء أنطون بلا حدود.

- ربما سوء حظ تتصرف الآن مثل مرافق لأمرأة حامل، أود أن أصبح جدا، حتى لو لحظة زمنية واحدة.

- حسنا، قالت ساندرا بنغمة مغردة، على أي حال سأراك مجددا، وداعا أبي سوف أتصل بك لاحقا.

- إلى اللقاء با حبيبتي، وحاولي الخروج من ذلك المنزل بأسرع مايمكن ، ربما سيداهمون المكان في أي لحظة، إلى اللقاء باستيان.

لم تكن هناك أي خصومة حقيقية، لكنه عرض مسرحي متكرر من الإثارة المشتركة، يبدو بأنه كان إجباريا.

لم يرى فان لينيب في أي مكان، أيضا بيتر، تقدم ببطء للأمام بإتجاه التيار، رجال ونساء كبار بالسن عند الشرفات، يلوحون بأصابع أيديهم بعلامة "فيه" هذا يتذكرونه جيدا من أيام الحرب،  ترافقهم فرقة تعزف الموسقى الكلاسيكية، أيضا في كل مكان عبرالرصيف، حيث تصدح الموسيقى بدون الحاجة إلى النقود بطبيعة الحال، يبدو واضحا بأن المجتمع بأكمله وقف على مسامير مفكوكة، جوارب طويلة وكبيرة تنتهي بسروال داخلي ، جاكيتات لامعة من السوق الشعبي، بينما ظهرت  جماعة بونك برقصاتهم المرحة وخصلات شعرهم المصبوغة بالنفسجي والأصفرزهي حركة شبابية بدأت الثمانينات ويعتبرون من المعارضين للمجتمع، تجمعوا عند موقف الترامات، نظر بهدوء لهؤلاء الأشخاص، الذين كانوا حتى تلك اللحظة خائفين لما مضى، أخيرا إنطلقت طائرات هولندية دعائية تبلغ الناس، بأن عيسى المسيح هو من ينشر السلام فقط على الأرض وسيتم عرض الصور الملونة في غضون ساعة وعلى الناس التوجه لشارع كاليفر ، فوق سقف أحد عربات النقل الواقفة جلس في غضون ذلك شابين في الخامسة عشر من عمرهما مع تفسيراتهم الخاصة لمسيرة السلام، كتب على أحد اللافتات النص التالي:

أول قنبلة على واشنطن.

هناك حيث الوجوه المنبسطة تكح بهدوء وشدة: كتب على بعض اللافتات بالروسية كلمة "موكبا" ، في جميع زوايا الشوارع رأى أنطون، كيف إجتاز الطريق من

مسافة بعيدة عبر الجموع البشرية الأخرى، أحيانا من مكانين، لمح ببطء عند الممر شيئا لايصدق، توجد حوله أيضا تجمعات إستثنائية، لأنه رأى بصفة متواصلة الناس الآخرين وهم متوجهين بطريقهم، فجأة إمتلأ نصف طريق "ستاد هاوردس كاد" بطابور من السود المقنعين بأقنعة فولاذية بثرثراتهم، تقدموا بسرعة للأمام، هياكل تعكس الضوء ببدلاتهم المرسومة، أشبه بمرضى الطاعون من القرون الوسطى، إصطدم بأمرأة ثم إعتذر منها: إنها نفس المرأة التي كانت تحدق فيه هناك ، ضحكت متذبذبة.

- توني ، سألته وهي مترددة، هل تعرفني؟ نظر إليها مندهشا: إمرأة صغيرة في الواحدة والستين بشعر أبيض وعينان منتفختان تخفيهما خلف نظارات زجاجية .

- إعذريني..لأنني لم أتعرف عليك بسرعة.

- كارين..كارين كورتفخ، جارتك في هارلم.

 

 

 

 

 

 

 

 

(3)

 

الشيء الأول المدهش كانت الومضة، حيث تجلس إلى جانبه شقراء كبيرة من "نويتخيداخت" متقدمة بالسن، الأمر الثاني يأس يؤدي إلى التهور. إذا لم تتحدث معي ، يجب أن تقول شيئا على الأقل، قال هي بسرعة، سوف أرحل على الفور.

- أجل..أجل صحيح، تلعثم من الخوف، يجب أن ..لقد فاجئتني لم أرك منذ زمن بعيد، لكن إذا لم ألتقيك صدفة، فلن أتحدث معك أبدا، بالتأكيد ....نظرت إليه مسامحة بينما حاول أنطون السيطرة على شعوره وأعصابه إرتعش هنيهة، كما لو أنه في يوم صيفي على البحر رأى ظلا حالكا باردا يلمع على الشاطئ،.

- ماعليك..إنسى الأمر،قالت هي ، نمشي معا في تلك اللحظة.

- يجب أن تكون واضحا، قالت هي ثم أخرجت سيجارتها من حقيبتها، حيث فتحت العلبة من راحة يده ، أشعل النار ثم نظرت إليه، تحديدا بنفس مستوى موسيقى السلام العسكرية، مرة أخرى يجب أن تكون واضحا معي، رمقها بنظرة غامضة واضعا الولاعة داخل جيبه، بينما فكر: في بادئ الأمر كانت جثة بلوخ ملقاة أمام منزلكم، هل يجب أن أكون واضحا أكثر من ذلك، شعر بسم قديم يسري في عروقه، سم قاتل، كما لوتمنى لوبقيت جثة بلوخ أمام منزلهم، رويدا..رويدا مشى نحوها ، تذمرت ثم قالت: كان بمقدوره الهروب بعيدا، لكنه أدرك أيضا بأن تلك المرأة التي تمشي إلى جانبه في وضع طارئ وخاطئ، أكثر من نفسه، لقد تعرفت عليك هناك مباشرة، قالت كارين، أصبحت كبيرا تماما مثل أباك، بشكل أو بآخر كئيبا، لم تتغير إطلاقا.

- هذا ما أسمعه بإستمرار، ربما ميزة لاأعلم تحديدا.

- كنت أعرف دائما بأنني سوف ألتقيك ذات يوم، هل تعيشين في أمستردام؟

- أنا أعيش منذ عام في مدينة "أيندهوفن" عندئذ ظل صامتا، سألته: ماذا تعمل

ياتوني؟

- أنا أعمل أخصائي تخدير.

-حقيقة؟ سألته مستغربة كما لو أنها تمنت دوما بأن يمارس تلك المهنة.

- أجل وأنت؟ هل لازلت تعملين بالتمريض؟

- يبدو بأن الأفكار التي تواردت في نفسها جعلها تبدو مكتئبة، لم يمضي زمن بعيد، لقد عشت فترة طويلة في الخارج، هناك عملت مع أطفال عاشوا في ظل ظروف صعبة، لاحقا عملت هنا عدة سنوات، لكنني أعيش حاليا من المساعدة الإجتماعية ، لا أتمتع بصحة جيدة، فجأة سألته بنغمة حماسية: هل تلك هي إبنتك،أقصد الفتاة التي كنت تتحدث معها منذ قليل؟

- أجل، قال أنطون على مضض، خامره شعور، بأنها ليست مهتمة بمعرفة الجانب الآخر من حياته، جانب حاضر معه مسبقا على الرغم من وجودها لايستطيع نسيانه، وإذا نسيه فإنه سيشكرها ، تشبه أمك ، هل تعرف ذلك؟ كم عمرها؟

- في التاسعة عشر.

- هي حالم، أليس كذلك؟

- من نظرة عينيها تبدو مبكرة في حملها، هل لديك مزيد من الأطفال؟ لدى طفل من زوجتي الثانية ثم نظر فيما حوله، وتعيش في مكان آخر بأمستردام.

- ماذا يدعى؟

- بيتر، قال أنطون ثم نظر إلى كارين، في الثانية عشر رأى بأنها خافت بعض الشيء، محاولا تخليصها من التشوش والإرباك الذي داهمها، سألها: هل لديك أطفال؟ حركت كارين رأسها ثم حدقت بظهر المرأة التي تقف أمامها، تلك التي تحرك الرجل المسن الذي يجلس على كرسي عجلات.

- لم أتزوج أبدا.

- هل لازال أباك على قيد الحياة؟ بينما سألها ، لاحظ أنطون بأن السؤال تميز بصيغة تهكمية، لم يقصد به شيئا.

-    حركت رأسها مجددا.     

-  ليس طويلا.

جرجرت قدميها وهي صامتة إلى جنبه يتقدمان للأمام وسط جمهرة الناس، تمت قراءة الشعارات، في كل مكان تجلجل الموسيقى ولكن في الحي الذي كان يسكن فيه سابقا لم يرى أحدا شيئا، كانت كارين تود التحدث معه لكنه يشعر بأنها لاتملك الجرأة الكافية للبدء بالموضوع، بيتر كان في السابعة عشر إلى الأبد ، اليوم سيكون في الرابعة والخمسين، لكن في نفس عمره إستوحى تلك القيمة الحسابية، الإدراك

ياترى كم تبلغ تلك الفترة الزمنية؟ وتلك الفتاة الشابة أصبحت متقدمة بالعمر، تلك التي تسير إلى جانبه، التي لم تجرحه أبدا وكان لها ساقين جميلتين بإنسيابية مثل أجنحة الطائرة الحادة، الفتيات من نفس عمرها حصلن على ذلك اللون البرونزي، ربما كانت هي الوحيدة من شاهد بيتر للمرة الأخيرة، بمجرد أن يتكيف الكاتب مع حالة الغضب والتنفيس عندما يعرف بأنه سيبدأ بكتابة الفصل الأخير من كتابه، قال هو:

- كارين ، إسمعي دعينا لانلف وندور كثيرا حول نفس النقطة، تريدين الإنسحاب بينما أريد أنا أن أسمع، ماذا حدث في تلك الليلة بالضبط؟ هل هرب بيتر عندكم للداخل ؟

- هزت رأسها؟

- كنت أعتقد بأنه ينوي قتلنا، قالت بتنهيدة، بدون أن تنعطف بعينها نحو ظهرها، حول مافعلناه في تلك الليلة، بإختصار شديد تطلعت نحوه، كان يحمل مسدسا بيده0

- من بلوخ؟

- هذا ماسمعته فيما بعد، فجأة وقف في الغرفة رأى شيئا مروعا في الخارج ، كان يوجد لدينا برطمان دهن  صغير، شعرت حينذاك بأنه كان ثائرا كليا، ثم إبتلع ريقه هنيه، وواصل المشي، عندئذ قال: إننا أوغاد، ويريد إطلاق الرصاص علينا نحن المضطربين عقليا كان حائرا لايعرف ماذ يفعل، كانوا يطاردونه، ولم يتسنى له الخروج من المنزل، طلبت منه التخلص من المسدس بأسرع وقت ممكن، ولابد من إخفائه في مكان ما، لأنه إذا وصلوا بسرعة ربما يظنون بأنه المجرم الحقيق.

- وماذا قال حينذاك؟

- شدت كارين ذراعيها للأعلى.

- حسب رأيي لم يصغي إلينا ولو مرة واحد، ظل ممسكا بالمسدس وهو يلوح وينصت فيما إذا سمع شيئا في الخارج أم لا، طلب مني أبي إغلاق فمي ، مشى ببطء للأمام، ويديه على ظهره، بينما حدق أنطون نحو الشارع مقطبا وجهه وحاجبيه بسبب الغضب والتفكير العميق .

- لماذا.

- لاأعلم لم أسأله حينذاك، لم تكن لديه رغبه بالتحدث عن تلك الليلة، صمت هنيهة لكنهم رمقوا بيتر وهو يدخل منزلنا، بالتأكيد كانوا سيفتشون المنزل ويكتشفون المسدس بالطبع، عندئذ سيعتقدون بأننا متواطئين معه وهذا ماحدث حينذاك. أليس كذلك، أولا سيبحثون  عنه ، كيف حصل تحديدا على ذاك المسدس، لذا يجب أن لايكون بحوزتنا.

- تقصدين إذن، قال أنطون ببطء ، بأن أباك تظاهر جيدا بأنه قد تم إحتجازكم تحت تهديد المسدس من قبل بيتر، بالتالي سينظر إليه الألمان على أنه المجرم الحقيقي، عندئذ أومأت كارين تحديدا غير موضحة ماتقصد: وبذلك جعلهم يعتقدون بأنه المجرم الحقيقي؟!

- لم تصدر من كارين إجابة، تدريحيا تقدما للأمام عبر النهر المأساوي، خارج شارع جانبي أقبلت مجموعة من الشباب حليقي الرؤوس في السادسة عشر من عمرهم، يرتدون معاطف جلدية سوداء اللون، بناطيل سوداء أيضا أحذية طويلة بنفس اللون بطلاء معدني عند الكعبين، بدون أن يتطلعوا لأحد، تزاحموا عرضيا بإتجاه المسيرة ثم تواروا عبر الجسر من الزاوية الأخرى.

- عندئذ؟ سأل أنطون.

- بعد مرور فترة قصيرة قدمت قوة كاملة ، إنتشرت في أرجاء الرصيف ، لكن كم إستغرقت تلك العملية، لم أعد أتذكر، كنت خائفة حينها لدرجة الموت، أما بيتر فقد رفع المسدس في وجوهنا  فجأة سمعنا أصوات جلبة وصراخ لم أكن أدري مايجول بخاطره ، أعتقد بأنه كان يجهل ذلك أيضا، ربما كانت السرعة وليس شيء آخر، أو كان يتمنى لو عرفوابأنه ضائع لطالما تساءلت لماذا لم يقتلنا، لم يعد لديه شيء يخسره، في تلك اللحظة ربما لأنه فهم بأن لم يكن الذنب ذنبنا في نهاية المطاف، أعني ..قالت هي بينما نظرت إليه، لتتأكد فيما إذا كان يوي قول شيء، ماذا تريدين أن تقولي، بأن تلك الجثة لم تأتي من قبلكم،  إذن من ألقاها إذن، لكنني رأيت بأنه كان يريد إعادة وضعها أمام منزلنا، حقيقة ليس لدي علم بذلك، يبدو بأن أنطون قد أوقعها في فخ غامض، ربما أراد وضعها إذن أمام منزل آل بومر، أنت تعرفين جيدا السيد والسيدة بومر كانوا كبار السن، ربما تورط أباك معهم في عراك يوما ما، تنهدت كارين ثم حركت وجهها، بنظرة بائسة نظرت إلى أنطون ورأى مارأته، يريد الآن سماع ماحدث فيما بعد من تطورات،يبدو بأنه يريد في تلك اللحظة سماع ماحدث  بكل دقة وتفصيل، لكنه لاينوي سؤالها، ثم سحبت رأسها ونظرت للجهة الأخرى، كما لو أنها تبحث هناك عما يسعفها، لم يمضي وقت طويل حتى قالت:أوه..توني..ربما وجدوا فتحة بالظلمة، عند أبواب الحديقة حيث تمكنوا من رؤيته وهو ممسكا بالمسدس، فجأة إنطلقت رصاصة فإخترقت الزجاج، جعلتني أنطرح أرضا، لكنني  كنت أظن بأنه جرح في الحال، لاحقا ضربوا الأبواب بأقدامهم وأطلقوا الرصاص مرة أخرى من بنادقهم ثم وقع أرضا كما لو أنهم إنقضوا على وحشا من الوحوش .

 

- هل تعرف آلهة الشمس تفسيرا واضحا لذلك الحطام؟ هذا ماحدث إذن، ضغط أنطون رأسه برقبته ثم أخذ نفسا عميقا، بينما نظر كأنه لايرى شيئا إلى قطعة العلم المرفرف خلف إعلان طائرة، مظاهرة السلام حيث مشى، تختلف كثيرا عن الأحداث التي وقعت قبل ستين عاما، حيث لم يكن قد ولد بعد في ذلك الوقت، في الغرفة حيث كان يلعب مع كارين لعبة الأوزة وهي لعبة للتسلية حيث قتل بيتر عبر تلك الفتحة,

 

- عندئذ. سألها...

- لاأعلم تحديدا ماحدث بعد ذلك بالضبط، من صوتها سمع بأنها تنتحب، لكنه لم ينظر إليها، لم أنظر بعدذلك مرة أخرى، ثم ذهبنا فجأة إلى الحديقة كما لو أن هناك المزيد من الأخطار لازالت تحدق بنا، أعتقد بأننا مكثنا طيلة الوقت في البرد، كل ماأتذكرة جيدا صلصلة الزجاج، عندما ضربوا من ناحيتكم لوح النافذة، ثم أقبل ألمان آخرين، كانوا يمشون داخل وخارج المنزل، عندئذ تم ترحيلنا إلى منطقة أخرى، حيث كانت تقف هناك سيارات ثم نقلنا إلى مركز القيادة، لكن من مسافة بعيدة سمعنا صوت فرقعات مخيفة عنندما حرقوا منزلكم.

ثم تلعثمت، تذكر أنطون جيدا بأنه رأى عائلة كورتفخ في مركز القيادة، عندما إجتاز إحدى الممرات ، كوب الحليب الدافئ ، قطعة الخبز مع شريحة شخاملز شعر بأنه ينقلب في الأرض مثل غرفة تم سرقتها بواسطة جماعة من اللصوص المضطربين عقليا، في نفس الوقت يبدو بأن الحظ إبتسم بعد أن سمع تلك التفاصيل، فجأة تبخرت الذكريات عندما تذكر شخولز وهو يتقلب مثل جذع شجرة من الشاحنة، قبض عينيه بشدة مغلقا ثم فاحهما مجددا.

- هل تم إستجوابكم حينذاك؟

- تم إستجوابي بمعزل عن أبي.

- هل قلت لهم ماجرى بالضبط.

- أجل.

- وماذا كانت ردة فعلهم لدى سماعهم أقوالكم، بأن بيتر ليست له علاقة؟

-شدوا أذرعتهم للأعلى، هذا ماتصوروه على الأقل، وبأن المسدس يعود إلى بلوخ، لكنهم في غضون ذلك ألقوا القبض على شخص آخر، قالوا هم.

- حسب علمي فتاة.

- أجل ، قال أنطون هذا ماسمعته أيضا ، قطع خمس مسافات ثم قال: فتاة في نفس عمرك،  فكر مجددا ،يجب أن يعرف كل شيء الآن ويدفنه للأبد حجر يدور حول محوره ولن يفكر أبدا بالمزيد، لم أفهم شيئا ، قال هو ، لقد رأوه، ذاك بيتر الذي هددكم بالمسدس لم يسألوكم لماذا حدث ذلك؟

- بطبيعة الحال.

- وماذا قلت حينذاك؟

- الحقيقة.

- لايعرف فيما إذا كان سيصدقها أم لا، من ناحية أخرى فهمت في تلك اللحظة بأنه من المحتمل بأنه لم يفهم بعد بأن أبويه لم يعد بوسعهما إخباره، بينما كان يستطيع في حقيقة الأمر إخبارهم، لكن لم يسأله أحد، إذن ألقيت جثة بلوخ أولا أمام منزلكما.

- أجل.

- وقمتم بوضعه أمام منزلنا؟

- أومأت، ربما ظنت بأنه لازال ينوي إثارتها، لكن لايبدو ذلك، خلال نصف دقيقة لم يتفوه أحدهما بكلمة، مشيا سويا مسافة ليست بعيدة عن  المظاهرة.

- لست خائفة؟ سألها أنطون ، بأن منزلكم ربما سيحرق أيضا؟

- لقد فعلوها ، قالت كارين ، كما لو أنه كان ينتظر إجابة لسؤاله، ماذا تعتقد، كيف أشعر بعد كل ماحدث، ؟ إذا كانوا قد فعلوا ذلك كنت قد عشت حياةأخرى، تمنيت في ذلك الوقت لو قتلوني أنا أو قتلني بيتر، سمع أنطون بأنها واثقة من حديثها، كانت لدى أنطون رغبة ففي أن يجس نبضها، لكنه لم يفعل ذلك، ماذا قالوا حيتما سمعوا بالقصة؟ هل كان قائد الوحدة حاضرا أيضا؟

- لاأعلم بالتحديد، تم إستجوابي من قبل أحد الأوغاد في المدينة، هل كانت توجد جروح في وجهه؟

- جروح؟حسب علمي لا، لماذا تسأل؟

- واصلي الحديث.

- أولا قال فقط: من يكون هذا؟ بدون أن ينظروا، أتذكر جيدا،وضع أنطون قلمه جانبا ثم حرك ذراعيه، نظر إليها هنيهة ثم قال بإحترام كامل: تهانينا، كانت لدى أنطون رغبة بأن يقدم لها التهنئة على مجاملتها اللطيفة، لكنه سيطر على مشاعره، هل أخبرت أباك بذلك؟

- بنغمة شاعرية بصوتها قالت كارين: لم يعرف أبدا ما أخبرتهم، وماذا أخبرهم أبي بالتفصيل، رأينا بعضنا في صباح اليوم التالي، حينما كنا نستعد للتوجه إلى المنزل، قبل أن تقول شيئا، قال هو:كارين لن نتحدث أبدا حول ذلك الموضوع، هل فهمت؟

- وهل فهمت أنت أيضا.

- لم يتحدث مطلقا حول ذلك الموضوع، بدون أي كلمة تذكر، طيلة حياته، حتى لدى عودتا للمنزل، رأينا حطاما مشتعلا بدون لهب، ثم سمعنا من السيدة بومر، أعني، بأن أباك..وأمك...

كانت المرأة الي تدفع رجلا بكرسي عجلات، قد إختفت بينما هو كارين إنضموا للحشد الذي سار للجهة الأخرى، تتقدمهم إمرأة تحمل بوقا ، ترددت هتافات الناس مجددا ، مصحوبة بالتشجيع والتصفيق بالأيدي لكن سرعان ماتلاشت الأصوات غير بعيدة المدىمشى أغلب الناس صامتين إلى مسافة بعيدة، كما لو أنهم يحملون للأمام تابوت ميت محبوب، في كل مكان على الرصيف وقف المتفرجين ينظرون لإستعراض الموكب، يوجد خلاف مهيمن بين هؤلاء المارين وبين هؤلاء الناظرين ، شيء بارد..جليدي، يتعلق بالحرب أو ماشابه ذلك.

- بعد مرور أعوام قليلة على إنقضاء الحرب، قال أنطون كنت في زيارة لعائلة بومر عندما سمعت بأنكم رحلتم بعد التحرير بفترة قصيرة.

- لقد هاجرنا إلى نيوزيلندة.

- هكذا إذن.

- أجل، قالت كارين ثم نظرت إليه، لأنه كان خائفا منك.

- خائفا مني؟ قال أنطون ضاحكا.

- قال بأنه ينوي البدء بحياة جديدة، لكن أعتقد بأنك لم تغب عن باله لحظة واحدة، ولكن يحس لك ألف حساب، منذ اليوم الأول بعد التحرير سوى جميع أعمال مستعدا للرحيل، أنا متأكدة بأنه كان خائفا من اليوم الذي سيأتي وتكبر فيه ثم تنتقم منه.

 

- أسألك الآن ، قال أنطون لم يخطر في ذهني أبدا، بعد مرور أيام على التحرير إتصلت بنا ، حينها سألني أبي عن هوية المتصل ومنذذلك الحين أغلق أبي الباب خائفا من القادم، ولم يعد يشعر بطعم الراحة،بعد مرور أسابيع قليلة غادرنا للإقامة عند عمتي في روتردام،لأن لديها علاقات كثيرة في الميناء من الماضي وتمكنا بعد

 مرور عام من الرحيل بسفينة شحن، ربما كنا من أوائل المهاجرين الهولنديين إلى نيوزيلندة، فجأة نظرت إليه بنظرة غريبة باردة، هناك قالت: حاول الإنتحار في عمر الثامنة والأربعين.

- إرتعب أنطون مما سمعه، ثم داهمه شعور مفاجئ من الإستحسان والرضا كما لو أنه إنتقم بالفعل، منذ ثلاثة وثلاثون عاما تم الإنتقام من قاتل بيتر، ماذا سيقول تيكس بخصوص هذ؟ أيضا بعد مرور ثلاثة أعوام من مقتلهما، سقط رجل ميت.

- لماذا؟ سألها.

- ماذا تقول؟

- لماذا حاول الإنتحار ؟فعلها بالتأكيد تطهيرا لنفسه من الذنوب؟ بالدرجة الأولى ربما بسببك جعل القدر بفعل فعلته.

- في مكان ما يجب أن تتوقف حركة المرور، بسبب الزحام لم يستطيعان  التقدم للأمام..لا؟ قال أنطون.

لم يفكر أحد بذلك، بأن السكان سيتم قتلهم، كل ذلك لم يكن في الحسبان وكان من الصعوبة تجنبه، أصبحت حياتنا إذن قضية مستعجلة عندما وقف بيتر هناك حاملا ذلك المسدس، لكنني لم أفهم بعد، كان الأحري به إشعال النيران بدلا من منزلكم، حسنا ليس جميلا ولكن مفهوما، لقد فلت الأمر من الأيدي، ولم يكن بمقدوره تخيل الأمر أو تبعاته،بالتأكيد لم يكن متعمدا، بأن هناك أشخاص سيقتلون ، أستطيع تخيل الأمر بأنه كان يشعر بنوع من تأنيب الضمير، أو أنه كان خائفا مني، ولكن الإنتحار؟

- رأى كارين تبلع ريقها.

توني ...قالت هي هناك من مزيد ماتود سماعه، ظلت صامتة، يجب أن نتقدم خطوة للأمام ، حينما سمعنا الطلقات رأينا بلوخ صريعا أمام منزلنا، الشيء الوحيد الذي قاله: أو إلهي، السحالي.

- بعيون فاحصة نظر إليها أنطون مجددا، السحالي...هل مثل ذلك الشيء محتمل؟

هاجمته إحدى السحالي؟ هل كانت السحالي في النهاية هي المذنبة؟ تعنين قال هو، بدون تلك السحالي لماحدث ماحدث. أثناء تأملاته إلتقطت كارين شعرة من ذراعه تركتها تسقط في الشارع بواسطة إبهام وإصبع السابة اللذان يحتكا بمواجهة بعضهما البعض.

لم أفهم أبدا، ماذا تعني له ، شيء من السرمدية والأبدية، شيئ من الغموض، بشكل أو بآخر يسكنان في داخله، لاأعرف ماذا أقول، مثل الأطفال الصغار يخفون دائما سرا دفينا، كان يتظر إليها على مدى ساعات طويلية وهو صامتا، كما لو أنها ذاته، شيء يتعلق بموت أمي، أظن ذلك، ولكن تسألني لأنني نفسس لاأعرف حينها ماذا سأقول لك إذا إكتشفت السر، كم عانى بمشقة في حياته أثناء شتاء الجوع، كانوا تقريبا الشيء الأخير الذي أحبه، يبدو بأن المسيرة أصبحت هادئة تماما، بسبب المظاهرات المتفرقة تدريجيا أخذوا يبحثون عن الجماعة الرئيسية القائدة، الطريق التماس أصبح مغلقا أكثر ، وقفا في تلك اللحظة في بقعة خلف لوحة شعارات عريضة، لم تثبت بإحكام، يبدو بأن الرؤية للأمام أصبحت مشلولة تماما.

 

عندذلك حدث كل شيء بسرعة، واصلت كارين حديثها، بيتر مات، وأهلك، ربما تحولوا فجأة بالنسبة إليه مجرد سحالي، مجرد حيوانات ساكنة، في الحال ولدى عودتنا من مركز القيادة قام بالتخلص من جميع الزواحف ، لقد سمعته حينذاك ، كما لو أن مخبولا في الطابق العلوي أصيب بحالة هستيرية بعد ذلك أغلق الباب بالقفل وطلب مني عدم الخروج، بعد مضي أسابيع لاحقة قام بتنظيف أشياء مبعثرة، ثم دفنها في الحديقة ، أصدرت كارين إيماءة غيرمفهومة، ربما كان هذا إحساسا، حيث لم يستطع مواصلة العيش ، ثلاثة قضوا نحبهم بسبب عشقه لزواحف ساكنة، وسوف يقتلها إذا سنحت له الفرصة.

 

كيف يكون ذلك؟ قال أنطون ، لم أفهم شيئا، ولكن أفهم شيئا واحدا وهو كان يعلم بأنني أفهم، لذلك يجب أن أرحل للعالم الآخر مع كل هذا الكم من العنف، على الرغم من أنني لاأستسيغ ذلك، في النهاية لم تعد تهمه تلك السحالي ، أنت كنت تسكن في داخل أعماقه.

 

شعر أنطون كأنه يتقيأ ، كانت تلك الإعترافات بشعة للغاية أكثر من الحقيقة نفسها، نظر لوجه كارين، كان مسار الدموع على خدها أكثر من التي سبقتها ، يجب أن يساندها، لن يراها أبدا بعد تلك اللحظة، يجب أن يعرف شيئا واحدا ، كانت تواصل الحديث ولكن بصعوبة جمة، كان رجلا غير محظوظا، إذا لم يكن مشغولا بالزواحف ، ربما يجلس الآن محدقا بالأطلس...أو الطريق إلى مورمانسيك، قوافل النقل الأمريكية ..كان كبيرا كي يستطيع الهروب إلى بريطانيا.

 

- حتى ..كارين ، قال أنطون، صمتت ثم نظرت إليه، كنتم تجلسون في المنزل ، لقد سمعتم الطلقات ثم رأيتم بلوخ يسقط وذهبتم للخارج كي تحملوه لمسافة بعيدة، أليس كذلك؟

- أجل، أخافني أبي بصياحه ثم إتخذ قراره بأقل من ثانية، إسمعي في لحظة عفا عليها الزمن قمتم بوضعه في مكان ثابت: أبيك بذراعيه وأنت بقدميك.

- هل رأيت ذلك؟

- لاأقصد الفعل نفسه، ولكن أود معرفة شيء واحد فقط، لماذا قمتم بوضعه أمام منزلنا وليس في الزاوية الأخرى عند آرتس؟

- هذا ماكنت أود معرفته، قالت كارين فجأة وهي مثارة، بينما وضعت يدها على ذراع أنطون ، هذا التفسير لاجدال فيه ، كان من المفترض عدم وضعه مباشرة أمام منزلكم، أنت وبيتر ولكن آل آرتيس كانوا إثنين  ولم أعرفهم مطلقا، لقد تقدمت خطوة بإتجاه منزلهم، وعندئذ صاح أبي : لا، ليس هناك...بل هنا حيث يسكن يهود.

- عيسى المسيح صاح أنطون، ثم شد رأسه.

- أجل ، بالطبع لاأفهم ذلك ، ولكن أبي يعرف تماما مافعل،في عام 1943 كاتت تقيم أسرة شابة مع طفل صغير، رأيتهم للمرة الأولى في يوم التحرير، لكن إذا كان أباك قد قرر وضع جثة بلوخ أمام منزلهم، هل  سيرحل هؤلاء الناس ،على أي حال وسوف يشاهدون مافعلناه، لكنهم لم يعلموا كيف حدث ذلك، عائلة آرتيس، حيث الجميع مصاب بنفس العلة، لأنه لم يتدخلوا بأحد ، أنقذوا حياة ثلاثة يهود، وهؤلاء اليهود كانوا منهم، علاوة على ذلك، كان آل كورتفخ أناسا طيبين لذلك ظهرت جثة بلوخ فجأة بالجهة الأخرى من منزلهم، شعر أنطون بأن الدم تجمد في عروقه ،

    - إلى اللقاء كارين، قال أنطون أتمنى لك حظا وفيرا.

- بدون إجابة تركها أنطون فاقدة الأمل بينما إنعطف هو مبتعدا، وأرغم على الدخول بين صفوف الناس، مع الأشرطة الملونة والمنحنيات غير العادية في الطريق كما لو أنه كان واثاق بأنها لن تستطيع العثور عليه مجددا.

 

إستغرق لحظات قبل أن يستعيد توازنه مجددا، لكن ليس بعيدا وصل 'لى حشد من الناس لازال يواصل المسير، مرة أخرى ترك نفسه يتحرك معهم، كما لو أن تلك المئات من الألوف ستقدم له يد المساعدة، ذلك السيل الأبدي من الحياة البشر ، رآه يتحرك للأمام والخلف عبر الجسور والقنوات المائية ، لازالوا يتزايدون، بمجموعات كبيرة، ثم غاصوا بين جنبات الشوارع، فجأة شعر بيد حاضرة، كان ذلك هو بيتر، نظر إليه مبتسما ثم ضحك مجددا، لكنه لاحظ بأن عينيه قد بدأتا تحترقان، تحرك نحوه ثم طبع قبلة على أخمص رأسه بدون أن يتفوه بشيء، ثم بدأ بيتر الحديث أمامه، ولكن ماقاله لم ينتبه إليه أنطون، هل كان الجميع أبرياء أم مذنبين؟

هل الذنب براءة، والبرءة إدانة؟ العديد من الناس تمت تصفيتهم، ضعف هؤلاء الذين يمشون عشرات المرات بل المئات، ولكن بسبب وجودهم في تلك الحياة الشائكة قام هؤلاء الثلاثة بإنقاذ شخصين آخرين وأنقذوا أنفسهم بدون أن يعرفوا وعوضا عن ذلك توفي أباه وأمه وبيتر ، بسبب تدخل الزواحف.

- بيتر؟ قال هو، لكن عندما نظر إليه الفتى، حرك رأسه مبتسما، ثم ضحك مجددا صوب بيتر، في نفس اللحظة فكر بالدمار، بطبيعة الحال الدمار ، عندئذ ذهبا لمكان مرتفع يسمى "فيست كيرك" في طريقهما إلى ميدان دام الشهير وسط أمستردام، تردد الصدى بعيدا خلفهم، يبدو بأنه صراخ كبير ومروع إقترب منهم، إلتف الجميع خائفين من حوله، ماذا حدث؟ من المحتمل أن يكون شيئا مروعا قد حدث في تلك اللحظة، كان واضحا بأنه صراخ خوف، لم ينقطع ثم أخذ بالدنو رويدا..رويدا، عندما وصلا لم يحدث شيء حتى تلك اللحظة، فجأة أخذ الجميع  بصوت غير واضح بالصراخ، بيتر و أنطون  أيضا ،بعد مرور لحظات توقف الصراخ ثم إنتقل للأمام، تجاوزاه وهما يضحكان، أخذ بالتلاشي تدريجيا ثم إنقطع عند منحنى شارع

"راد هاوس" حاول بيتر لاحقا إستكشاف مصدره من الخلف مجددا، ثم إجتيازا الشارع و إختفيا بعيدا، فهم أنطون بأن الضجة إنتشرت في المدينة بأكملها ثم رجعا مرة أخرى إلى ميدان المتحف، يبدو بأن بعض المارة لم يبرح المكان بعد، وسرعان ماصرخا وهما يضحكان بشدة لكن كان فزع الصراخ مثل بحر أثري من البشرية يستخدم من أجل التشكل.

 

تلاشت الصرخات، الأمواج  جذبت الهدوء، أصبحت الشوارع خالية ومجددا ساكنة ، رجل طويل نحيل يمشي مع إبنه وسط مظاهرة، رجل عايش الحرب ، تماما مثل الآخرين، إنخرط مجبرا في المظاهرة، ثم لمع شيء في عينيه، كما لو أنه إكتشف خيالا ضاحكا، ورأسه مائلا قليلا، مثل شخص سمع شيئا من مسافة بعيدة، ثم تركها متوجها للمدينة، إلى نقطة المغادرة، بحركة قصيرة ألقى بشعره الأشيب المسترسل للخلف، يجرجر قدميه متثاقلا كما لو أن غمامة إعترضته ، على الرغم من أنه يرى في العدم.

أمستردام ، يناير-يوليو 1982 . 

  

 

  

     

 

      

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

Make a Free Website with Yola.